باب الحاء - الحسن بن الخطير

الحسن بن الخطير

أبو علي الفارسي المعروف بالظهير، كان فقيهاً لغوياً نحوياً، مات بالقاهرة من الديار المصرية في شهور سنة ثمان وتسعين وخمسمائة. حدثني بجميع ما أورده عنه ههنا من خبره ووفاته، تلميذه الشريف أبو جعفر محمد بن عبد العزيز الإدريسي، الحسني الصعيدي بالقاهرة في سنة إثنتي عشرة وستمائة قال: كا الظهير يكتب على كتبه في فتاويه - الحسن النعماني -، فسألته ع هذه النسبة فقال: أنا نعماني، أنا من ولد النعمان بن المنذر، ومولدي بقرية تعرف بالنعمانية، ومنها ارتحلت إلى شيراز، فتفقهت بها فقيل لي الفارسي، وأنتحل مذهب النعمان وأنتصر له فيما وافق اجتهادي. وكان عالماً بفنون من العلم، كان قارئاً بالعشر والشواذ، عالماً بتفسير القرآن وناسخه ومنسوخه، والفقه والخلاف، والكلام والمنطق، والحساب والهيئة والطب، مبرزاً في اللغة والنحو، والعروض والقوافي، ورواية أشعار العرب وأيامها وأخبار الملوك من العرب والعجم. وكان يحفظ في كل فن من هذه العلوم كتاباً، فكان يحفظ في علم التفسير كتاب لباب التفسير لتاج القراء، وفي الفقه كتاب الوجيز للغزالي، وفي فقه أبي حنيفة كتاب الجامع الصغير لمحمد بن الحسن الشيباني نظم النسفي، وفي الكلام كتاب نهاية الإقدام للشهرستاني، وفي اللغة كتاب الجمهرة لابن دريد، كان يسردها كما يسرد القارئ الفاتحة.

وقال لي: كنت أكتب ألواحاً وأدرسها كما أدرس القرآن، فحفظتها في مدة أربع عشرة سنة، وكان يحفظ في النحو كتاب الإيضاح لأبي علي وعروض الصاحب بن عباد، وكان يحفظ في المننطق أرجوزة أبي علي بن سينا، وكان قيماً بمعرفة قانو الطب له، وكان عارفاً باللغة العبرانية، ويناظر أهلها بها، حتى لقد سمعت بعض رؤساء اليهود يقول له: لو حلفت أن سيدنا كان حبراً من أحبار اليهود لحلفت، فإنه لا يعرف هذه النصوص بالعبرانية إلا من تدرب بهذه اللغة. وكان الغالب عليه علم الأدب، حتى لقد رأيت الشيخ أبا الفتح عثمان بن عيسى النحوي البلطي، وهو شيخ الناس يومئذ بالديار المصرية، يسأله سؤال المستفيد عن حروف من حوشي اللغة، وسأله يوماً بمحضري عما وقع في ألفاظ العرب على مثال شقحطب، فقال: هذا يسمى في كلام العرب المنحوت، ومعناه: أن الكلمة منحوتة من كلمتين، كما ينحت النجار خشبتين، ويجعلهما واحداً فشقحطب منحوت من شق وحطب. فسأله البلطي أن يثبت له ما وقع من هذا المثال ليعول في معرفتها عليه، فأملاها عليه في نحو عشرين ورقة من حفظه، وسماها كتاب تنبيه البارعي على المنحوت من كلام العرب.

قال: ورأيت السعيد أبا القاسم هبة الله بن الرشيد جعفر بن سناء الملك، يسأله عن وجه الامتحان عن كلمات من غريب كلام العرب، وهو يجيب عنها بشواهدها وكان القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني قد وضعه على ذلك.

قال: وحدثني عن نفسه قال: لما دخلت خوزستان لقيت بها المجير البغدادي تلميذ الشهرستاني، وكان مبرزاً في علوم النظر فأحب صاحب خوزستان أن يجمع بيننا للمناظرة في مجلسه، وبلغني ذلك، فأشفقت من الانقطاع لمعرفتي بوفور بضاعة المجير من علم الكلام، وعرفت أن بضاعته من اللغة نزرة، فلما جلسنا للمناظرة والمجلس غاص بالعلماء، فقلت له: نعرض الكلام إذاً أفرأيت الطلة إلى قرينها فارهاً في وبصان، أو الجساد إذا تأشب بأبي المغبث؟ فاحتاج إلى أن يستفسر ما قلت، فشنعت عليه وقلت: انظر إلى المدعي رتبة الإمامة يجهل لغة العرب، التي بها نزل كلام رب العالمين، وجاء حديث سيد المرسلي، والمناظرة: إنما اشتقت من النظير، وليس هذا بنظيري لجهله بأحد العلوم التي يلزم المجتهد القيام بها، وكثر لغط أهل المجسل، وانقسموا فريقين فرقة لي، وفرقة علي، وانفض المجلس على ذلك، وشاع في الناس أني قطعته. وكان الظهير قد أقام بالقدس مدة، فاجتاز به الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف، فرآه عند الصخرة يدرس، فسأل عنه فعرف منزلته من العلم، فأحضره عنده، ورغبه في المصير معه، ليقمع به شهاب الدين أبا الفتح الطوسي لشيء نقمه عليه، فورد معه إلى القاهرة، وأجرى عليه كل شهر ستين دياراً، ومائة رطل خبزاً وخروفاً وشمعة كل يوم، ومال إليه الناس من الجند وغيرهم من العلماء، وصار له سوق قائم، إلى أن قرر العزيز المناظرة بينه وبين الطوسي في غد عيد، وعزم الظهير أن يسلك مع الطوسي وقت المناظرة طريق المجير من المغالطة، لأن الطوسي كان قليل المحفوظ، إلا أنه كان جريئاً مقداماً شديد المعارضة، واتفق أن ركب العزيز يوم العيد، وركب معه الظهير والطوسي، فقال الظهير للعزيز في أثناء الكلام: أنت يا مولانا من أهل الجنة، فوجد الطوسي السبيل فوجد الطوسي السبيل إلى مقتله فقال: وما يدريك أنه من أهل الجنة؟ وكيف تزكي على الله تعالى؟ فقال له الظهير: قد زكى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال: أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة. فقال: أبيت يا مسكين إلا جهلاً، ما تفرق بين التزكية عن الله، والتكية على الله؟ وأنت من أخبرك أن هذا من أهل الجنة؟ ما أنت إلا كما زعموا: أن فأرة وقعت في دن خمر، فشربت فسكرت، فقالت أين القطاط؟ فلاح لها هر، فقالت: لا تؤاخذ السكارى بما يقولو. وأنت شربت من خمر دن نعمة هذا الملك فسكرت فصرت تقول خالياً: أين العلماء؟ فأبلس ولم يجد جواباً وانصرف، وقد انكسرت حرمته عند العزيز، وشاعت هذه الحكاية بين العوام، وصارت تحكى في الأسواق والمحافل. فكان مآل أمره أن انضوى إلى المدرسة التي أنشأها الأمير تركون الأسدي، يدرس بها مذهب أبي حنيفة إلى أن مات. وكان قد أملى كتاباً في تفسير القرآن، وصل منه بعد سنين إلى تفسير قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) في نحو مائتي ورقة، ومات ولم يختم تفسير سورة البقرة. وله: كتاب في شرح الصحيحين على ترتيب الحميدي سماه كتاب الحجة، اختصره من كتاب الإفصاح في تفسير الصحاح للوزير ابن هبيرة، وزاد عليه أشياء وقع اختياره عليها، وكتاب في اختلاف الصحابة والتابعين وفقهاء الأنصار ولم يتم. وله خطب وفصول وعظية مشحونة بغريب اللغة وحوشيها.