باب الحاء - الحسن بن أبي الحسن صافي

الحسن بن أبي الحسن صافي

أبو نزار النحوي، وكان أبوه صافي مولى الحسين الأرموي التاجر، وكان لا يذكر اسم أبيه إلا بكنيته، لئلا يعرف أنه مولى، وهو المعروف بملك النحاة. قال أبو القاسم علي بن عساكر الحافظ: ذكر لي أنه ولد ببغداد سنة تسع وثمانين وأربعمائة، في الجانب الغربي بشارع دار الرقيق، ثم انتقل إلى الجانب الشرقي إلى جوار حرم الخلافة، وهناك قرأ العلم وتخرج. وسمع الحديث من الشريف أبي طالب الرينبي، وقرأ الفقه على أحمد، وأصول الفقه على أبي الفتح بن برهان، والخلاف على أسعد الميهني، والنحو على أبي الحس علي بن أبي زيد الأستراباذي الفصيحي وفتح له الجامع ودرس، ثم سافر إلى بلاد خراسان وكرمان وغزنة، ودخل إلى الشام وقدم دمشق، ثم خرج منها وعاد إليها واستوطنها إلى أن مات بها، في تاسع شوال سنة ثمان وستين وخمسمائة، ودفن بمقبرة الباب الصغير، وكان قد ناهز الثمانين، وكان صحيح الاعتقاد كريم النفس، ذكر لي أسماء مصنفاته: كتاب الحادي في النحو مجلدتان، كتاب العمد في النحو مجلدة وهو كتاب نفيس، كتاب المقتصد في التصريف مجلدة ضخمة، كتاب أسلوب الحق في تعليل القراءات العشر، وشيء من الشواذ مجلدتان، كتاب التذكرة السفرية انتهت إلى أربعمائة كراسة، كتاب العروض مختصر محرر، كتاب في الفقه على مذهب الشافعي سماه الحاكم مجلدتان، كتاب مختصر في أصول الفقه، كتاب مختصر في أصول الدين، كتاب ديوان شعره، كتاب المقامات حذا حذو الحريري. ومن شعره يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:

يا قاصداً يثرب الفيحاء مرتـجـياً

 

أن يستجير بعليا خاتم الـرسـل

خذ عن أخيك مقالاً إن صدعت به

 

مدحت في آخر الأعصار والأول

قل يا من الفخر موقوف عليه فإن

 

تذوكر الفخر لم يصدف ولم يمل

صيت إذا طلبت غاياته خـرقـت

 

سبعاً طباقاً فبذت كـل ذي أمـل

علوت وازددت حتى عاد منتزحاً

 

جبريل عما له قد كان لم يطـل

وعدت والكبر قد نافى علاك فما

 

عدوت شيمة سبط الخلق مبتهـل

أتتك غر قوافي المدح خاضـعة

 

لديك فاقبل ثناء غير منـتـحـل

ثناء من لم يجد وجناء تحـمـلـه

 

إليك أو صد بالإقتار عن جمـل

ومن شعره أيضاً:

حنانيك إن جاءتك يوماً خصائصي

 

وهالك أصناف الكلام المسخـر

فسل منصفاً عن حالتي غير جائر

 

يخبرك أن الفضل للمـتـأخـر

وقال أحمد بن منير يهجو ملك النحاة، وكان قد كتب أبو نزار إلى بعض القضاة العاصوي:

أيا ملك النحو والحـاء مـن

 

تهجيهمن تحت قد أعجموها

أانا قـياسـك هـذا الـذي

 

يعجم أشياء قد أعربـوهـا

ولما تصنعت في العاصوي

 

غدا وجه جهلك فيه وجوها

وقالوا قفا الشيخ إن الملـو

 

ك إذا دخلوا قرية أفسدوها

فبلغت أبياته ملك النحاة فأجابه بأبيات منها:

أيا بن منير حسبت الهـجـا

 

ء رتبة فخر فبالغت فيهـا

جمعت القوافي مـن ذا وذا

 

وأفسدت أشياء قد أصلحوها

وفي آخرها:

فقالوا قفا الشيخ إن الملـو

 

ك إذا أخطأت سوقة أدبوها

قال البلطي: كان ملك النحاة قدم إلى الشام، فهجاه ثلاثة من الشعراء، ابن منير والقيسواني والشريف الواسطي. واستخف به ابن الصوفي ولم يوفه قدر مدحه، فعاد إلى الموصل ومدح جمال الدي وجماعة من رؤسائها وقضاتها. فلما نبت به الموصل، قيل له: لو رجعت إلى الشام، فقال: لا أرجع إلى الشام إلا أن يموت ابن الصوفي، وابن منير، والقيسراني، والشريف الواسطي، فقتل الشريف الواسطي، ومات ابن منير والقيسراني في مدة سنة، ومات الصوفي بعدهم بأشهر. وحدثني شيخنا أبو البقاء. يعيش بن علي ابن يعيش النحوي قال: بلغني أنه كان لملك النحاة غلام وكان سيء العشرة، قليل المبالاة بمولاه ملك النحاة، فأرسله يوماً في شغل ليتعجله في إنجازه، فأبطأ فيه غاية الإبطاء، ثم جاء بعذر غير جميل، وكان يحضر ملك النحاة جماعة من أصدقائه والتلامذة، فغضب ملك النحاة وخرج عن حد الوقار الذي كان يلتزمه ويتوخاه وقال له: ويلك أخبري، ما سبب قلة مبالاتك بي، واطراحك لقبول أوامري؟ أنكتك قط؟ فبادر الغلام وقال: لا والله يا مولاي، معاذ الله أن تفعل ذلك بي، فإنك أجل من ذلك. قال: ويلك، فنكتني قط؟ فحرك الغلام رأسه متعجباً من كلامه وسكت. فقال له: ويلك أدركني بالجواب، هذا موضع السكوت؟ - لا رعاك الله - يا ابن الفاعلة، عجل، قل ما عندك قل، فقال: لا والله. قال: فما السبب في أك لا تقبل قولي، ولا تسرع في حاجتي؟ فقال له إن كان سبب الانبساط لا يكون إلا هذين، فأعدك ألا أعود إلى ما تكره إن شاء الله.

قال العماد: أقام ملك النحاة بالشام في رعاية نور الدين محمود بن زنكي، وكان مطبوعاً متناسب الأحوال والأفعال، يحكم على أهل التميز بحكم ملك فيقيل ولا يستقال، وكان يقول: هل سيبويه إلا من رعيتي؟ ولو عاش ابن جني لم يسع إلا حمل غاشيتي، مر الشكيمة، حلو الشيمة، يضم يده على المائة والمائتين ويمشي وهو منها صفر اليدين، مولع باستعمال الحلاوات السكرية، وإهدائها إلى جيرانه وإخوانه، مغرى بإحساه إلى خلصانه وخلانه. قال العماد: أذكره وقد وصلت إليه خلعة مصرية، وجائزة سنية، فأخرج القميص الدبيقي إلى السوق، فبلغ دو عشرة دنانير، فقال: قولوا: هذا قميص ملك كبير، أهداه إلى ملك كبير، ليعرف الناس قدره، فيحلبوا عليه البدر على البدار، وليجلوا قدره في الأقدار، ثم قال: أنا أحق إذا جهلوا حقه، وتنكبوا فيه سبل الواجب وطرقه.

ومن ظريف ما يحكى عن ملك النحاة: أن نور الدين محموداً خلع عليه خلعة سنية، ونزل ليمضي إلى منزله. فرأى حلقة عظيمة فمال إليها لينظر ما هي؟ فوجد رجلاً قد علم تيساً له استخراج الخبايا وتعريفه ما يقول له من غير إشارة، فلما وقف عليه ملك النحاة، قال الرجل لذلك التيس: في حلقتي رجل عظيم القدر، شائع الذكر ملك في زي سوقة، أعلم الاس، وأكرم الناس، وأجمل الناس، فأرني إياه، فشق ذلك التيس الحلقة، وخرج حتى وضع يده على ملك النحاة، فلم يتمالك ملك النحاة أن خلع تلك الخلعة، ووهبها لصاحب التيس، فبلغ ذلك نور الدين فعاتبه وقال: استخففت بخلعتنا حتى وهبتها من طرقي؟ فقال يا مولانا: عذري في ذلك واضح، لأن في هذه المدينة زيادة على مائة ألف تيس، ما فيهم من عرف قدري إلا هذا التيس، فجازيته على ذلك. فضحك منه نور الدين وسكت.

وحكي عنه أنه كان يستخف بالعلماء، فكان إذا ذكر واحد منهم يقول: كلب من الكلاب. فقال رجل يوماً: فلست إذا ملك النحاة، إنما أنت ملك الكلاب، فاستشاط غضباً وقال: أخرجوا عني هذا الفضولي. وقال السمعاني: دخل أبو نزار بلاد غزنة وكرمان، ولقي الأكابر، وتلقى مورده بالإكرام، ولم يدخل بلاد خراسان وانصرف إلى كرمان، وخرج منها إلى الشام. قال: وقرأت فيما كتبته بواسط، ولا أدري عمن سمعته لأبي نزار النحوي:

أراجع لي عيشي الـفـارط

 

أم هو عني نازح شاحط؟؟

ألا وهل تسعـفـنـي أوبة

 

يسمو بها نجم المنى الهابط؟

أرفل في مرط ارتياح وهل

 

يطرق سمعي هذه واسط؟

يا زمني عد لي فقد رعتني

 

حتى عراني شيبي الواخط

كم أقطع البيداء فـي لـيلة

 

يقبض ظلي خوفها الباسط؟

أأرقب الراحة أم لا وهـل

 

يعدل يوماً دهري القاسط؟؟

أيا ذوي ودي أما اشتقـتـم

 

إلى إمام جـأشـه رابـط؟

وهل عهودي عندكم غـضة

 

أم أنا في ظني إذاً غالـط؟

ليهنكم ما عشـتـم واسـط

 

إني لكم يا سادتي غـابـط

وأنشد له:

الجيش والبرم الكثـير

 

منظوم ذلك والنثـير

ودخان عود الهند والش

 

مع المكفر والعبـير

ورشاش ماء الورد قد

 

عرفت به تلك النحور

ومثالث الـعـيدان يس

 

عد جسهـا بـم وزير

وتخافـق الـنـايات يخ

 

فق بينها الطبل القصير

والشرب بالقدح الصـغ

 

ير يحثه القدح الكبـير

أحظى لدي مـن الأبـا

 

غر والحداة بها تسـير

للعـبـد أ يلـتـذ فـي

 

دنياه والله الـغـفـور

ومن شعره أيضاً:

يا بن الذين ترفعوا في مجدهم

 

وعلت أخامصهم فروع شمام

أنا عالم ملك بكسر الـلام ف

 

يما أدعيه لا بفـتـح الـلام

أنشدني عفيف الدين أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل أحمد بن عبد الوهاب بن الزاكي بن أبي الفوارس، السلمي الحراني المعروف باب الصيفي الدمشقي قال: أنشدني فتيان بن علي بن فتيان الأسدي النحوي في ملك النحاة، وكانت قد عضت يد ملك النحاة سنور فربطها بمنديل عظيم:

عتبت على قط ملك النحـاة

 

وقلت: أتيت بغير الصواب

عضضت يداً خلقت لـلـدى

 

وبث العلوم وضرب الرقاب

فأعرض عني وقـال اتـئد

 

ألي القطاط أعادي الكلاب؟

قال: فبلغته الأبيات فغضب منها، إلا أنه لم يدر من قائلها؟ ثم بلغه أنني قلتها وبلغني ذلك فانقطعت عنه حياء مدة، فكتبت إليه شعراً أعتذر إليه، فكتب إلي:

يا خليلي نلتما الـنـعـمـاء

 

وتسنمتما العـلا والـعـلاء

ألمما بالشاغور والمسجد المعم

 

ور واستمطرا بـه الأنـواء

وامنحا صاحبي الذي كان فيه

 

كل يوم تـحـية وثـنــاء

ثم قولا له اعتبرنا الـذي فـه

 

ت به مادحاً وكان هـجـاء

وقبلنا فيه اعتـذارك عـمـا

 

قاله الجاهلون عنك افتـراء

الشاغور محلة بدمشق بالباب الصغير. وقال فتيان ابن المعلم الدمشقي: رأيت أبا نزار في النوم بعد موته فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: أنشدته قصيدة ما في الجنة مثلها، فتعلق بحفظي منها أبيات وهي:

يا هذه أقصري عن العـذل

 

فليس في الحق ويك من قبل

يا رب ها قد أتيت معترفـاً

 

بما جنتـه يداي مـن زلـل

ملآن كف بـكـل مـأثـمة

 

صفر يد من محاسن العمل

فكيف أخشى ناراً مسـعـرة

 

وأنت يا رب في القيامة لي

قال: فوالله منذ فرغت من إنشادها ما سمعت حسيس الأرض.