ابن جعفر بن محمدٍ المعروف بابن الحجاج الكاتب الشاعر أبو عبد الله شاعر مفلق قالوا إنه في درجة امرئ القيس، لم يكن بينهما مثلهما وإن كان جل شعره مجون وسخف، وقد أجمع أهل الأدب على أنه مخترع طريقته في الخلاعة والمجون لم يسبقه إليها أحد، ولم يلحق شأوه فيها لاحق، قدير على ما يريده من المعاني الغاية في المجون مع عذوبة الألفاظ وسلاستها، وله مع ذلك في الجد أشياء حسنة لكنها قليلة، ويدخل شعره في عشر مجلداتٍ أكثره هزل مشوب بألفاظ المكدين والخلديين والشطار ولكنه يسمعه أهل الأدب على علاته، ويتفكهون بثمراته، ويستملحون بنات صدره المتهتكات، ولا يستنقلون حركاتهن لخفتها وإن بلغت في الخفة غاية الغايات.
وإني لأقول كما قال أبو منصورٍ: لولا قول إبراهيم بن المهدي: إن جد الأدب جد وهزله هزل، لصنت كتابي هذا عن مثل هذا المجون. وحديثٍ كله ذو شجونٍ.
ولقد مدح الملوك والمراء والوزراء والرؤساء، فلم يخل شعره فيهم من هيبة المقام من هزلٍ وخلاعةٍ. فلم يعدوه مع ذلك من الشناعة، وكان عندهم مقبولاً مسموعاً غالي المهر والسعر، وكان يتحكم على الأكابر والرؤساء بخلاعته، ولا يحجب عن المراء والوزراء مع سخافته، يستقبلونه بالبشاشة والإكرام، ويقابلون إساءته بالإحسان والإنعام، وناهيك برجلٍ يصف نفسه بمثل قوله:
رجل يدعي النبوة في الـسـخ |
|
ف ومن ذا يشك في الأنـبـاء |
جاء بالمعجزات يدعـو إلـيهـا |
|
فأجيبوا يا معشر السـخـفـاء |
حدث السن لـم يزل يتـلـقـى |
|
علمه بالمشـايخ الـكـبـراء |
خاطر يصفع الفرزدق في الشع |
|
ر ونحو ينيك أم الـكـسـائي |
غير أني أصبحت أضيع في القو |
|
م من البدر في ليالي الشـتـاء |
وقوله في وصف شعره:
بالله يا أحمد بـن عـمـروٍ |
|
تعرف للناس مثل شعري؟ |
شعر يفيض الكنيف مـنـه |
|
من جانبي خاطري وفطري |
فلفظه منتن الـمـعـانـي |
|
كأنـه فـلـتة بـجـحـر |
لو جد شعـري رأيت فـيه |
|
كواكب الليل كيف نتسـري |
وإنمـا هـزلـه مـجـون |
|
يمشي به في المعاش أمري |
وقال:
فإن شعري ظريف |
|
من بابة الظرفاء |
ألذ معنىً وأشهـى |
|
من أسماع الغناء |
وقال:
إن عاب ثعلب شعري |
|
أو عاب خفة روحي |
خرئت في باب أفعل |
|
ت من كتاب الفصيح |
وقال في الأمير عز الدولة بختيار:
فديت وجه الأمير من قمـرٍ |
|
يجلو القذى نوره عن البصر |
فديت من وجهه يشككـنـي |
|
في أنه من سلالة البـشـر |
إن زليخا لو أبصرتك لـمـا |
|
ملت إلى الحشر لذة النظـر |
ولم تقس يوسفاً إليك كـمـا |
|
نجم السهى لا يقاس بالقمـر |
وكان يا سيدي قمـيصـك إن |
|
هربت منها ينقد مـن دبـر |
بل وحياتي لوكنت يوسفـهـا |
|
لم تك من تهمة العزيز بري |
لأنني عـالـم بـأنـك لـو |
|
شممت ريا نسيمها العطـر |
سنقتها وانزلقت تتـبـعـهـا |
|
ما بين تلك البيوت و الحجر |
وقد علمنـا بـأن سـيدنـاال |
|
أمير ممن يقول بالـبـظـر |
ولم تكن تلك تشتـكـي أبـداً |
|
ما كان من يوسفٍ من الحذر |
طبعك كالماء في سهولـتـه |
|
لكن أبو الزبرقان من حجر |
إن الملوك الشباب ما خلقـوا |
|
إلا صلاب الفياش والكمـر |
وقال يشكو سوء وابعث بها إلى ابن العميد:
فداؤك نفس عبدٍ أنـت مـولـىً |
|
له يرجوك يا خير الـمـوالـي |
حديثي منذ عهـدك بـي طـويل |
|
فهل لك في الأحاديث الطـوال؟ |
فإني بـين قـومٍ لـيس فـيهـم |
|
فتىً ينهي إلى الملك اختـلالـي |
فلحمي ليس تطبـخـه قـدوري |
|
وحوتي ليس تقليه المـقـالـي |
وماءئ قد خلت منه جـبـابـي |
|
وخبزي قد خلت منه سـلالـي |
وكيسي الفارغ المطروح خلفـي |
|
بعيد العهد بالقـطـع الـحـلال |
أفكر في مقامي وهو صـعـب |
|
وأصعب منه عن وطني ارتحالي |
فبي مرضان مختلفان حالي ال |
|
عليلة منهما تمسـي بـحـال |
إذا عالجت هذا جف كـبـدي |
|
وإن عالجت ذلك ربا طحالي |
وقال في مثل ذلك أيضاً:
يا سيد عشـت فـي نـعـمٍ |
|
تأوي إليها موابذ الـعـجـم |
بديهتي في الخصام حاضـرة |
|
أشهر في الخافقين من علـم |
والخط خطي كما تراه ولا ال |
|
زهرة بين القرطاس والقلـم |
هذا وخبزي حافٍ بلا مـرقٍ |
|
فكيف لو ذقت لذة الدسـم؟ |
مالي وللحـم إن شـهـوتـه |
|
قد تركتني لحماً على وضـم |
وما لحلقي والخبز يجرحـه |
|
بالملح يشكو مرارة اللـقـم |
وقال في مثل ذلك:
خليلي قد اتسعت مـحـنـتـي |
|
علي وضاقت بها حـيلـتـي |
عذرت عذاري فـي شـيبـه |
|
وما لمت إذ شمطت لمـتـي |
إلى كم يخاسـسـنـي دائمـاً |
|
زماني المقبح في عشـرتـي |
تحيفني ظالـمـاً غـاشـمـاً |
|
وكدر بعد الصفا عـيشـتـي |
وكنت تماسكت فيما مـضـى |
|
فقد خانني الدهر في مسكتـي |
إلـى مـنــزلٍ لا يوارى إذا |
|
تربعت فيه سـوى سـوءتـي |
مقيمـاً أروح إلـى حـجـرةٍ |
|
كقبري وما حضرت ميتـتـي |
إذا ما لم ألـم صـديقـي بـه |
|
على رغبةٍ منه في زورتـي |
فرشت لع فيه بسط الـحـدي |
|
ث من باب بيتي إلى صفتـي |
ومعدته فـي خـلال الـكـلا |
|
م تشكو خواها إلى معـدتـي |
وقد فت في عضدي مـا بـه |
|
ولكن به غلـبـت عـلـتـي |
وأغدو غـدواً خـلـيقـاً بـأن |
|
يزيد به الله فـي شـقـوتـي |
فأية دارٍ تـيمـمـتــهـــا |
|
تيمم بـوابـهـا حـجـتـي |
وإن أنا زاحمت حتـى أمـوت |
|
دخلت وقد زهقت مهجـتـي |
فيرفعني الناس عند الوصـول |
|
إليهم وقد سقطت عـمـتـي |
وإن نهضوا بعد لـلإنـصـرا |
|
ف أسرعت في إثرهم نهضتي |
وإن قدموا خيلهم لـلـركـوب |
|
خرجت فقدمت لي ركبـتـي |
وفي جمل الناس غلمـانـهـم |
|
وليس سوائي في جمـلـتـي |
ولا لي غـلام فـأدعـو بـه |
|
سوى من أبوه أخو عمـتـي |
وكنت مليحـاً أروق الـعـيو |
|
ن قبلاً فقد قبحت خلـقـتـي |
وقوسني الهم حتوى انطـويت |
|
فصرت كأني أبـو جـدتـي |
وكان المزين فيمـا مـضـى |
|
تكسر أمشـاطـه طـرتـي |
وكنت برأسٍ كلون الـغـداف |
|
فقد صرت أصلع من فيشتـي |
ويا رب بيضاء رود الـشـبـا |
|
ب كانت تحن إلى وصلـتـي |
فصارت تصد إذا أبـصـرت |
|
مشيبي وتغضبت من صلعتـي |
على أنني قلـت يومـاً لـهـا |
|
وقد أمضت العزم في هجرتي |
دعي عنك ما فوقه عـمـتـي |
|
فإن جمالـي ورا تـكـتـي |
هنـاك سـيء يسـر الـعـيو |
|
ن طويل عريض على دقتـي |
وقال:
ويحكم يا كهول أو يا شـيوخ ال |
|
فسق أو يا معشـر الـفـتـيان |
إشربوها حمراء مما اقتـنـاهـا |
|
آل دير العاقـول لـلـقـربـان |
بكؤوسٍ كأنـهـا ورق الـنـس |
|
رين فيها شقائق الـنـعـمـان |
إشربوها وكـل إثـمٍ عـلـيكـم |
|
إن شربتم بالرطل في ميزانـي |
في ليالٍ لو أنهـا دفـعـتـنـي |
|
وسط ظهري وقعت في رمضان |
وقال يستهدي أبا تغلب بن حمدان فرساً:
اسمع المدح الذي لو قيل في |
|
أحدٍ غيرك قالـوا سـرقـا |
جاء يهديك مهـراً أدهـمـاً |
|
يركب الفارس منه غسـقـا |
كالدجى تبصر من غـرتـه |
|
فوق أطباق دجـاه فـلـقـا |
جل أن يلحق مطلوبـاً ومـن |
|
طلب الريح عليه لـحـقـا |
فتراه واقفـاً فـي سـرجـه |
|
يتلظى من ذكـاه قـلـقـا |
فإذا طاب به المشي مضـى |
|
وهو كالريح يشق الطـرقـا |
كالسحاب الـجـون إلا أنـه |
|
ليس يسفي الأرض إلا عرقا |
جمع الأمرين يعدو المرطـي |
|
في مدى السبق ويمشي العنقا |
واستدعاه الوزير للخروج معه إلى القتال فقال من قصيدةٍ:
يا سائلي عن بكـاي حـين أرى |
|
دموع عيني تسابق الـمـطـرا |
ساعة قيل الـوزير مـنـحـدر |
|
أسرع دمعي وفاض منـحـدرا |
وقلت يا نفس تصبـرين وهـل |
|
يعيش بعد الفراق من صبـرا؟ |
شاورتـه والـهـوى يفـتـتـه |
|
والرأي رأي الصواب قد حضرا |
أهوى انحداري والحزم يكرهـه |
|
وتارك الحزم يركب الـغـررا |
لأنني عـاقـل ويعـجـبـنـي |
|
لزوم بيتي وأكـره الـسـفـرا |
الخيش نصف النهار يعجبـنـي |
|
والماء بالثلج بـارداً خـصـرا |
والشرب في روشني أقـول بـه |
|
كيما أرى مـنـه والـقـمـرا |
ولا أقود الخيل العتـاق بـلـى |
|
أسوق بـين الأزقة الـبـقـرا |
من كل جاموسةٍ لعـنـبـلـهـا |
|
رأس بقرنيه يفلق الـحـجـرا |
قد نفخ الشحم جوفـهـا فـغـدا |
|
كأنه بـطـن نـاقةٍ عـشـرا |
تركض مثل الحصـان نـافـرةً |
|
ومن يرد الحصان إن نـفـرا؟ |
أحسن في الحرب من صفوفكـم |
|
غداً قعودي أصفف الـطـررا |
هيهات أن أحضر القـتـال وأن |
|
ترى بعينـيك فـيه لـي أثـرا |
بل الذي لا يزال يعجـبـنـي ال |
|
دبيب باللـيل خـاءفـاً حـذرا |
الدف عند الصبـاح دبـدبـتـي |
|
وبوقي الناي كـلـمـا زمـرا |
هذا اعتـقـادي وهـكـذا أبـداً |
|
أرى لنفسي وأنت كيف تـرى؟ |
ومن مقطعاته:
ملك لو لم يكن من ملكه |
|
غير دارٍ وشحت بالنعم |
لو رمى شداد فيها طرفه |
|
زهدته بعدها فـي إرم |
وقال:
صنعـت فـي دارك فـوارةً |
|
أغرقتفي الأرض بها الأنجما |
فاض على نجم السهى ماؤها |
|
فأصبحت أرضك تسقي السما |
وقال:
واستوفعمر الدهر في نعمةٍ |
|
دون مداها موقف الحشر |
مصيبة الحاسد في مكثهـا |
|
مصيبة الخنساء في صخر |
وقال:
هذا حديثي تنمي عجائبه |
|
بكثرة القال فيه والقيل |
أعجزني دفنه فشاع كما |
|
أعجز قابيل دفن هابيل |
وقال:
قد رفع الصلح على غلتي |
|
واقتسموها كارةً كـارةً |
لا يفلس البـقـال إلا إذا |
|
تصالح السنور والفـارة |
وقال:
عجبت من الزمان وأي شيءٍ |
|
عجيبٍ لا أراه من الزمـان |
يصادر قوت جرذانٍ عجافٍ |
|
فيجعله لأوعـالٍ سـمـان |
وقال:
يا رائحاً فـي داره غـادياً |
|
بغير معنىً وبـلا فـائده |
قد جن أضيافك من جوعهم |
|
فاقرأ عليهم سورة المائده |
وقال:
فديت من لقبني مثـل مـا |
|
لقبته والحق لا يغـضـب |
إن قلت يا عرقوب خادعتني |
|
يقول لم نفسك يا أشـعـب |
وقال:
قد قلت لما غدا مدحي فما شكروا |
|
وراح ذمي فما بالوا ولا شعروا |
علي نحت القوافي من معادنهـا |
|
وما علي إذ لم تفهـم الـبـقـر |
وقال:
الصبح مثل البصير نـوراً |
|
والليل في صورة الضرير |
فليت شعـري بـأي رأيٍ |
|
يختارأعمى على بصـير؟ |
وقال:
إن بني برمك لو شاهـدوا |
|
فعلك بالغائب والشـاهـد |
ما اعترف الفضل بيحيى أباً |
|
ولا انتمى يحيى إلى خالـد |
وقال:
مولاي يا من كل شيءٍ سوى |
|
نظيره في الحسن موجـود |
إن كنت أذنبت بجهلي فقـد |
|
أذنب واسـتـغـفـر داود |
ولطائف ابن الحجاج كثيرة، وفيما أوردناه منها كفاية. توفي يوم سابع عشر جمادى الآخرة، سنة إحدى وتسعين وثلاثمائةٍ، ودفن في بغداد عند مشهد موسى الكاظم بن جعفرٍ الصادق - رضي الله عنهما - وكان أوصى أن يدفن عند رجليه ويكتب على قبره: "وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد". وكان من كبار شعراء الشيعة وقد رآه بعض أصحابه في المنام بعد موته فقال له: ما حالك فأنشد:
أفسد سوء مـذهـبـي |
|
في الشعر حسن مذهبي |
لم يرض مولاي علـى |
|
سبي لأصحاب النبـي |
ورثاه الشريف الرضي الموسوي بقصيدةٍ ارتجلها حين أتاه نعيه فقال:
نعوه على ضن قـلـبـي بـه |
|
فلله ماذا نعـى الـنـاعـيان |
رضيع صفـاء لـه شـعـبة |
|
من القلب مثل رصيع اللبـان |
بكيتـك لـلـشـرد الـسـائرا |
|
ت تعبث ألفاظها بالمعـانـي |
مواسم ينهل مـنـهـا الـحـيا |
|
بأشهر من مطلع الزبـرقـان |
جوائف تـبـقـى أخـاديدهـا |
|
عماقاً وتعفو ندوب الطـعـان |
تبـض إلـى الـيوم آثـارهـا |
|
بأحمر من عائد الطعن قانـي |
قعاقعهن تـشـن الـحـتـوف |
|
إذا هن أوعدن لا بالـشـنـان |
وما كنت أحسب أن المـنـون |
|
تفل مضارب ذاك الـلـسـان |
لسان هو الأزرق القعضـبـي |
|
تمضمض في ريقه الأفعواني |
له شفتا مبـرد الـهـالـكـي |
|
أنحى بجانـبـه غـير وانـي |
إذا لز بالعـرض مـبـراتـه |
|
تصدع صدع الرداء اليمـانـي |
يرى الموت أن قد طوى مضغةً |
|
ولم يطو إلا غرار الـسـنـان |
فأين تسـرعـه لـلـنـضـال |
|
وهباته لـلـطـزال الـلـدان |
يشل الجـوائح شـل الـسـياط |
|
ويلوي الجوانح لي الـعـنـان |
فإن شاء كان حران الجـمـاح |
|
وإن شاء كان جماح الحـران |
يهاب الـشـجـاع غـذامـيره |
|
على البعد منه مهاب الجبـان |
وتعنو الـمـلـوك لـه خـيفةً |
|
إذا راع قبل اللظى بالـدخـان |
وكم صاحب كمنـاط الـفـؤاد |
|
عناني من يومه ما عـنـانـي |
قد انتزعت يدي من المـنـون |
|
ولم يغن ضمي عليه بنـانـي |
فزال زيال الشباب الـرطـيب |
|
وخانك يوم لقاء الـغـوانـي |
ليبك الزمان طـويلاً عـلـيك |
|
فقد كنت خفة روح الـزمـان |