باب الحاء - الحسن بن محمدبن أبي الشخباء

الحسن بن محمدبن أبي الشخباء

بن عبد الصمد بن أبي الشخباء أبو عليٍ العسقلاني صاحب الرسائل، مات فيما ذكره علي بن بسامٍ في كتاب الذخيرة في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائةٍ معتقلاً بمصر في خزانة البنود. وكان يلقب بالمجيد ذي الفضيلتين، أحد البلغاء الفصحاء الشعراء، له رسائل مدونة مشهورة، قيل: إن القاضي الفاضل عبد الرحيم بن البيساني منها منها استمد، وبها اعتد، وأظنه كتب في ديوان الرسائل للمستنصر صاحب مصر، لأن في رسائله جواباتٍ إلى الفساسيري، إلا أن أكثر رسائله أخوانيات، وما كتبه عن نفسه إلى أصدقائه ووزراء أمراء زمانه، وها انا أكطتب منها ما سنح لتعرف قدر بضاعته، ومغزى صناعته نظماً ونثراً. قال من قصيدة:

أخذت لحاظي مـن جـنـا خـديك

 

أرش الذي لاقـيت مـن عـينـيك

هيهات، إني وزنت بمـهـجـتـي

 

نظري إليك فقد ربحـت عـلـيك

غضي جفونك وانظري تأثـير مـا

 

صنعت لحاظك فـي بـنـان يديك

وهو ويك نضح دمي وعز علـي أن

 

ألقاك في عرض الخطـاب بـويك

فسلكت في فيض الدموع مسالـكـاً

 

قصرت بها يد عـامـرٍ وسـلـيك

صانوك بالسمر اللدان وصنـتـهـم

 

بنواظرٍ فحـمـيتـهـم وحـمـوك

لو يشهرون سيوف لحظك في الوغى

 

لاستقـرؤوا فـيهـا قـنـا أبـويك

وقد كتب إلى صديقٍ له: لما حديت ركاب مولاي أخذ صبري معه، وصحبه فلبي وتبعه:

فعجبت من جسمٍ مقيمٍ سـائرٍ

 

كمسير بيت الشعر وهو مقيد

وبقيت أقاسي أموراً تخف الحليم، وترعي الهشيم، إن رجوت منها غفلةً اقتحمت، وإن رمت منها فرجةً تضايقت والتحمت، وأما الوحشة فقد اصطحبت منها كأساً مترعةً، وتجرعت من صابها أم جرعةً، ورأيت فؤادي إذا مر ذكر مولاي، يكاد يخرج من خدره، ويرغب في مفارقة صدره، حنيناً يجدده السماع، وصدوداً ينتفض منه الأضلاع وزفرةً يدمي في غرارها، ويطلع في الترائب شرارها:

أداري شجاها كي تخلي مكانها

 

وهيهات ألقت رحلها واطمأنت

وأما ما أعاني بعد مسيره فأشياء: منها عيث الألم مرةً، وزوال الاستمتاع بما يعرفه من تلك المسرة، ومنها اضطراري إلى كثرة مكابرة من أعلم دخل سرائره، واختلاف باطنه وظاهره، وتكلف اللقاء له بصفحةٍ مستبشرةٍ، وأخلاقٍ غير متوعرةٍ، والله يعلم نفور طباعي ممن رآه أهل الأدب من الأدب غفلاً، ومن ذخائره مقفلاً، لكن السياسة تقتضي اعتماد ما ذكرت ما ذكرت وتوجب قصد ما شرحت، وإن كان مورداً غير عذبٍ، وثقيلاً على العين والقلب:

ولربما ابتسم الفتى وفـؤاده

 

شرق الضلوع برنةٍ وعويل

ومنها انعكاس كثيرٍ من الآمال، وارتشاف الصبابة الباقية من الحال، بجوائح مصريةٍ وشاميةٍ، وفوادح أرضيةٍ وسماويةٍ، ولا أشكو بل أسلم له مذعناً، وأرى فعله كيف تصرفت الأحوال جميلاً حسناً:

ومن لم يسلم للنوائبأصبحت

 

خلائقه طراً عليه نوائبـا

والله تعالى المسؤول أن يهب لي من قرب مولاي ما يأسو هذه الكلوم، ويجددمن المسرة عافى الرسوم، فجميع الحوادث، وسائر النوائب الكوارث، إذا قربت الخطوة، واستجييت هذه الدعوة، تمسي غير مذكورةٍ، وبجناح التجاوز مكفورةً.

وكتب إلى أبي الفرج الموفقي جواباً عن رقعةٍ: وصلت رقعة مولاي والصبح قد سل على الأفق مقضبه، وأزال بأنوار الغزالة غيهبه، فكانت بشهادة الله صبح الآداب ونهارها، وثمار البلاغة وأزهارها، قد توشحت بضروبٍ من الفضل تقصر قاصية المدى، ويجري به في مضمار الأدب مفرداً:

فكان روض الحسن تنثره الصبا

 

فأطلت من قرطاسها أتصفـح

فأما ما تضمنته من وصفي، فقد صارت حضرته السامية تتسمح في الشهادة بذلك مع مناقشتها في هذه الطريقة، وانها لا توقع ألفاظها إلا مواقع الحقيقة. فإن كنت قد بهرجت عليها فلتراجع نقدها تجدني لا أستحق من ذلك الإسهاب فصلاً، ولا أعد لكلمةٍ واحدةٍ منه أهلاً، وبالجملة فالله ينهضني بشكر هذا الإنعام الذي يقف عنده الثنا، ويضلع، ويحصر دونه الخطيب المصقع:

هيهات تعيي الشمس كل مرامقٍ

 

ويعوق دون منالها الـعـيوق

واما الفضل الذي أودعه الرقعة الكريمة من قوله: " فأما فلان فيحل في قومه، ويفرح بالضيوف فرح حنيفة بابن الوليد، قدوره عمارية، وعطسات جواريه أسدية، ويهوين لو خلق الرجال خلق الضباب، يتضوعن النشر العبقسي، ويرضعن مراضع ثعالة المجاشعي " وما أمرت حضرته السامية من ذكر ما عندي فيه فقد تأملته طويلاً، وعثر الخادم فيه بما أنا ذاكره، رغباً في الرضا بما بلغت إليه المقدرة، وتجليل ذلك بسجوف الصفح.

أما قوله: " يفرح بالضيوف فرح حنيفة بابن الوليد " فيقع لي أنه أراد خالد بن الوليد المخزومي، وذلك أن مسيلمة الحنفي كان قد تنبأ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - وحديثه المشهور - فبعث إليه أبو بكرٍ - رضي الله عنه - خالد بن الوليد المقدم ذكره في جيشٍ كثيفٍ من المسلمين، ففتح اليمامة وقتل مسيلمة وأباد جماعةً كثيرةً من بني حنيفة. وأما قوله " قدوره عمارية " فإن هذا الفصل اما كان مبنياً على الذم وجب أن يتطلب لهذا السبب معنىً يجب حمله عليه، ولم نجد ما ينسب إليه إلا قول الفرزدق:

لو أن قدراً بكت من طول ما حبست

 

عن الحقوق بكت قدر ابن عمـار

ما مسها دسم مذ فض معـدنـهـا

 

ولا رأت بعد نار اليقين مـن نـار

وأما قوله: " عطسات جواريه أسدية " فيقوى وهمي أنه أراد قول الأول في هجائه:

إذا أسدية عطست فنكـهـا

 

فإن عطاسها طرق الوداق

واما قوله: " يهوين لو خلق الرجل خلق الضباب فإن الجاحظ ذكر في كتاب الحيوان، أن للضب أيرين وللضبة حرين، وحكى أن أير الضب أصله واحد، وإنما تفرق فيصير أعلاه اثنين، واستشهد على ذلك بقول الفرزدق:

رعين الدبا والبقل حتى كأنـمـا

 

كساهن سلطان ثياب مراجـل

سبحل له نزكان كانا فـضـيلةً

 

على كل حافٍ في البلاد وناعلٍ

والنزك: اسم أير الضب. وأنشد الأصمعي لابن دزماء فيما رواه أبو خالدٍ النميري:

تفرقتم لا زلتـم قـرن واحـدٍ

 

تفرق أير الضب والصل واحد

ومن هنا قالت حبى المدنية لما عذلها أبوها في تزوجها ابن أم كلابٍ:

وددت بأنه ضـب وأنـي

 

ضبيبة كديةٍ وجدت خلاء

وأما قوله " يتضوعن النشر" فمن أمثال العرب: هو أخسر صفقة من شيخ مهوٍ، وهو بطن من عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن نزار بن معد بن عدنان، وكان من خبره أن إياداً كانت أفسى العرب، فوفد وافدهم إلى الموسم بسوق عكاظ ومعه حلة نفيسة فقال: يا معشر العرب، من يشتري مني مثلبة قومٍ لا تضره بحلتي هذه؟ فقال الشيخ المهوي: أنا أشتريها. فقال الإيادي: أشهدكم يا معشر العرب أني قد بعت فساء إيادٍ لوافد عبد القيس بحلتي هذه، وتصافحا متراضين وقد شهد عليهما أهل الموسم، فصارت عبد القيس أفسى العرب. وقيل لابن مناذرٍ: كيف الطريق إلى عبد القيس؟ فقال شم ومر:

فإن عبد القيس من لؤمهـا

 

تفسو فساءً ريحه تعبـق

من كان لا يدري لها منزلاً

 

فقل له يمشي ويستنشـق

وأما قوله: أعطش من ثعالة المجاشعي، فمن أمثال العرب فيما ذكره الكلبي قال: هما رجلان من بني مجاشع عطشا فالتقم كل واحدٍ منهما أير صاحبه يشرب بوله، فلم يغن عنهما شيئاً، وماتا عطشاً ووجدا على تلك الحال. قال جرير يهجو بني دارمٍ:

رضعتم ثم بال على لحاكم

 

ثعالة حين لم يجدا الشرابا

هذا ما وقع لي في هذا الفصل، وأرجو أن أكون قد ذهبت إلى ما قصده قائله.

ومن كلامه يهنئ بكسر أتسز بن أوقٍ الغزي، وكان ذلك لثمان ساعاتٍ مضين من يوم الاثنين في العشر الأخيرة من جمادى الآخرة، سنة تسعٍ وستين وأربعمائةٍ: " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل. فانقلبوا بنعمةٍ من الله وفضلٍ لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضلٍ عظيمٍ " قد ارتفع الخلاف بين الكافة أن الله ذخر للدولة الفاطمية - ثبت الله أركانها، من الحضرة العلية المنصورة الجيوشية - خلد الله سلطانها، من حمى سوادها، ونصر أعلامها، وضم نشرها، وحفظ سريرها ومنبرها، بعد أن كان العداء الذين ارتضعوا در أنعامها، وتوسموا بشرف أيامها، فطردت يد الاصطناع إملاقهم، وأثقلت قلائد الإحسان أعناقهم، فخفروا ذمم الولاء، وكفروا سوابغ الآلاء، ففجأتهم الحوادث من كل طريقٍ، زنعب بهم غراب الشتات والتفريق، واستباحتهم يد الشدائد " واتى الله بنيانهم من القواعد "، ولم تزل النفوس منذ طرق أتسز اللعين هذه البلاد، وأنجم فيها الفساد، وتعدى حدود الله وكلماته، وتعرض لمساخطته ونقماته. عالمةً بأن إملاء الحضرة العلية - مد الله ظلها على الكافة - لم يكن عن استعمال رخصةٍ في هذه الحال، ولا سكونٍ إلى عوارض من الإغفال والإهمال، بل هو أمر ركب فيه متن التدبير، وجرت بمثله المقادير، واتبع فيه قوله تعالى: " فأمليت للذين كفروا، ثم أخذتهم فكيف كان نكير" وحين خدعته المطامع المردية إلى الأعمال القاهرة مؤملاً انفصام عروة الله المتينة، وأفول ما توقد من شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ، سكنت النفوس إلى أن الحضرة العلية - ثبت الله مجدها - ستجرد له من عزماتها الماضية ما يعجل دماره، وتنتضي له من آرائها الكاملة ما يعفي آثاره، وحين اصطدمت الرجال، وتوالت الأنباء بانكسار اللعين، وما منحته الحضرة من النصر المبين، حتى نهبت الأموال وتحكمت السيوف بحكم القاد الغالب. وأكلتهم الحرب أكل الغرثان الساغب، وأنشبت فيهم أظفارها المنية، وكسيت الأرض من دمائهم حلةً عسجديةً، وولى المخذول على أدباره، ونكص على أعقابه بوبيل أوزاره، يخاف من نجوم الليل أن ترجمه، ومن شمس النهار أن تصطلمه، وترك ما معه يقسم يميناً وشمالاً، ومن حشده يقتل ركباناً ورجالاً، علم أن لله تعالى عنايةً بالدولة الزاهرة، وتحقق أن له سبحانه رعايةً بالملة الطاهرة، تحوط أقطارها، وتضاعف أنوارها، ولطفاً خفياً بهذه الرعية، ومشيئةً نافذةً في هذه البرية، التي لولا مقام الحضرة العلية لمزق أديمها، واستبيح حريمها، والله المحمود على ما منح من هذه النعمة، والمسؤول أن يشد ببقاء الحضرة العلية قواعد الإسلام والأقلام، ويسم بمحامدها أغفال الأيام، ويستخدم لها السيوف والأقلام، حتى لا يبقى على وجه الأرض مفحص قطاةٍ إلا وقد دوخها سنابك خيولها، ولا مسقط نواة إلا وقد ركزت فيه صدور رماحها ونصولها، فقد دفعت - أدام الله جمال الدنيا ببقائها، وأعز كمال الدين ببأسها وأصالة رأيها - خطباً جسيماً، واستلقحت من السياسة أمراً عقيماً، وأعادت شمل الأمة ملموماً نظيماً " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وكان فضل الله عليك عظيماً " فأما العبد المملوك فقد تلاعبت به أيدي الأقدار، وقذفته العطلة في هوةٍ بعيدة الأقطار، وهو يعد نفسه ويوقيها، ويسوفها ويمنيها، أن مراحم، الحضرة نصر الله أعلامها، تعيد كساد بضاعته نفاقاً، واضطرب حاله انتظاماً واتساقاً، وسكون ريحه خفوقاً، وغروب حظه شروقاً، إن شاء الله تعالى.
زكتب إلى بعض إخوانه: أغب كتاب مولاي حتى أضرم ناراً في الفؤاد، وحالف بين جفني والسهاد:

ثم وافى بلفظه الرائق العـذ

 

ب وأغنى عن الزلال البرود

وقوله أيضاً:

وقرأته متـنـزهـاً

 

في روضه وغديره

جمع البلاغة كلهـا

 

تختال بين سطوره

فالدر في منظومـه

 

والسحر في منثوره

وعرفت ذكر الشوق الذي هيج أحزاناً، ونكأ قرحاً لا يندمل زماناً، وإن عندي بشهادة الله ما يضرم ناره، ويشب أواره، والله تعالى، يسهل من ألطافه الخفية ما يجمع الشمل، ويصل الحبل، ويقرب الدار، ويدني المزار، بمحمدٍ وآله والأئمة الأطهار. وأما حالي بعده، وارتياحي إلى ما عنده، وتأسفي على الفائت من أخلاقه التي هي من الحسن أدق، ومن الماء أصفى وأرق: فحال صبٍ أخذ ما في فؤاده، وحولف بين طرفه وسهلاده، فحرم لذلك لذيذ رقاده، وأما عتبه علي لتأخر كتبي عنه، وبعدها منه: فهو يعلم - حرس الله مدته - أنني إذا واصلت أو أغببت أنه سمير لخاطري، وإن غاب عن ناظري، وهو نازل بضمائري، وإن بان من بين مخالطي ومعاشري:

يا غائباً عن ناظـري

 

وحاضراً في خاطري

لا تخش مني جـفـوةً

 

فباطني كالظـاهـر

والله يعلم أني لم أغفل كتابه صرماً وهجراً، ولا أهملت مجاوبته نقضاً لمودته الكريمة ولا غدراً، فإنه من العين بمكان من السواد، ومن الصدر بموضع الفؤاد، وبسبب هذا الاعتقاد وما ذكرت من محض الوداد، أبثه أشجاناً، وأطلعه على أسراري إسراراً وإعلاناً، ثقةً بوده، وتمسكاً بوثيق عهده وعقده، لو رآني فسح الله مدته، وضاعف علي مودته، لرأى صباً قلبه خفيق، ودمعه طليق:

قلق الضمير بظبيةٍ وهـنـانةٍ

 

فلها بقلبي هـزة وعـلـوق

الوجه طلق والوشاح مهفهـف

 

والردف دعص والقوام رشيق

وتبسمت عن واضحٍ فضحت به

 

سطع البروق ونم منه رحيق

هذه الأبيات تغني عما أردت أن أشرحه، وتنبيء عن مكنون ما سبيلي أن أثبته واوضحه، والله المسؤول أن يقضي مأربي بسعادة جده، ويزيل عني ما أخشاه بتمام إقباله ومجده، وكتابه هو فسحة للصدر، ومنية ما يطلب من الدهر، ولرأيه علوه في إمضائه إلي ووفوده علي.
وكتب إلى ابن المغربي يهنئه بالفتوح، - أدام الله بقاء سيدنا الوزير الأجل، وما سطع الصبح بعموده، وهمهم السحاب برعوده، وطلعت في الأفق أنجم سعوده -:

نعتده ذخر العـلا وعـتـادهـا

 

ونراه من كرم الزمان وجـوده

الدهر يضحك من بشاشة بشـره

 

والعيش يطرب من نضارة عوده

فقد ألبس الله الدهر من مناقب الحضرة السامية ما أخرس الأئمة، وأفاض على الكلفة من آلائها ما تملك به رق المآثر، ويعجز عنه كل ناظمٍ وناثرٍ، يقصر عنه لسان البليغ ويفضل عن مقلة الناظر، فما ينفك - خلد الله أيامه - يذود عن الدولة برأيٍ صائبٍ، وحسامٍ قاضبٍ يتحاسد عليه الدرع والدراعة، ويتنافس فيه الصمصامة واليراعة، والملك بين هذين متين العماد، مستبحر الثماد:

ما زال قائد كتـيبةٍ وكـتـيبةٍ

 

بأصيل رأيي منصلٍ وفـؤاد

شبهان من قلمٍ ومن صمصامةٍ

 

شهراً ليوم ندىً ويوم جـلاد

وما وقفت في هذا المقام موقفاً وحشياً، ولا وقع عندها موقعاً أجنبياً، بل اقتفت آثار أسلافٍ خفقت عليهم ألوية المعالي وبنودها، ووسمت بأسمائهم جباه الممالك وخدودها، وتحيف الكرم أموالهم وهي أثيثة الجناح، وذللت عزامهم النوب وهي شديدة الجماح:

كتاب ملكٍ يستـقـيم بـرأيهـم

 

أود الخلافة أو أسود الصبـاح

بصـدور أقـلام تـرد إلـيهـم

 

سرف الرياسة أو صدور رماح

كان العبد خدم المجلس السامي بخدمةٍ قصدها التهنئة بما فتح الله تعالى من الظفر بالعدو الذي أطاع شيطانه، ومد في مضمار الغي أشطانه، واتبع ما أسخط الله وكره رضوانه، وجرى الله على جميل عادته في زلزلة أطواده، واستئصال أحزابه وأجناده، الذين غدت الرماح تستقي مياه نحورهم، والسيوف تنتهب ودائع صدورهم، والحمام يجول عليهم كل مجالٍ، ويستدنى إليهم نوازح الآجال:

ما طال بغي قط إلا غادرت

 

فعلاته الأعمار غير طوال

فتح أضاء به الزمان وفتحت

 

فيه الأسنة زهرة الآمـال

وأرجو أن يكون التوفيق قضى بوصولها، وأذن في قبولها، فيمتد ظل، ويثري مقل، ويصوب عارض مستهل.

أيعجز فضلك عـن خـادمٍ

 

وأنت بأمر الورى مستقل؟

وبحكم ما العبد عليه من تطلع الأمل القوي، وتوقع الإنعام الكسروي، عززها بهذه المناجاة، وإن كان على ثقةٍ أن رشاه قد ألقي في الغدير القريب، ورائده قد خيم بالمرتع الخصيب:

لو رأينا التوكيد خطة عجزٍ

 

ما شفعنا الأذان بالتثـويب

ولع - أدام الله عزه - الرأي العالي فيه، إن شاء الله تعالى. وكتب إلى صارم الدولة بن معروفٍ: - أدام الله بقاء الحضرة الصارمية - يجري القدر على حسب أهويتها، ويعقد الظفر بعزائم ألويتها، ويحلى بذكرها ترائب الأيام العاطلة، وينجز بكرمها عدات الحظوظ المماطلة، ما أصحب الجامح، وأضاء السماك الرامح، وعافت الماء الإبل الطوامح.

وما سحبت في مفرق الأرض ذيلها

 

خوافق ريحٍ للسـحـاب لـواقـح

إذا رفض الناس المديح وطلـقـوا

 

بنات العلا زفت إلـيه الـمـدائح

أيام الناس شهود مختلفة في الأقوال، وصنوف متباينة الأحوال، فيوم تؤرخ السير بسودده وسنائه، وينطق بمحامد قومٍ ألسنة أبنائه، ويوم يخبو في موقف الجد شهابه، ويعبق بمسك المدام إهابه، فالحمد لله الذي جعل الحضرة سامية عقال الخطوب العوارم، ونظام المحاسن والمكارم، يعتدها الزمن نسيم أصائله، وزهر خمائله، وشموس مشارقه، وتيجان مفارقه، فيجب على كل من ضم اليراعة بنانه، وأطلق في ميدان البراعة عنانه، ألا يخلي مجلسه من مدحٍ معروضةٍ، وخدمٍ مفروضةٍ، يسهب فيها الواصف ويوجبها الإنعام المتراصف:

عسى منة تقوى على شكـر مـنـه

 

وهيهات أعيا البحر من هو راشـف

ولو كنت لا تولي يداً مـسـتـجـدةً

 

إلى أن توفى شكر ما هو سـالـف

حميت حريم المال من سطوة النـدى

 

وغاضت وحاشاها لديك العـوارف

وكم عزمةٍ في الشكر كانـت قـويةً

 

فأضعفها إحسانك المتـضـاعـف

رعى الله من عم الـبـرية عـدلـه

 

فأنصف مظلـوم وأومـن خـائف

له منن في حرب خطبٍ عـواطـف

 

دماث وفي صدر الخطوب عواصف

فكم أهلٍ هدته نصر الله عزائمها بعد الضلال، وحرٍ استنقذته من حبائل الإقلال، ومرهقٍ خففت عنه وطأة الزمن المتثاقل، وطريدٍ بوأته من حرمها أمنع المعاقل:

منازل عزٍ لـو يحـل ابـن مـزنةٍ

 

بها لسلا عما لـه مـن مـنـازل

فيا صارماً يعطي وينسى عـطـاءه

 

ولم نـر سـيفـاً ذا وفـاء ونـائل

يكاد يفيض البرق مـن وجـنـاتـه

 

إذا مـا أتـاه سـائل بـوســائل

إذا هو عرى سيفه مـن عـمـوده

 

وأفضي بفضفاضٍ من السرد ذابـل

وقد صبغ النقع النـهـاربـصـيغةٍ

 

ترى ناصلاً منها بياض المنـاصـل

رأيت متون الخيل تحمل ضيغـمـاً

 

مرير مذاق الكيد حلو الـشـمـائل

يلذ له طعـم الـكـمـاة كـأنـمـا

 

جرى الشنب المعسول فوق العواسل

وكم أخرست أطرافها من غمـاغـمٍ

 

لأقرابه واستنطقت مـن ثـواكـل

من القوم تترك لهم عـنـد كـاشـحٍ

 

طوال ردينـياتـهـم مـن طـوائل

إذا ما سروا خلف العدو وهـجـروا

 

تظلل من أرماحهـم فـي ظـلائل

وما ذبلـت يومـاً خـمـيلة عـزةٍ

 

إذا زرعت فيها كعـوب الـذوابـل

أوائل مجدٍ لم يزل فـاخـراً بـهـا

 

تميم بن مرٍ أو كـلـيب بـن وائل

ثم جاءته مناقب الحضرة العلية، فتم بها مناقب تميمٍ، وحكم لآل القعقاع أمر حكيم، ونصر لواء بني نصرٍ، وأبدرت أهلة بني بدرٍ، ونبه منبه هوازن، وظهرت مزينة ومازن، وضحك لعبسٍ عابس الدهر، وراحت الكملة كاملة الفخر، وزادت مغايظ الأزد، وقشرت قشيراً عن بلوغ المجد، وأغمدت سيوف بني غامدٍ، وصارت همدان كالجمر كالجمر الهامد، ومذحج كالعنس مذللةً، وحمير بالراية الحمراء متظللةً، وطوت طيئ عملها استخذاءً، وغصت جفنة جفونها استحياءً - فحرس الله محاسن الحضرة السامية - التي جباه الأنام بها موسومة، وتمم نعمها التي هي بينها وبين الناس مقسومة، ولا زالت الدولة الفاطمية تحمد عزائمها التي شهدت لها بمداومة الكفاءة وأنشرت من النصائح كل رميمٍ رفاتٍ:

كأنك حين ضل الناس عنـهـا

 

هديت إلى رضا هادي الرعاة

مزيل المال من ملك الأعادي

 

وناظم شمله بعد الـشـتـات

سيينطق بالثناء علـى عـلـيٍ

 

وعترته المنابر صامـتـات

فقاد له إلـى بـغـداد قـوداً

 

تجلى لحمها جنب الـفـرات

عليها كل داني الحلـم ثـبـتٍ

 

سفيه السيف من بعد الثبـات

كأنهم إذا التحموا المنـايا

 

يقيدون الحياة من الممات

يسابقون إلى العدو الأعنة، فتطعن عزائمهم قبل الأسنة، ويقتدون بالحضرة السامية في خوض الرهج، وإرخاص المهج، وتحكل الأعباء، في موالاة أصحاب العباء - ولا سلب الله هذا الثغر وأهله -: ما وهب لهم من إنعامه الذي يتهافت إليهم متناسقاً، ويعيد غصن مجدهم ناصراً باسقاً:

إذا ما فلي الناس السماح عشقتـه

 

وأحسن ما تسدى المكارم عاشقـا

حمى الله من كيد الزمان خلائقـاً

 

وسعت بها يا بن الكرام خلائقـا

إذا ظلموا كانت شموساً طوالـعـاً

 

وإن أجدبوا كانت غيوثاً دوافـقـا

وقد زاد شهر الصوم ربعك صابحاً

 

له بأفاويق السعـود وغـابـقـا

تنور بالـقـرآن أسـداف لـيلـه

 

فيبيض منها كل ما كان غاسقـا

تأرج من تقـواك فـيه لـطـائم

 

يظل لها عرنين عامك نـاشـقـا

فعش أبداً ما شوهد الأفق أورقـا

 

وراح قضيب الأيك أخضر أورقا

إذا عد قوم للمعالي أخـامـصـاً

 

عددناك تيجاناً لهـا ومـفـارقـا