باب الحاء - الحسين بن الضحاك

الحسين بن الضحاك

ابن ياسرٍ البصري المعروف بالخليع أبو عليٍ، أصله من خراسان، وهو مولىً لولد سلمان بن ربيعة الباهلي الصحابي، فهو مولىً لا باهلي النسب كما زعم ابن الجراح، بصري المولد والمنشأ، وهو شاعر ماجن، ولذلك لقب بالخليع، وعداده في الطبقة الأولى من شعراء الدولة العباسية المجيدين، ولد سنة اثنتين وستين ومائةٍ، وتوفي في بغداد سنة خمسين ومائتين، وقد ناهز المائة، وكان شاعراً مطبوعاً حسن التصرف في الشعر، وكان أبو نواسٍ يغير على معانيه في الخمر، فإذا قال شيئاً فيها نسبه الناس إلى أبو نواسٍ، وله غزل كثير أجاد فيه، وهو أحد الشعراء المطبوعين الذين أغناهم عفو فرائحهم عن التكلف، وقد اتصل الحسين بن الضحاك بالخلفاء من بني العباس ونادمهم، وأول من جالس منهم: محمد الأمين بن هارون الرشيد، وكان اتصاله به سنة ثمانٍ وتسعين ومائةٍ، وهي السنة التي قتل فيها الأمين، وتنقل بعده في مجالس الخلفاء ونادمهم إلى الحين الذي مات فيه في زمن المستغين، وقيل في زمن المنتصر.

حدث الصولي عن عبد الله بن محمدٍ الفارسي عن ثمامة بن أشرس قال: لما قدم المأمون من خراسان وصار إلى بغداد، وأمر بأن يسمى له قوم من أهل الأدب ليجالسوه ويسامروه، فذكر له جماعة فيهم الحسين بن الضحاك، فقرأ أسماءهم حتى بلغ إلى اسم الحسين فقال: أليس هو الذي يقول في الأمين يعني أخاه:

هلا بقيت لسد فـاقـتـنـا

 

أبداً وكان لغيرك التـلـف

فلقد خلفت خلائفاً سلـفـوا

 

ولسوف يعوز بعدك الخلف

لا حاجة لي فيه، والله لا يراني أبداً إلا في الطريق، ولم يعاقب الحسين على ما كان من هجائه له وتعريضه به. قال: وانحدر إلى البصرة فاقام بها طول أيام المأمون، واستقدمه المعتصم من البصرة حين ولي الخلافة بعد موت المأمون، فلما دخل عليه استأذن في الإنشاد فأذن له، فأنشده يمدحه:

هلا سألت تلدد الـمـشـتـاق

 

ومننت قبل فراقـه بـتـلاق

إن الرقيب ليستريب تنفس الص

 

صعدا إليك وظاهر الإقـلاق

ولئن أربت لقد نظرت بمقـلةٍ

 

عبري عليك سخـينة الآمـاق

نفسي الفداء لخائفٍ مترقفـبٍ

 

جعل الوداع إشارة بـعـنـاق

إذ لا جواب لمفحمٍ مـتـحـيرٍ

 

إلا الدموع تصان بالإطـراق

ومنها:

خير الوفود مـبـشـر بـخـلافةٍ

 

خصت ببهجتهـا أبـا إسـحـاق

وافته في الشهر الحـرام سـلـيمةً

 

من كل مشكـلةٍ وكـل شـقـاق

أعطته صفقتها الضمـائر طـاعةً

 

قبل الأكف بـأوكـد الـمـيثـاق

سكن الأنـام إلـى إمـامٍ سـلامةٍ

 

عف الضمير مـهـذب الأخـلاق

فحمي رعـيتـه ودافـع دونـهـا

 

وأجار مملقـهـا مـن الإمـلاق

قل للألى صرفوا الوجوه عن الهدى

 

متعسفين تـعـسـف الـمـراق

إني أحـذركـم بـوادر ضـيغـمٍ

 

دربٍ بخطـم مـوائل الأعـنـاق

متأهـبٍ لا يسـتـفـز جـنـانـه

 

زجل الرعـود ولامـع الإبـراق

لم يبق من متعـزمـين تـوثـبـوا

 

بالشام غـير جـمـاجـمٍ أفـلاق

من بين منجدلٍ تـمـج عـروقـه

 

علـق الأخـادع أو أسـير وثـاق

وثنى الخيول إلى معاقل قـيصـرٍ

 

تخـتـال بـين أجـرةٍ ودفــاق

يحملن كل مشـمـرٍ مـتـغـشـمٍ

 

ليثٍ هـزبـرٍ أهـرت الأشـداق

حتى إذا أم الحـصـون مـنـازلاً

 

والمـوت بـين تـرائبٍ وتـراق

هرت بطارقها هـرير ثـعـالـب

 

بدهت بـزأر قـسـاورٍ طـراق

ثم استكانت للحصار مـلـوكـهـم

 

ذلاً ونيط حلـوقـهـم بـخـنـاق

هربت وأسلمت الـبـلاد عـشـيةً

 

لم تبق غير حـشـاشة الأرمـاق

فلما أتمها قال له المعتصم، ادن مني، فدنا منه فملأفمه جوهراً من جوهرٍ كان بين يديه، ثم أمره بأن يخرجه من فيه،فأخرجه فأمر بأن ينظم ويدفع إليه ويخرج إلى الناس وهو في يده ليعلما موقعه منه ويعرفوا له فضله. وحدث الصولي عن عون بن محمدٍ الكندي قال: لما ولي المنتصر الخلافة دخل عليه الحسين بن الضحاك فهنأه بالخلافة وأنشده:

تجددت الدنيا بملـك مـحـمـدٍ

 

فأهلاً وسهلاً بالزمان المـجـدد

هي الدولة الغراء راحت وبكرت

 

مشمرةً بالرشد في كل مشـهـدٍ

لعمري لقد شدت عرى الدين بيعة

 

أعز بها الرحمن كـل مـوحـد

هنتك أمير المؤمـنـين خـلافة

 

جمعت بها أهواء أمة أحـمـد

فأظهر إكرامه والسرور به وقال له: إن في بقائك بهاءً للملك، وقد ضعفت عن الحركة، فكاتبني بحاجتك ولا تحمل على نفسك بكثرة الحركة، ووصله بثلاثة آلاف دينارٍ ليقضي بها ديناً بلغه أنه عليه، وقال في المنتصر أيضاً وهو آخر شعرٍ قاله:

ألا ليت شعري أبـدر بـدا

 

نهاراً أم الملك المنتصر؟؟

إمام تـضـمـن أثـوابـه

 

على سرجه قمراً من بشر

حمى الله دولة سلطـانـه

 

بجند القضاء وجند القـدر

فلا زال ما بـقـيت مـدة

 

يروح بها الدهر أو يبتكر

واصطبح عند عبد الله بن العباس بن الفضل وخادم له قائم بين يديه يسقيه، فقال عبد الله: يا أبا عليٍ قد استحسنت سقي هذا الخادم، فإن حضرك شيء في هذا فقل، فقال:

أحيت صبوحي فكاهة اللاهي

 

وطاب يومي بقرب أشباهي

فآثر اللهو في مـكـامـنـه

 

من قبل يومٍ منغصٍ ناهـي

بابنةٍ كرمٍ من كف منتـطـقٍ

 

مؤتزرٍ بالـمـجـون تـياه

يسقيك من طرفه ومـن يده

 

سقي لطيفٍ مجربٍ داهـي

كأساً وكأساً كأن شـاربـهـا

 

حيران بين الذكور والساهي

وذكر الصولي في نوادره قال: حدثني علي بن محمد بن نصرٍ قال: حدثني خالي أحمد بن حمدون قال: قال الحسين بن الضحاك من أبياتٍ وقد عمر:

أما في ثـمـانـين وفـيتـهـا

 

عذير وإن أنـا لـم أعـتــذر

وقـد رفـع الـلـه أقـلامـه

 

عن ابن ثمانين دون الـبـشـر

وإنـي لـمـن أسـراء الإلـه

 

في الأرض نصب حروب القدر

فإن يقض لي عملاً صـالـحـاً

 

أثاب وإن يقض شـراً غـفـر

وقال:

أصبحت من أسراء الله محتسـبـاً

 

في الأرض نحو قضاء الله والقدر

إن الثمانين إذ وفـيت عـدتـهـا

 

لن تبق باقيةً مـنـي ولـم تـذر

قلت: والأصل في قول الحسين بن الضحاك هذا، الحديث الذي رواه ابن قتيبة في غريب الحديث. قال: حدثنا أبو سفيان الغنوي، حدثنا معقل بن مالكٍ عن عبد الرحمن بن سليمان، عن عبيد الله بن أنسٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا بلغ العبد ثمانين سنةً فإنه أسير الله في الأرض، تكتب له الحسنات وتمحى عنه السيئات). وقال:

وصف البدر حسن وجهك حتى

 

خلت أني ومـا أراك أراكـا

وإذا ما تنفس النرجس الغـض

 

ض توهمته نسـيم شـذاكـا

خدع للمنى تعلـلـنـي فـي

 

ك بإشراق ذا وبهـجة ذاكـا

وقال:

لا وحبـيك لا أصـا

 

فح بالدمع مدمـعـا

من بكى شجوه استرا

 

ح وإن كان موجعا

كبدي في هواك أس

 

قم من أن تقطـعـا

لم تدع صورة الضنى

 

في للسقم موضعـا

وقال:

ألا إنما الدنيا وصال حـبـيب

 

وأخذك من مشمولةٍ بنصيب

ولم أر في الدنيا كخلوة عاشقٍ

 

وبذلة معشوقٍ ونوم رقـيب

وقال يمدح الوزير الحسن بن سهلٍ:

أرى الآمال غير معـرجـاتٍ

 

على أحدٍ سوى الحسن بن سهل

يباري يومه غـده سـمـاحـاً

 

كلا اليومين بان بكل فـضـل

أرى حسناً تقـدم مـسـتـبـداً

 

ببعدٍ مـن رياسـتـه وقـبـل

فإن حضرتك مشكـلة بـشـكٍ

 

شفاك بحكمةٍ وخطاب فصـل

سليل مرازبٍ ترعوا حلـومـاً

 

وراح صغيرهم بسداد كـهـل

ملوك إن جريت بـهـم أبـروا

 

وعزوا أن توازيهـم بـعـدل

ليهـنـك أن مـا أرجـيرشـد

 

وما أمضيت من قولٍ وفعـل

وأنك مؤثر لـلـحـق فـيمـا

 

أراك الله في قطـعٍ ووصـل

وأنك للـجـمـيع حـيا ربـيعٍ

 

يصوب على قرارة كل محـل

وقال يمدح الواثق لما ولي الخلافة:

أكتم وجدي فـمـا ينـكـتـم

 

بمن لو شكوت إلـيه رحـم

وإني على حسن ظنـي بـه

 

لأحذر إن بحت أن يحتـشـم

ولي عند لحـظـتـه روعة

 

تحقق ما ظنه الـمـتـهـم

وقد علم الـنـاس أنـي لـه

 

محب وأحسبـه قـد عـلـم

وإني لمغضٍ عـلـى لـوعةٍ

 

من الشوق في كبدي تضطرم

وعشية ودعت عن مـدمـعٍ

 

سفوحٍ وزفرة قـلـب سـدم

فما كان عند النوى مسـعـد

 

سوى الدمع يغسل طرفاً كلم

سيذكر مـن بـان أوطـانـه

 

ويبكي المقيمين من لـم يقـم

ومنها في المديح:

إلى خازن الله في خلـقـه

 

سراج النهار وبدر الظلـم

ركبنـا غـرابـيب زفـافةٍ

 

بدجلة في موجها الملتطـم

إذا ما قصدنا لقاطـولـهـا

 

ودهم قراقيرها تصـطـدم

وصرنا إلى خير مسـكـونةٍ

 

تيممها راغـب أو مـلـم

مباركةٍ شـاد بـنـيانـهـا

 

بخير المواطن خير الـمـم

كأن بها نـشـر كـافـورةٍ

 

لبرد نداها وطيب النـسـم

كظهر الأديم إذا ما السـحـا

 

ب صاب على متنها وانسجم

مبرأةٍ من وحول الـشـتـاء

 

إذا ما طمى وحله وارتكـم

فما إن يزال بـهـا راجـل

 

يمر الهوينا ولا يلـتـطـم

ويمشي على رسلـه آمـنـاً

 

سليم الشراك نقي الـقـدم

وللنون والضب في بطنهـا

 

مراتع مسكونة والـنـعـم

ومنهم:

يضيق الفضاء به إن عدا

 

بطودي أعاريبه والعجـم

ترى النصر يقدم راياتـه

 

إذا ما خفقن أمام العلـم

وفي اللـه دوخ أعـداءه

 

وجرد فهم سيوف النقـم

وفي الله يكظم من غيظه

 

وفي الله يصفح عمن ظلم

رأى شيم الجود محمـودةً

 

وما شيم الجود إلا قسـم

فراح على نعمٍ واغتـدى

 

كأن ليس يحسن إلا نعـم

وقال:

أتاني منـك مـا لـيس

 

على مكروهه صبـر

فأغضيت على عـمـدٍ

 

وقد يغضي الفتى الحر

وأدبتك بـالـهـجـر

 

فما أدبك الـهـجـر

ولا ردك عـمـا كـا

 

ن منك النصح والزجر

فلما اضطرني المكـر

 

ه واشتد بـي الأمـر

تناولتك مـن ضـري

 

بما لـيس لـه قـدر

فحركت جنـاح الـذل

 

ل لما مسك الـضـر

إذا لم يصلح الخـير ام

 

رأً أصلحـه الـشـر

وغضب عليه المعتص لشيءٍ جرى منه على النبيذ، فكتب إليه يسترضيه:

غضب الإمام أشـد مـن أدبـه

 

وقد استجرت وعذت من غضبه

أصبحت معتصماً بمعـتـصـمٍ

 

أثنى الإله عليه فـي كـتـبـه

لا والذي لم يبـق لـي سـبـاً

 

أرجو النجاة به سوى سبـبـه

مالي شفيع غـير حـرمـتـه

 

ولكل من أشفى على عطـبـه