باب الحاء - الحسن بن علي بن إبراهيم بن الزبير

الحسن بن علي بن إبراهيم بن الزبير

أبو محمدٍ المصري، أخو الرشيد أحمد بن عليٍ وقد تقدم ذكره، وكان من أهل أسوان من غسان، وكان الحسن هذا يلقب القاضي المهذب. مات في ربيعٍ الآخر سنة إحدى وستين وخمسمائةٍ بمصر، وكان كاتباً مليح الحظ فصيحاً جيد العبارة، وكان أشعر من أخيه الرشيد، وكان قد اختص بالصالح بن رزيك وزير المصريين، وقيل: إن أكثر الشعر الذي في ديوان الصالح إنما هو عمل المهذب بن الزبير، وحصل له من الصالح مال جم، ولم ينفق عنده أحد مثله وكان القاضي عبد العزيز بن الحباب المعروف بالجليس هو الذي قرظه عند الصالح حتى قدمه، فلما مات الجليس شمت به ابن الزبير ولبس في جنازته ثياباً مذهبةً، فنقص بهذا السبب واستقبحوا فعله، ولم يعش بعد الجليس إلا شهر واحداً. وصنف المهذب كتاب الأنساب، وهو كتاب كبير أكثر من عشرين مجلداً، كل مجلد عشرون كراساً، رأيت بعضه فوجدته مع تحققي هذا العلم وبحثي عن كتبه غايةً في معناه لا مزيد عليه، يدل على جودة قريحة مؤلفه، وكثرة اطلاعه، إلا أنه حذا فيه حذو أحمد بن يحيى بن جابرٍ البلاذري، وأوجز في بعض أخباره عن البلاذري، إلا أنه إذا ذكر رجلاً ممن يقتضي الكتاب ذكره، لا يتركه حتى يعرفه بجهده من إيرادشيءٍ من شعره وخبره. وكان المهذب قد مضى إلى بلاد اليمن في رسالةٍ من بعض ملوك مصر، واجتهد هناك في تحصيل كتب النسب، وجمع منها ما لم يجتمع عند أحدٍ، حتى صح له تأليف هذا الكتاب.

وكان أخوه الرشيد لما مضى إلى اليمن وادعى الخلافة كما ذكرناه في ترجمته نمي خبره إلى المعروف بالداعي، فقبض عليه قبضاً لا نعلم كيفيته وهم بقتله، فكتب المهذب هذا إلى الداعي بقصيدته المشهورة يمدحه ويستعطفه حتى أطلقه. والقصيدة:

يا ربع أين ترى الأحـبة يمـمـوا

 

هل أنجدوا من بعدنا أم اتهـمـوا؟

رحلوا وقد لاح الصبـاح وإنـمـا

 

يسري إذا جن الظـلام الأنـجـم

وتعوضت بالأنس روحـي وحـشةً

 

لا أوحش الله الـنـازل مـنـهـم

لولاهم ما قـمـت بـين ديارهـم

 

حيران أستـاف الـديار وألـثـم

أمنـازل الأحـبـاب أين هـم وأي

 

ن الصبر من بعد التفرق عنهـم؟

يا ساكني البلد الـحـرام وإنـمـا

 

في الصدر مع شحط المزار سكنتم

يا ليتني في الـنـازلـين عـشـيةً

 

بمنىً وقد جمع الرفاق المـوسـم

فأفوز إن غفل الرقيب بـنـظـرةٍ

 

منكم إذ لبى الحجـيج وأحـرمـوا

لإني لأذكركـم إذا مـا أشـرقـت

 

شمس الضحى من نحوكم فأسلـم

لا تبعثوا لي في النـسـيم تـحـيةً

 

إني أغار من النسـيم عـلـيكـم

إني امرؤ قد بعت حظـي راضـياً

 

من هذه الدنيا بحظـي مـنـكـم

فسلوت إلا عنكـم وقـنـعـت إل

 

ا منـكـم وزهـدت إلا فـيكـم

ورأيت كل العالـمـين بـمـقـلةٍ

 

لو ينظر الحساد ما نظرت عمـوا

ما كان بعد أخي الذي فـارقـتـه

 

ليبوح إلا بالـشـكـاية لـي فـم

هو ذاك لم يملـك عـلاه مـالـك

 

كلا ولا وجـدي عـلـيه مـتـيم

أقوت مغانـيه وعـطـل ربـعـه

 

ولربما هجر العرين الـضـيغـم

ورمت به الأهوال هـمة مـاجـدٍ

 

كالسيف يمضي عزمه ويصـمـم

يا راحلاً بالمجد عـنـا والـعـلا

 

أترى يمون لكم إلـينـا مـقـدم؟

يفديك قوم كنت واسط عـقـدهـم

 

ما إن لهم مذ غبت شمل ينـظـم

لك في رقابهم وإن هـم أنـكـروا

 

منن كأطواق الحـمـام وأنـعـم

جهلوا فظنوا أن بعـدك مـغـنـم

 

لما رحلت وإنمـا هـو مـغـرم

فلقد أقر الـعـين أن عـداك قـد

 

هلكوا ببغيهـم وأنـت مـسـلـم

لم يعصم الله ابن معصـومٍ مـن ال

 

آفات واخترم الـلـعـين الأخـرم

واعتضت بعدهم بأكرم مـعـشـرٍ

 

بدؤوا لك الفعل الجميل وتمـمـوا

فلعمر مجدك إن كرمت علـيهـم

 

إن الكريم على الكـرام مـكـرم

أقيال بأسٍ خير من حملوا الـقـنـا

 

وملوك قحطان الـذين هـم هـم

متواضعون ولـو تـرى نـاديهـم

 

ما اسطعت من إجلالهم تتـكـلـم

وكفاهم شرفاً ومجـداً أنـهـم

 

قد أصبح الداعي المتوج منهم

هو بدر تمٍ في سماء عـلاهـم

 

وبنو أبيه بنـو رويعٍ أنـجـم

ملك حماه جـنة لـعـفـاتـه

 

لكنه للحـاسـدين جـهـنـم

أثني عليك بما مننت وأنت مـن

 

أوصاف مجدك يا مليكاً أعظم

فاغفر لي التقصير فيه وعـده

 

مع ما تجود به علي وتنـعـم

مع أنني سيرت فـيك شـوارداً

 

كالدر بل أبهى لدى من يفهـم

تغدو وهوج الـذاريات رواكـد

 

وتبيت تسري والكواكب نـوم

وإذا المآثر عددت في مشـهـدٍ

 

فبذكرها يبدا المقال ويخـتـم

وإذ تلا الراوون محكـم آيهـا

 

صلى عليك السامعون وسلموا

وكفى برأي إمام عصرك ناقضاً

 

ما أحكم الأعداء فيك وأبرمـوا

وأنشدني أبو طاهرٍ إسماعيل بن عبد الرحمن الأنصاري المصري بمصر في سنة اثنتي عشرة وستمائةٍ، قال: أنشدني أبو محمدٍ الحسن بن علي بن الزبير مطلع قصيدةٍ:

أعلمت حين تجـاور الـحـيان

 

أن القلوب مـواقـد الـنـيران

وعلمت أن صدورنا قد أصبحت

 

في القوم وهي مرابض الغزلان

وعيوننا عوض العيون أمـدهـا

 

ما غادروا فيها من الـغـدران

ما الوجد هز قناتهم بل هـزهـا

 

قلبي لما فيه من الـخـفـقـان

وتراه يكره أن يرى أظعانـهـم

 

فكأنما أصبحت في الأظـعـان

وكان لما جرى لأخيه الرشيد ما جرى من اتصاله بالملك صلاح الدين يوسف بن أيوب عند كونه محاصراً للإسكندرية كما ذكرنا في بابه، قبض شاور على المهذب وحبسه، فكتب إلى شاور شعراً كثيراً ليستعطفه فلم ينجع حتى التجأ إلى ولده الكامل أبي الفوارس شجاع بن شاورٍ مدحه بأشعارٍ كثيرةٍ وهو في الحبس حتى قام بأمره واستخرجه من حبسه، وضمه إليه واصطنعه فمن ذلك قوله من قصيدة:

أيا صاحبي سجن الخزانة خـلـيا

 

نسيم الصبا يرسل إلى كبدي نفحا

فإن تحبساني في النجوم تجـبـراً

 

فلن تحبس مني له الشكر والمدحا

وكتب إليه:

وما كنت أخشى قبل سجنكما على

 

دموعي أن يقطرن خوف المقاطر

وما لي من أشكو إلـيه أذاكـمـا

 

سوى ملك الدنيا شجاع بن شـاور

ومما قاله فيه وهو لعمري من رائق الشعر وجيده:

إذا أحرقت في القلب موضع سكناها

 

فمن ذا الذي من بعد يكرم مثواها؟

وإن نزفت ماء العيون بهـجـرهـا

 

فمن أي عينٍ تأمل العيس سقياهـا؟

وما الدمـع يوم الـبـين إلا لآلـئ

 

على الرسم في رسم الديار نثرناها

وما أطلع الزهر الربـيع وإنـمـا

 

رأى الدمع أجياد الغصون فحلاهـا

ولما أبان البـين سـر صـدورنـا

 

وأمكن فيها العين النجل مرمـاهـا

عددنا دموع العين لمـا تـحـدرت

 

دروعاً من الصبر الجميل نزعناها

ولما وقفنا لـلـوداع وتـرجـمـت

 

لعيني عما في الضمائر عينـاهـا

بدت صورة في هيكلٍ فلـو أنـنـا

 

ندين بأديان النصارى عبـدنـاهـا

وما طرباً صغنا القـريض وإنـمـا

 

جلا اليوم مرآة القـرائح مـرآهـا

وليالي كانت في ظلام شبـيبـتـي

 

سراي وفي ليل الذوائب مسراهـا

تأرج أرواح الصبا كلـمـا سـرى

 

بأنفاس ريا آخـر الـلـيل رياهـا

ومهما أدرنا الكأس باتت جفـونـه

 

من الراح تسقينا الذي قد سقيناهـا

ومنها:

ولو لم يجد يوم الندى في يمينـه

 

لسائله غير الشبيبة أعـطـهـا

فيا ملك الدنيا وسائس أهـلـهـا

 

سياسة من قاس الأمور وقاساها

ومن كلف الأيام ضد طباعـهـا

 

فعاين أهوال الخطوب فعاناهـا

عسى نظرة تجلو بقلبي وناظري

 

صداه فإني دائماً أتـصـداهـا

وحدثني الشريف أبو جعفر محمد بن عبد العزيز الإدريسي أن السبب في حبسه كان: أنه كاتب شيركوه الملقب بأسد الدين وهو نازل على بلبيس بعساكره في محاربة شاور، فلما رحل أسد الدين عن بلبيس، ومن شعره:

يجور على العشاق والعدل دأبه

 

ويقطعني ظلماً وصنعته الوصل

ومن شعره أيضاً:

ولئن ترقرق دمعه يوم النـوى

 

في الطرف منه وما تناثر عقده

فالسيف أقطع ما يكون إذا غـدا

 

متحيراً في صفحتيه فـرنـده

ومنه أيضاً:

لقد طال هذا الليل بعد فراقـه

 

وعهدي به قبل الفراق قصير

فكيف أرجي الصبح بعدهم وقد

 

تولت شموس بعدهم وبـدور

ومنه أيضاً:

يعنفني من لو تحقق ما الهـوى

 

لكان إلى من قد هويت رسولي

بنفسي بدر لـو رآه عـواذلـي

 

على الحب فيه فاد كل عـذول

ومنه أيضاً:

أقصر فديتك عن لومي وعن عذلـي

 

أو لا فخذ لي أماناً من ظبا المقـل

من كل طرفٍ مريض الجفن ينشدني

 

يا رب رامٍ بنجدٍ من بنـي ثـعـل

إن كان فيه لنا وهو السقـيم شـفـا

 

فربما صحت الأحسام بـالـعـلـل

وقال يرثي صديقاً له وقد وقع المطر يوم موته:

بنفسي من أبكى السموات فقده

 

بغيثٍ ظننـاه نـوال يمـينـه

فما استعبرت إلا أسىً وتأسفـاً

 

وإلا فماذا القطر في غير حينه

وله أيضاً:

لا ترج ذا نقصٍ ولو أصبحت

 

من دونه في الرتبة الشمس

كيوان أعلى كوكبٍ موضعـاً

 

وهو إذا أنصفتـه نـحـس

وله أيضاً:

فدع التمدحبالقديم فكم عـفـا

 

في هذه الآكام قـصـردائر

لإيوان كسرى اليوم عند خرابه

 

خير لعمرك منه قصر عامر