باب الحاء - الحسن بن علي بن أبي مسلم

الحسن بن علي بن أبي مسلم

المعمر بن عبد الملك بن ناهوج الإسكافي الأصل، البغدادي المولد والدار، أبو البدر بن أبي منصورٍ، من أهل باب الأزج، أحد الكتاب المتصرفين في خدمة الديوان الإمامي هو وأبوه، وكان فيه فضل وأدب بارع، وعربية وتصرف في فنونها، ويكتب خطاً على طريقة أبي علي بن مقلة قل نظيره فيه، وله خصائص، ولقي المشايخ، وصنف عدة تصانيف في الأدب حسنةً، وتنقل في الولايات إلى أن رتب مشرفاً بالديوان العزيز في سادس شهر رمضان سنة ستٍ وثمانين وخمسمائةٍ، فكان على ذلك إلى أن عزل في سابع ذي الحجة سنة ثمانٍ وثمانين وخمسمائةٍ، وكان صحب أبا محمد بن الخشاب النحوي وقرأ عليه وبحث معه، وعلق عنه تعاليق وقفت على بعضها فوجدتها منبئةً عن يدٍ باسطةٍ في هذا الفن من العلم، ورأيت بخطه في حلب تعاليق وكتباً واختيارات ونظماً ونثراً تدل على قريحةٍ سالمةٍ، ونفسٍ عالمةٍ، تقلل النظير، وتؤذن بالعلم الغزير. ومما بلغني من شعره:

وعلى الكثيب مخمر من تيهـه

 

كالبدر من حسنٍ وليس بـآفـل

حجبوه بالبيض الفواصل ما دروا

 

من حسنه وسيوفهم كالقاصـل

رشأ كأن لحاظـه مـطـرورة

 

قذفت بها غرضاً حنية نـابـل

وكأن سحر بلاغةٍ في لفـظـه

 

أخذ يعقدها نـوافـث بـابـل

وكان خرج من بغداد حاجاً سنة تسعٍ وثمانين وخمسمائةٍ أو نحوها فجاور بمكة، ثم صار منها إلى الشام وأقام بحلب مدةً، ثم انتقل إلى مصر فسكنها إلى أن مات بها في ثامن عشر رمضان سنة ستٍ وتسعين وخمسمائةٍ، عن سبعٍ وستين سنةً، ودفن بالقرافة، وحدث بذلك ابنه أبو منصورٍ علي. وقرأت بخط ابن أبي سالمٍ الذي لا أرتاب به ما صورته: نسخة كتابٍ كتبته إلى القاضي الفاضل عند قدومي من الحجاز إلى مصر في جمادى الآخرة، سنة اثنتين وتسعين وخمسمائةٍ: لو كانت المودات - أطال الله بقاء المجلس السامي - في نعمةٍ خصيبة المرتع، وعيشةٍ عذبة المنبع - وأدام علاه في سعادةٍ لا تتطرق إلى صافي بردها السابغ حوادث الأقدار - و لا يتطرق صافي وردها السائغ بحوادث الأكدار، وحرسمواهبه لديه ما لزم السكون أول المشددين، ولا زالت ثاويةً بجنابه حتى يلتقي المخففان من كلمتن، ولا فتئت منح التوفيق مصاحبةً له ما اشتبه الذاتي بالعرض اللازم، وذم المفرط في أمره وأحمد الحازم، لا تقرع أبوابها، ولا تتدرع زينة لبوسها وأثوابها إلا عن معرفةٍ في المشاهد سابقةٍ، أو ماتةٍ قائدةٍ، أو ذريعةٍ سائقةٍ والتعاضد والتضافر سابق للصفة، وإنما للنفوس سرائر أهواءٍ تحن إلى التداني إن تباعدت الشعوب وتنازحت الديار، كما لتباينها أسباب تتنافر من أجلها وإن تقاربت الأنساب، وتنازحت المقار، والفضائل الفاضلية القريرة، والمناقب الشهيرة التي قد سار ذكرها في الآفاق سير القمر، وعطلت مزيتها مروي السير، وتليت محاسنها كما تتلى السور، وصار الفوز بمناسمة رياها من أفضل ما أسفر عنه سفر، ولو عاينها الصدر الأول لمدح في دراستها السهر، وما جدب السمر، فلا غرو أن تحن النفوس إلى محل كمالها، ومأوى تضافر أضدادها التي انفرد بجمالها ومثوى مواهبها التي هبطت إليه من المحل الأرفع لما سمي لها وسما لها، ومن هو أمينها المصدق لظنونها، ويمينها إذا كان غيره يمينها وشمالها، وقد زادها إفراط حسن التبيان، فلله در ذلك البيان، فلكم استفادت حجته إلى أمر الله من اطوائف والفرق، وكم قص كتابه من كتائب الضلال وفرق.

ثم ذكر وصف بلاغته بما أطال فيه، ووصف البحر ركبه حتى خلص إلى مصر، ثم قال: وقد أرسل هذه الخدمة مستخرجة للإذن في الحضور والتشرف بميمون اللقاء، وإن زاحم به أوقات الطاعات ومواقيت الأذكار. وشغل على اختصاره عن شيء من المهام والأوطار. وللمتوكل لنفسه أن يدعي أن في ذلك ضرباً من ضروب البر، فإنه قد أصبح ولله الحمد في هذا الطرف لقاطنيه وطارقيته كالأب البر. والمنشود من الأريحية الكريمة إكرام مثوى خدمته، وتلقيها بما يزيل عنها انقباض الغريب ووحشته، وحيرة القادم ودهشته، فعنده حياء طبيعي لعلةٍ متجاوزةٍ للقدر المحمود غذيت به طفلاً،فإن رمت غيره عصاني وأعرتني به ألفة المهد. وكتب إليه بعد الحضور عنده رقعةً منها: وحضر الشيخ النفيس وصحبته ما قابل كريم الاهتمام الذي صدر عنه من الأدعية والأثنية بما لا يزال يواليه ويرفعه ويهديه، ولق أخجله أن يرى نفسه في صورة مثقلٍ، أو يرى بعين غير موحدٍ في دين هواه متنقلٍ. ومقترحه أن يخص من حسن الرأي العالي بشعار يبهج ولا ينهج، ويشرع له سبيلاً في الفخر وينهج، وأن يشير بأسطرٍ بالخط الكريم يفوق المال، ويبقى الجمال، فأبقى السمات ما خطته يمينه، وأثبت الصفات ما دل عليه تزيينه، وأزكى الشهادات ما تطوع به كرمه، وأعطر رياض الحمد ما أنبتته ديمه. وقد حصل الخادم بين نزاع يحضه على حضور الخدمة وينشطه، وخوف إبرامٍ يقبضه ويثبطه. وقد ترجم عن حاله هذه بأبيات الشاعر أبي عبد الله وهي:

حالة قد حصلت للخوف منـهـا

 

حول دار الأستاذ في عـشـواء

لإن تأخرت أو تقدمـت فـيهـا

 

ساء ظني في الموضعين برائي

لست أدري من الضـلال أقـدا

 

مي خير في ذاك أم من ورائي؟

أوثر الخدمة التي تؤثر اسـمـي

 

عندكم فـي جـريدة الأولـياء

ثم أخشـى أنـي أعـد إذاجـئ

 

ت من المبرمين والـثـقـلاء

قد تحيرت فاجعلوا أنتم اسـمـي

 

حيث شئتم من هذه الأسـمـاء

ومن خطه: ومن عبث الخاطر وهوسه أبيات تشوفت فيها الحجاز بعد مجاورتي بالحم الشريف بمكة - قدسها الله - سنة اثنتين أو ثلاثٍ وسبعين وهي:

خليلي هل يشفي من الوجـد وقـفة

 

بخيف منىً والسامرون هـجـوع؟

وهل للييلات المـحـصـب عـودة

 

وعيشٍ مضى بالمأزمـين رجـوع؟

وهل سرحة بالسفح من أيمن الصفـا

 

رعت من عهودي ما أضاع مضيع؟

وهل قوضت خيم على أبرق الحما

 

وما ذاك من غدر الزمان بـديع؟

وهل تردن ماءً بشعب ابن عامـرٍ

 

حوائم لو يقضى لهـن شـروع؟

وما ذاك إلا عارض من طمـاعةٍ

 

له بقلوب العـاشـقـين ولـوع

وإني متى أعص التجلد والأسـى

 

فللشوق مني والغـرام مـطـيع

فيا جيرتي إذ للزمـان نـضـارة

 

وعودي نضار والخيام جـمـيع

بنعمـان والأيام فـينـا حـمـيدة

 

ووادي الهوى للنازلـين مـريع

وما أزمع الحي اليمـانـون نـيةً

 

ولا ريع بالبين المشـت مـروع

كفى حزناً أني أبـيت وبـينـنـا

 

من البيد معدو الفـجـاج وسـيع

أعالج نفساً قد تولى بهـا الأسـى

 

وطرفاً يجف المزن وهو هموع

ومن خطه أيضاً بيتان صدرت بهما كتاباً في هذه الرقعة إلى بعض الخوان بمكة - حرسها الله تعالى -:

ألا قل لجيران الصفا ليت داعي الت

 

فرق أعـمـي يوم راح مـنـاديا

لعمري لقد ودعـت يوم وداعـكـم

 

بشعب المنقى شعبةً مـن فـؤاديا

ومن خطه رسالة كتبها إلى الفاضل أيضاً يسأله شيئاً من رسائله، قال في آخرها: فصار العوارف التي اقتصر في ذكرها على الإيماء وقوفاً مع محتد سيدنا - أطال الله بقاءه - مبسوط اليد في عباد الله بالفرض، مقرضاً له عناء همه فيهم أحسن القرض، منجزاً لهم ما وعد. " وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " عند الخادم. ومثله كالبيت من القريض قبل القافية، والمريض الذي مطلته الأيام بالعافية، فلا يكمل ذاك ولا يتطرب به المشوق، ولا يترنم به الكئيب، ولا يتسلى به الغريب دون تمامه، وتكافؤ أجزاء نظامه، وعبقه بمسك ختامه، ولا يحس هذا بلذةٍ على الحقيقة - وإن شرفت - حتى يجد روحه روح الشفاء فيدرك مزيتها بطرق الصحة، ومروءتها بحلسة سمعها، وتساعفه الأقدار بتكميلها لك وجمعها.

وما أسفي إلا عليها فإنـنـي

 

بقرطاسها لا بالدنانير أكلف

فجد لي بما أهواه منها فإنني

 

سألحف في استيهابها وأكلف

وما هذه الأهواء إلا غـرائز

 

قبيح لدى نقادها المتكـلـف

وإن كان الخادم عن حال من شرف بهذا من أفناء الناس، ولم يكمل بعدته الإستئناس، فليس له أن يكون معترضاً، ولا أن يتلقى ذلك بغير التسليم والرضا، فإن الخدمة السامية هي التي تبين لديها الأقدار، وبأفعالها تترتب المنازل وتتفات الأخطار.
وكنت عند كوني بمرو عرض علي شيخنا فخر الدين أبو المظفر عبد الرحيم بن تاج الإسلام أبي سعدٍ السمعاني - تغمده الله برحمته - جزءاً يشتمل على رسائل للحسن القطان إلى الرشيد الوطواط محشوة بالسب له والثلب تصريحاً لا تعريضاً، ويلزمه الحجة في أنه نهب كتبه وسلبه نتيجة عمره، ويستحسب الله عليه. وضاق نطاق الزمان من تحصيلها وكتبها، وقلت:

وكم منيةٍ خلفت خلـفـي وبـغـية

 

ومن حاج نفسٍ حال من دونها الترك

إذا ذكرتها تانفس حنـت وأرزمـت

 

وودت لفرط الوجد أدركها الفـتـك

سلام على تلـك الـديار وقـدسـت

 

نفوس بمثواها ثوى العلم والنـسـك

وبقيت نفسي إليها متطلعةٍ، وإلى مكنونها متلفتةً، فظفرت برسائل الرشيد محمد بن محمد بن عبد الجليل العمري البلخي المعروف بالوطواط، متضمنة لأجوبة يدل آخرها على إضراب القطان عن تهمته، والإذعان بإبراء ساحته: نسخة الرسالة الأولى: "بسم الله الرحمن الرحيم" قرع سمعي من أفواه الواردين وألسنة الطارئين على خوارزم أن سيدنا - أدام الله فضله - كلما تفرغ من مهمات نفسه، ووظائف درسه أقبل بمجامعه على أكل لحمي، والإطناب في سبي وشتمي، وينسبني إلى الإغارة على كتبه، ويبالغ في هتك أستار الكرم وحجبه. أهذا يليق بالفضل والمروءة؟ أو يجمل بالكرم والفتوة أن يفتري على أخيه الميلم بمثل هذا الكذب المقلق، والبهتان المؤلم، والله إذا نفخ في الصور يوم النشور، وبعثت هذه الرمم البالية، من الأجداث متدرعةٍ ملابس الحياة الثانية، وجمعت عباد الله في مواقف العرصات، وتطايرت صحائف الأعمال إلى أربابها، وسئلت كل نفسٍ عما كسبت، فمن مسيءٍ يسحب على وجهه إلى النار، ومن محسن يحمل على أعطاف الملائكة إلى الجنة، لم يتعلق في ذلك المقام الهائل أحد بذيلي طالباً مني ملكاً غصبته، ولا مالاً نهبته، أو دماً سفكته، أو ستراً هتكته، أو شخصاً قتلته، أو حقاً أبطلته، وهاأنذا قد آتاني الله من الوجه الحلال قريباً من ألف مجلدٍ من الكتب النفيسة، والدفاتر الفائقة، والنسخ الشريفة، ووقفت كلها على خزائن الكتب المبنة في بلاد الإسلام - عمرها الله - لينتفع المسلمون بها، ومن كانت عقيدته هكذا كيف يستجيز من نفسه أن يغير على كتب إمامٍ من شيوخ العلم، أنفق جميع عمره حتى حصل أوراقاً يسيرة، لو بيعت في الأسواق لما أحضر بثمنها مائدة لئيمٍ، الله الله، لا يفترين سيدنا - أدام الله فضله -، فافتراء الكذب على مثلي ذنب يتعثر في أذياله يوم القيامة، وليخافن الله الذي لا إله إلا هو، وليتذكرن يوماً يثاب الصادق فيه على صدقه، ويعاقب الكاذب على كذبه، والسلام. فورد على الرشيد جواب عن هذه الرسالة يكون في نحو كراستين يغلظ له في القول، ويصرح فيه بالسب والتهمة، فكتب الرشيد: "بسم الله الرحمن الرحيم" ورد كتاب سيدنا - أطال الله بقاءه في دولة مفترة المباسم، ونعمةٍ متجددة المراسيم - مشتملاً من الإيذاء والإيحاش، والإبذاء والإفحاش على كلماتٍ، بل على ظلماتٍ، لو أطفأ - أدام الله علوه - بعض لهبه، وسكن نائرة غضبه، ثم عاد إليه متصفحاً لألفاظه ومبانيه، لما ارتضى ذلك من دينه وعقله، ولكا استحسنه من كرمه وفضله، إلا أني أعذره فيما قال، قصر كلامه أو طال، لعلمي أنه - أدام الله علوه - مسلوب مغلوب، جريح أسنة القهر، طريح صدمات الدهر، عضته أنياب النوائب، وخدشته أظفار المصائب، نهبت كتبه وأمواله، وغصبت رحاله وأثقاله، وطالب الثأر يقصد كل راجلٍ وفارسٍ، وصاحب الضالة يتهم كل قائمٍ وجالسٍ، ولقد علم سيدنا - أدام الله علوه - أن وقعة مرو عمرها الله كانت واقعةً عامةً، شملت كل جبهةٍ وحافرٍ، وطبقت كل صائحٍ وصافرٍ، وكان قد لحقت في ذلك الوقت بعسكر خوارزمشاه من طبقات الناس أوزاع وأخياف، ومن حشرات الأرض أنواع وأصناف، قصارى همهم القتل والإغارة، ومنتهى أربهم الإحراق والإبارة وأوباش مرو أيضاً كانوا يخرجون من مكامنهم في الليالي، ويتعرضون لبيوت السادات والموالي، فليسس بمستبعدٍ أن يكون قد ظفر بكتبه من أولئك الأقوام أحد لا يعرف شأنه، ولا يعلم مكانه، أما أنا فالله تعالى يعلم - وقد خاب من استشهده باطلاً - أني ما فتحت للإغارة بابه، ولا نهبت كتابة، بل ذهبت يوماً على مقتضى إشارته الكريمة لأحمل كتبه إلى المعسكر، فلما دخلت داره الرفيعة، ورأيت كتباً كثيرةً فوق ما يحيط به عد، أو يشتمل عليه حد، فقلت: تقل هذه أمر مشكل، وحمل هذه خطب معضل، فتركتها بحالها في أماكنها، وخليتها برمتها في معادنها، وخرجت كما دخلت خالي الحقائب، فارغ الزكائب، فإن كنت غصبت يوم وقعة مرو أو قبلها أو بعدها من كتبه - أدام الله علوه - كتاباً أو جزءاً أو دفتراً أو من سائر أمواله شيئاً صغر أو جل، كثر أو قل، أو رضيت أن يغصبه أحد من أتباعي والمنتمين إلي، أو عرفت غاصباً غصبه، أو ناهباً نهبه، فأخفيت ذلك عنه، أو كتمته منه، فأنا بريء من الله وهو بريء مني، وإن كنت فعلت بنفسي شيئاً مما ذكرت، أو رضيت أن يفعله أحد من المتعلقين بي، أو عرفت فاعلاً فعله، فعلي لله أن أحج بيته المعظم المكرم راجلاً راجلاً حافياً، وعلى عاتقي الزاد والمزادة عشر مراتٍ، وإن كنت فعلت شيئاً من ذلك، أو رضيت أن يفعله أحد من المتعلقين بي، أو عرفت فاعلاً فعله، فكل مالٍ ملكته يميني فهو في سبيل الله على مساكين الحرمين، وإن كنت فعلت شيئاً من ذلك، أو رضيت أن يفعله أحد من المتعلقين بي أو عرفت فاعلاً فعله، فكل عبدٍ ملكته أو أملكه فهو حر، وإن كنت فعلت شيئاً من ذلك، أو رضيت أن يفعله أحد من المتعلقين بي أو عرفت فاعلاً فعله، فكل امرأة تزوجتها أو أتزوجها فهي طالق مني ثلاث طلقاتٍ، هذه الأيمان والنذور كتبتها ببناني، وأجريتها على لساني، لا خوفاً من غوائله، ولا هرباً من حبائله، فإن الصلح آمن أهله، والإسلام جب ما قبله، ولكن إظهاراً لخلو راحتي، وبراءة ساحتي، وشفقةً عليه - أدام الله علوه - وصيانةً لفاضلٍ مثله لا مثيل له في أقطار الشرق والغرب، وأقاصي البر والبحر، أن يسلك طريقةً غير مستصوبةٍ ويختار شريعةً غير مستعذبةٍ. - عصمنا الله وإياه - مما يورث ذماً، ويعقب إثما.

وقد بعث في قران هذه الخدمة خدمةً أخرى مفرطةً في الطول، مجررةً للذيول، منسوجةً على منوال آخر، كالكي للداء إذا استحكمت شدته، وتطاولت مدته، وعجز الأساة عن معالجته، والأطباء عن مداواته، وهديته - أدام الله علوه - فيها النجدين، وأريته الطريقين، ودفعت عنان الإختيار إليه، ووضعت زمام الإسار في يديه، ليسلك منهما ما يشاء، إما ما يسر به وإما ما يساء. - وفقه الله للصواب والأصلح، وأسعدة بالأرشد والأنجح، وجعله من الصالحين المصلحين، والفائزين المعليمن - إن شاء الله تعالى والسلام.

وكتب إليه مع الكتاب المتقدم ذكره:  " بسم الله الرحمن الرحيم ": صادفني - أطال الله بقاك في دولةٍ مشرقة الكواكب، ونعمةٍ هاطلة السحائب، وسلامةٍ طيبة المشارع والمشارب - خطابه الكريم وكتابه الشريف بخوارزم، وأنا ناعم البال منتظم الحال، ومنة النفس في دعةٍ، ومن العيش في سعةٍ، والحمد لله على ذلك، وبه الثقة والحول، وله المنة والطول، وحين تنسمت من يد حامله رياه، وثبت من مكاني مستقبلاً إياه، ومددت إليه يميني مد معزٍ مكرمٍ. وأخذته بطرف كمي أخذ مجلٍ معظمٍ، وقلت في نفسي: كرامة ساقها الله تعالى إلي، وسعادة ألقت أنوارها علي، وأرسلت في الحال قاصداً ذروات الأشراف، وسروات الأطراف، وبعثت في الساعة مرعاً إلى رجالات الأخبية والأبنية، وساكنة الأباطح والأودية، ودعوت من كل حلةٍ رئيسها وزعيمها، ومن كل خطةٍ كبيرها وعظيمها، حتى اجتمع عندي البدوي والحضري، واحتشد في ربعي الربعي والمضري، ثم عرضت عليهم كتاباً شريفاً بختمه، وحنيت ظهري لتقبيله ولثمه، وطلبت خطيباً مصقعاً من بلغاء بني معدٍّ صحيح اللسان، فصيح البيان، ووضعت له في منزلي منبراً من الساج، مغشى بالدرر والديباج، ليصعد به ذرا الأعواد، ويقرأه على رؤوس الأشهاد، فرفع الكل أصواتهم يمنةً ويسرةً، وسألوني خفيةً وجهرةً، ما هذا الذي تظهره لنا وتعرضه؟ وتوجب علينا سماعه وتفرضه؟ فقلت: كتاب إمامٍ لم تلمح عين الزمان لمثله، ولم تسمح يد الليالي بشكله، كتاب إمامٍ هو في العلم صاحب آياتٍ، وفي الفضل سابق غاياتٍ، إمام تطلع نجوم الجو دون قدره، وتحسد رياض الخلد أطايب صدره، كتاب إمامٍ تم به حساب العلماء، كما تم برسول الله صلى الله عليه وسلم حساب الأنبياء، صحيفة فخرٍ حررتها يد بيضاء، وقلادة مجدٍ رصعتها همة روعاء، ونشرت من معالي سيدنا - أدام الله علوه ومفاخره - وذكرت من مناقبه ومآثره، ما امتلأ بنشره النادي، وسال من ذكره الوادي، فسكنوا وسكتوا، وأصغوا وأنصتوا، فلما فضضت ختامه، وحدرت لثامه، وشاهدت في أثنائه من الفزع الأكبر، وعاينت في أدراجه من أهوال يوم المحشر، ما أطال السهاد، وأطار الرقاد، وشق جلباب الصبر ومريطاء الجلد، وجرح سواد العين وسويداء الخلد، حسبته حلةً خسروانيةً، فوجدته حربةً هندوانيةً، كتاب لا بل كتائب تفل كل جيشٍ، وخطاب لا بل خطوب تكدر كل عيشٍ، وكلام لا بل في الأضالع كلام، وفصول لا بل في الجوانح نصول، وأسجاع مؤنقة لا بل أوجاع موبقة، كله كأنه نازلة الدهر، وقاصمة الظهر، كأنما ألفاظه أنياب الأراقم، ومعانيه أظفار الضراغم، وهو - أدام الله علوه - دفاع الأمراض بطبه، فلم أمرضني بفضائح سبه؟ ونطاسي الجراح بعلمه، فلم جرحني بقبائح ظلمه؟

وممن أرجى شفاء السقام

 

ومسقمتي جفوات الطبيب

ما هذا الإنذار والإيعاد؟ وما هذا الإبراق والإرعاد؟ كأنه صاحب دلدل وفارس يليلٍ، أو كأنه من أقيال اليمن، وأبطال الزمن، أو كأنه ثعبان الحرب، وشيطان الطعن والضرب، وذكر البول، أولى به من ذكر الهول. وحديث البراز أولى به من حديث البراز:

إن للهجر رجالاً

 

ورجالاً للوصال

 قال - أدام الله علوه -: مصصت دمي من عرقي، أوليس يدري أن امتصاص الدماء من خصائص بضاعته، والتصرف في اللحوم والعظام من لوازم صناعته؟ - رحم الله - امرأً عرف قدره، ولم يتعد طوره، وشر ما في بني آدم من الخصال الذميمة، والأفعال اللئيمة، إيذاء الصغار والكبار، وإيحاش العبيد والأحرار. وهذا له: - أدام الله فضله - جبلة فطر عليها، وطبيعة استرسل معها، وسجية شهر بين العامة والخاصة بها، يشتم كل يوم في منزله ومكانه، وعلى سدة داره وطرف دكانه، خلقاً كثيراً، وجماً غفيراً، من الرافعين قصصاً إليه، والعارضين عللهم عليه، فيرجعون وجفونهم تتصوب عبراتها، وقلوبهم تتصعد زفراتها، لما يلاقون من سوء خلقه، ويقاسون من خشونة نطقه، ويقفلون وألم ذلك التهجم والإعراض، والوقيعة في الأحشاب والأعراض، أشد عليهم من ألم الأسقام والأمراض ولهذا جعل شخصه وصير نفسه، - مع أنه أفضل زمانه، وأعلم أولاد قرانه - ضحكة الأداني والأقاصي، وسخرةً للأذناب والنواصي، حتى صار بحيث إذا مشى في الأسواق تعادى صبيان البلد حوله فيسخرون منه، ويضحكون عليه، وينعرون في قفاه، ولا أقول فيه - أدام الله علوه - إلا ما قال الخليل بن أحمد الفراهيدي في ابن المقفع حين رأى كمال فضله، ونقصان عقله: علم وافر، وعقل قاصر. ومن قصور عقل ابن المقفع: أنه مر ببيت النار وكان من أولاد كسرى، فتنفس الصعداء، وتمثل ببيت الأحوص بن محمدٍ الأنصاري:

يا بيت عاتكة الذي أتـعـزل

 

حذر العدى وبه الفؤاد موكل

فاتهم بالمجوسية، فألقى في تنورٍ مسجورٍ فأحرق، وما أصدق من قال: قيراط عقلٍ، خير من قنطار فضلٍ ومثقال حلمٍ، أنفع من مكيال علمٍ. أنكر - أدام الله علوه - رشاد مذهبي وإنكاره ضلال، وجحد سداد سيرتي وجحوده باطل محال، فيا طير الله جمجمة فرخت فيها الأضاليل وباضت، ويا أسكت الله شقشقةً دفعت منها الأباطيل وفاضت، ولا أعني بهذه الجمجمة إلا جمجمته التي لا عقل فيها، ولا أريد بهذه الشقشقة إلا شقشقته التي يباينها الصدق وينافيها. حتى متى يتهمني بظنه؟ وإلى كم يجرعني دردي دنه؟ أيحسب - أدام الله علوه - أن ظنه الباطل، وخياله الفاسد، ووهمه الكاذب، وحي من السماء إلهي، أو إلهام في الحقيقة رباني، أو آية نفث بها روح القدس في روعه، لا بل هو واحد من أبناء زماننا، وهذا شر الأزمنة، عجم الشيطان عوده فاستلانه، فصير خزانة خياله مكانه، فهذه الخطرات التي تختلج في جنانه وتدور حول حسبانه من تلك الخيالات الشيطانية، لا من الإلهامات الربانية. ولقد بلغني من أفواه الرواة وألسنة الثقات، أنه: - أدام الله علوه - أخذ بعين هذه التهمة الكاذبة قبل هذا واحداً من أعيان جلدته، وسكان بلدته، وهو مسعود بن المنتخب، - رحمه الله - فأغار على أهله وبيته، وتعرض لحيه وميته، وخرب دوره ورباعه، وغصب أثاثه وباعه، من غير حجةٍ صححها، ولا بينةٍ أوضحها، - اللهم اصرع الظالم على الهامة، وخذ منه للمظلوم حتى يرضى عنه يوم القيامة - ومما أقضى منه العجب أن عهدي به - أدام الله عزه - قد كان يخرب الأبدان، فها هو الآن يخرب الأوطان، وما أسرع الدهرإلى تغير البشر، وما أقدره على تبديل الصور والسير. قرأت في بعض الكتب أن خليفةً من الخلفاء رأى في منامه أن واحداً من ندمائه وثب عليه ليقتله، فلما أصبح استدعى النديم وأمر بقتله، فقال له النديم: ماذا فعلت من الذنب حتى استوجبت هذه العقوبة؟ قال الخليفة: ما فعلت شيئاً، ولكني رأيت في المنام أنك تقتلني، فقال له النديم: إن يوسف بن يعقوب - صلوات الله وسلامه عليهما - مع كونه صديقاً نبياً احتاجت رؤياه إلى تعبيره، وافتقرت أحاديثه إلى تأويلٍ وتفسيرٍ. أفتستغني رؤياك عن مثل ذلك؟ فضحك الخليفة وخلاه. وأنا أقول: هكذا ظنون جميع ذوي الألباب، معرضة للخطأ والصواب، كأنه - أدام الله علوه - تفرد بينهم بذاته، وتوحد بعظمة صفاته، فتنزهت ظنونه عن السهو، وتقدست أحاديثه عن اللغو، عصمنا الله من الكبر البائن والعجب الشائن، أما حان أن ينتبه - أدام الله علوه - من غفلته ويستيقظ من رقدته، وقد بلغ غاية شيبه، وأخذ الموت بلحيته وجيبه، يقرع كل ساعةٍ منادى الفناء في أذنه الصماء، أن أترك أوطانك، واهجر أهلك وجيرانك، وارحل إلى جهنم بخيلك ورجلك، فإنها قد أوقدت نيرانها لأجلك، وما حرص جهنم على شيء كحرصها على إحراق شيخٍ غويٍ، وهمٍ غبيٍ، سيئ الخليقة، مذموم الطريقة، يتظاهر بالإثم والعدوان، ويتبع خطوات الشيطان، وهو - أدام الله علوه - بلغ ساحل الحياة، ووقف على ثنية الوداع، وهم بحر عمره بالنضوب ومال نجم بقائه للغروب، فما ظنه؟ هل في الحياة طمع وقد بليت جدته وفنيت مدته، وتراجع أمره، وأربي على الثمانين عمره؟:

أيرجو الفتى عوداً إلى طيباتـه

 

وقد جاوزت رأس الثمانين سنه

كتبت هذه الأحرف على سبيل النموذج والجواب بعد في الجراب، والسيف لم يسل من القراب فإن انزجر - أدام الله علوه - واتعظ، وترك الفظاظة والغلظ، وعاد إلى كرم العهد، وصفاء الود فأنا خادم مخلص، وعبد مطيع، وتلميذ معتقد:

وإلا فعندي للعـدو وقـائع

 

تريه المنايا لا ينادي وليدها