باب الحاء - الحسن بن عبد الله بن سعيد

الحسن بن عبد الله بن سعيد

ابن زيد بن حكيم العسكري، أبو أحمد اللغوي العلامة. مولده يوم الخميس لست عشرة ليلة خلت من شوال، سنة ثلاث وتسعين ومائتين، ومات سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة. قال السلفي الحافظ: على ما سمعت أبا عامر غالب بن علي بن غالب الفقيه الأستراباذي بقصر روناش يقول: رأيت بخط أبي حكيم أحمد بن إسماعيل بن فضلان اللغوي العسكري مكتوباً: توفي أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري يوم الجمعة، لسبع خلون من ذي الحجة، سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة.

قال مؤلف الكتاب: وطال تطوافي وكثر تسآلي عن العسكريين، أبي أحمد وأبي هلال، فلم ألق من يخبرني عنهما بجلية خبر، حتى وردت دمشق في سنة اثنتي عشرة وستمائة في جمادى الآخرة، ففاوضت الحافظ تقي الدين إسماعيل بن عبد الله بن عبد المحسن بن الأنماطي، النضاري المصري، - أسعده الله بطاعته فيهما - فذكر لي أن الحافظ أبا طاهر أحمد بن محمد بن أحمد ابن إبراهيم السلفي الأصبهاني لما ورد إلى دمشق، سئل عنهما فأجاب فيهما بجواب لا يقوم به إلا مثله من أئمة العلم، وأولي الفضل والفهم، فسألته أن يفيدني في ذلك ففعل متفضلاً، فكتبته على صورة ما أورده السلفي غير المولد والوفاة، فإنه كان في آخر أخبار أبي أحمد، فقدمته على عادتي. وأخبرني بذلك عن السلفي جماعة: منهم الأسعد محمد بن الحسن بن محمد بن عبد الله العامري المقدسي، والنبيه أبو طاهر إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن الأنصاعري، وغيرهما إجازة: قال أبو طاهر السلفي: دخل إلى الشيخ الأمين أبو محمد هبة الله بن أحمد بن الأكفاني بدمشق، سنة عشرة وخمسمائة، وجرى ذكر أبي أحمد العسكري، فذكرت فيه ما يحتمل الوقت، وبعد خروجه كتبت إليه بعد البسملة: أما بعد حمد الله العي، والصلاة على المصطفى النبي، فقد جرى اليوم ذكر الشيخ المرضي، أبي أحمد العسكري، وأنشدت للصاحب الكافي لله شعراً، خاله سيدي سحراً، ورام - حرس الله نمته، وكبت بالذل عندته - إثباته بتمامه، فاشتغلت به بعد نهوضه وقيامه، وأضفت إليه وإلى ذكر الشيخ أبي أحمد زيادة تعريف ليقف على جلية حاله، كأنه ينظر إليه نم وراء ستر لطيف. فليعلم - أطال الله لكافة الأنام بقاءه، ولا سلبهم ظله وبهاءه -: أن الشيخ أبا أحمد هذا، كان من الأئمة المذكورين بالتصرف في أنواع الفنون، والتبحر في فنو الفهوم، ومن المشهورين بجودة التأليف وحسن التصنيف. ومن جملته: كتاب صناعة الشعر رأيته، كتاب الحكم والأمثال، كتاب راحة الأرواح، كتاب الزواجر والمواعظ، كتاب تصحيح الوجوه والنظائر. وكان قد سمع ببغداد والبصرة وأصبهان وغيرها من شيخته، وفي عدادهم أبو القاسم البغوي، وابن أبي داود السجستاني، وأكثر عنهم وبالغ في الكتابة، وبقي حتى علا به السن، واشتهر في الآفاق بالدراية والإتقان، وانتهت إليه رياسة التحديث، والإملاء للآداب والتدريس، بقطر خوزستان. ورحل الأجلاء إليه للأخذ عنه، والقراءة عليه. وكان يملي بالعسكر، وتستر ومدن ناحيته: ما يختاره من عالي روايته عن متقدمي شيوخه. ومنهم أبو محمد عبدان الأهوازي، وأبو بكر بن دريد، ونفطويه، وأبو جعفر ابن زهير ونظراؤهم. ومن متأخري أصحابه الذين رووا عنه الحديث ومتقدميهم أيضاً فإني ذكرتهم على غير رتبهم كما جاء لا كما يجب: أبو عباد الصائغ التستري، وذو النون بن محمد، والحسين بن أحمد الجهرمي، وابن العطار الشروطي الأصبهاني، وأبو بكر أحمد بن محمد بن جعفر الأصبهاني المعروف باليزدي، وأبو الحسين علي بن أحمد بن الحسن البصري المعروف بالنعيمي الفقيه الحافظ، وأبو علي الحسن بن علي بن إبراهيم المقرئ الأهوازي نزيل دمشق، إلا أنه قد انقلب عليه اسمه فيقول في تصانيفه: أخبرنا أبو أحمد عبد الله بن الحسن بن سعيد النحوي بعسكر مكرم قال: أخبرنا محمد بن جرير الطبري ونميره، وهو الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري لا عبد الله بن الحسن: وقد روى عنه أبو سعد أحمد بن محمد بن عبد الله بن الخليل الماليني، وأبو الحسين محمد ابن الحسن بن أحمد الأهوازي شيخاً أبي بكر الخطيب الحافظ البغدادي، وخلق سواهم لا يحصون كثرة، لم أثبت اسماءهم احترازاً من وهم ما، واحتياطاً لبعد العهد بروايات تلك الديار. والنعيمي والأهوازي روى عنهما الخطيب أيضاً، وكذلك روى عن أبي نعيم الأصفهاني الحافظ. وقد روى أبو نعيم عن أبي أحمد كثيراً.

وممن روى عن أبي أحمد من أقران أبي نعيم: أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الوادعي، وعبد الواحد بن أحمد ابن محمد الباطرقاني، وأبو الحسن أحمد بن محمد بن زنجويه الأصفهانيون، وأبو عبد الله محمد بن منصور بن جيكان التستري، والقاضي أبو الحسن علي بن عمر بن موسى الأيذجي، وأبو سعيد الحسن بن علي بن بحر السقطي التستري.

وروى عنه ممن هو أكبر من هؤلاء سناً وأقدم موتاً: أبو محمد خلف بن محمد بن علي الواسطي، وأبو حاتم محمد بن عبد الواحد الرازي المعروف باللبان، وهما من حفاظ الحديث.

وقد روى عنه الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي بخراسان بالأجازة، وكذلك القاضي أبو بكر بن الباقلاني المتكلم بالعراق، وقد وقع حديثه لي عالياً من طرق عدة. فمن ذلك حكاية رأيتها الآن معي في جزء من تخريجي بخطي وهي: أخبرنا الشيخ أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار ابن أحمد الصيرفي ببغداد، حدثنا الحسن بن علي بن أحمد التستري من لفظه بالبصرة، حدثنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري إملاء بتستر، حدثنا العباس ابن الوليد بن شجاع بأصبهان، حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري حدثنا محمد بن عمرو بن مكرم، حدثني عتبة بن حميد قال: قال بشر بن الحارث لما ماتت أخته: إذا قصر العبد في طاعة ربه سلبه أنيسه. قال أبو أحمد العسكري في كتاب شرح التصحيف من تصنيفه، وقد ذكر ما يشكل ويصحف من أسماء الشعراء فقال: وهذا باب صعب لا يكاد يضبطه إلا كثير الرواية، غزير الدراية.

وقال أبو الحسن علي بن عبدوس الأرجاني - رحمه الله - وكان فاضلاً متقدماً وقد نظر في كتابي هذا، فلما بلغ إلى هذا الباب قال لي: كم عدة أسماء الشعراء الذين ذكرتهم. قلت: مائة ونيف. فقال: إني لأعجب كيف استتب لك هذا؟! فقد كنا ببغداد والعلماء بها متوفرون. وذكر أبا إسحاق الزجاج، وأبا موسى الحامض، وأبا بكر الأنباري، واليزيدي، وغيرهم. فاختلفنا في اسم شاعر واحد وهو حريث بن مخفض، وكتبنا أربع رقاع إلى أربعة من العلماء، فأجاب كل واحد منهم بما يخالف الآخر. فقال بعضهم: مخفض بالخاء والضاد المعجمتين. وقال بعضهم: محفص بالحاء والصاد غير معجمتين، وقال آخر: ابن مخفض. فقلنا: ليس لهذا إلا أبو بكر بن دريد، فقصدناه في منزله وعرفناه ما جرى.

فقال ابن دريد: أين يذهب بكم؟ هذا مشهور، هو حريث بن محفض بالحاء غير معجمة مفتوحة والفاء مشددة والضاد منقوطة، هو من بني تميم، ثم من بني مازن بن عمرو بن تميم وهو القائل:

ألم تر قـومـي إن دعـوا لـمـلـمة

 

أجابوا، وإن أغضب على القوم يغضبوا

هم حفظوا غيبي كما كنت حـافـظـاً

 

لقومي أخرى مثلـهـا إن تـغـيبـوا

بنو الحرب لم تقعد بهم أمـهـاتـهـم

 

وآباؤهم آبـاء صـدق فـأنـجـبـوا

وتمثل الحجاج بهذه الأبيات على منتزه فقال: أنتم يأهل الشاعم كما قال حريث بن محفض - وذكر هذه الأبيات - فقام حريث بن محفض فقال: أنا والله حريث ابن محفض. قال: فما حملك أن سابقتني؟ قال: لم أتمالك إذ تمثل الأمير بشعري حتى أعلمته مكاني. ثم قال أبو الحسن بن عبدوس: فلم يفرج عنا غيره. قال أبو أحمد: واجتمع يوماً في منزلي بالبصرة أبو رياش وأبو الحسين بن لنكك - رحمهما الله - فتقاولا، فكان فيما قال أبو رياش لأبي الحسين: أنت كيف تحكم على الشعر والشعراء وليس تفرق بين الزفيان والرقبان؟ فأجاب أبو الحسين ولم يقنع ذاك أبا رياش، وقاما على شغب وجدال.

قال أبو أحمد: فأما الرقبان بالراء والقاف وتحت الباء نقطة: فشاعر جاهلي قديم يقال له أشعر الرقبان وأما الزفيان بالزاي والفاء وتحت الياء نقطتان: فهو من بني تميم من بني سعد بن زيد مناة بن تميم يعرف بالزفيان السعدي، راجز كثير الشعر، وكان على عهد جعفر بن سليمان، وهو الزفيان بن مالك بن عوافة القائل:

وصاحبي ذات هباب دمشق

 

كأنها بعد الكـلال زورق

قال: وذكر أبو حاتم آخر يقال له الزفيان، وأنه كان مع خالد بن الوليد حين أقبل من البحرين، فقال:

تهدى إذا خوت النجوم صدورها

 

ببنات نعش أو بضوء الفرقـد

فقد أخبرنا به أبو الحسين بن الطيوري ببغداد قال: حدثنا أبو سعيد السقطي بالبصرة قال: أخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد بن إسماعيل بن زيد بن حكيم العسكري إملاء سنة ثمانين وثلاثمائة بتستر، فذكر مجالس من أماليه هي عندي، وقرأت على أبي علي أحمد بن الفضل بن شهريار بأصبها عن السقطي: هذه فوائد عن أبي أحمد وغيره. وأما الأبيات المقصودة فعندي في أجزاء أذربيجان على نسق لا أذكر موضعها، إلا أن فيها قصة معناها: أن الصاحب أبا القاسم إسماعيل بن عباد بن العباس الوزير، كان يتمنى لقاء أبي أحمد العسكري، ويكاتبه على ممر الأوقات، ويستميل قلبه فيعتل عليه بالشيخوخة والكبر، إذ عرف أنه يعرض بالقصد إليه والوفود عليه. فلما يئس منه احتال في جذب السلطان إلى ذلك الصوب وكتب إليه حين قرب من عسكر مكرم كتاباً يتضمن علوماً نظماً ونثراً، ومما ضمنه من المنظوم قوله:

ولما أبيتم أن تزوروا وقلـتـم

 

ضعفنا فما نقوى على الوخدان

أتيناكم من بعد أرض نزوركـم

 

وكم منزل بكر لنـا وعـوان

نسائلكم هل من قرىً لنزيلكم؟

 

بملء جفون لا بملء جـفـان

فلما قرأ أبو أحمد الكتاب، أقعد تلميذاً له فأملى عليه الجواب عن النثر نثراً، وعن النظم نظماً، وبعث به إليه في الحال، وكان في آخر جواب أبياته التي ذكر على الحال: وقد حيل بين العير والنزوان وهو تضمين، إلا أن الصاحب استحسنه ووقع ذلك منه موقعاً عظيماً وقال: لو عرفت أن هذا المصراع يقع في هذه القافية لم أتعرض لها، وكنت قد ذهلت عنه وذهب علي. ثم إن أبا أحمد قصده وقت حلوله بعسكر مكرم بلده ومعه أعيان أصحابه وتلامذته في ساعة لا يمكن الوصول إليه إلا لمثله، وأقبل عليه بالكلية بعد أن أقعده في أرفع موضع من مجلسه، وتفاوضا في مسائل فزادت منزلته عنده، وأخذ أبو أحمد منه بالحظ الأوفر، وأدر على المتصلين به إدراراً كانوا يأخذونه إلى أن توفي. - وبعد وفاته أيضاً فيما أظن -، ولما نعي إليه أنشد فيه:

قالوا مضى الشيخ أبو أحمـد

 

وقد رثوه بضروب النـدب

فقلت: ما من فقد شيخ مضى

 

لكنه فقـد فـنـون الأدب

ثم ذكر السلفي وفاته كما تقدم، هذا آخر ما ذكره من خبر أبي أحمد، هذا كله من كتاب السلفي، ثم وجدت ما أنبأني به أبو الفرج بن الجوزي عن ابن ناصر ع أبي زكريا التبريزي، وعن أبي عبد الله بن الحسن الحلواني، عن أبي الحسن علي بن المظفر البندنيجي قال: كنت أقرأ بالبصرة على الشيوخ، فلما دخلت سنة تسع وسبعين وثلاثمائة إلى الأهواز، بلغني حال أبي أحمد العسكري، فقصدته وقرأت عليه، فوصل فخر الدولة والصاحب بن عباد، فبينا نحن جلوس نقرأ عليه وصل إليه ركابي ومعه رقعة ففضها وقرأها وكتب على ظهرها جوابها، فقلت أيها الشيخ: ما هذه الرقعة؟ فقال: رقعة الصاحب كتب إلي:

ولما أبيتم أن تزوروا وقلـتـم

 

ضعفنا فما نقوى على الوخدان

الأبيات الثلاثة المتقدمة. قلت: فما كتبت إليه في الجواب؟ قال قلت:

أروم نهوضاً ثم يثني عزيمتي

 

تعوذ أعضائي من الرجفـان

فضمنت بيت ابن الشريد كأنما

 

تعمد تشبيهي به وعنـانـي

أهم بأمر الحزم لو أستطيعه

 

وقد حيل بين العير والنزوان

قال: ثم نهض وقال: لابد من الحمل على النفس، فإن الصاحب لا يقنعه هذا، وركب بغلة وقصده، فلم يتمكن من الوصول إلى الصاحب لاستيلاء الحشم، فصعد تلعة ورفع صوته بقول أبي تمام.

مالي أرى القبة الفيحاء مـقـفـلة

 

دوني وقد طال ما استفتحت مقفلها

كأنها جنة الفـردوس مـعـرضة

 

وليس لي عمل زاك فأدخـلـهـا

قال: فناداه الصاحب: ادخلها يا أبا أحمد فلك السابقة الأولى، فتبادر إليه أصحابه فحملوه حتى جلس بين يديه، فسأله عن مسألة فقال أبو أحمد: الخبير صادفت، فقال الصاحب يا أبا أحمد: تغرب في كل شيء حتى في المثل السائر؟ فقال: تفاءلت عن السقوط بحضرة مولانا وإنما كلام العرب سقطت، ووجدت بعد ذلك أنه توفي في سنة سبع وثمانين وثلاثمائة.

وحدث ابن نصر قال: حدثني أبو أحمد العسكري بالبصرة، قال: كان أبو جعفر المجوسي عامل البصرة رجلاً واسع النفس، وكان يتعاهد الشعراء ويراعيهم، مثل العصفري والنهرجوري وغيرهم وهم يهجونه، وكان هذا - وهذان خصوصاً - من أوضاعهم، وقد رأيت النهرجوري قال: فلما مات أبو الفرج رثاه النهرجوري بقوله:

يا ليت شعري وليت ربـمـا

 

صحت فكانت لنا من العبـر

هل أرين شوثـنـاً وأمـتـه

 

رابكة حوله على الـبـقـر

يقدمهم أربعون لـبـسـهـم

 

مع حلية الحرب حلة النمـر

وأنت فيهم قد ابتـرزت لـنـا

 

كالشمس في نروها أو القمر

قد نكحوا الأمهات واتكـلـوا

 

على عقيق الأبوال في الطهر

وشارفوا والنساء قـد ولـدت

 

غسل مضاريطها من الوضر

وأصبحوا أشبه البرية بـالـظ

 

ظرف وأولى بكل مفتـخـر

شوثن عند المجوس، يجري مجرى المهدي، ويزعمون أنه يخرج وقدامه أربعون نفساً، على كل منهم جلد النمر، فيعيدون دين النور. قال: فقلت يا أبا أحمد، هذه بالهجاء أشبه منها بالمرثية بكثير. قال: هكذا قصد النهرجوري - لا بارك الله فيه - وقد عاتبته وقلت له: ما استحق أبو جعفر هذا منك. فقال: ما تعديت مذهبه الذي يعترف به.

ووجدت في تاريخ أصفهان من تأليف الحافظ أبي نعيم قال: الحسن بن عبد الله بن سعيد بن الحسين، ابو أحمد العسكري الأديب أخو أبي علي قدم أصبهان قديماً، وسمع من الفضل بن الخصيب وسمع عنه أبي وابن زهير وغيرهما، تأخر موته توفي في صفر سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة.