باب الحاء - الحسين بن علي بن محمد

الحسين بن علي بن محمد

ابن ممويه أبو عبد الله المعروف بابن قمٍ الزبيدي اليمني، ولد سنة ثلاثين وخمسمائةٍ، وتوفي سنة إحدى وثمانين وخمسمائةٍ، كان أديباً كاتباً شاعراً من أفاضل اليمن المبرزين في النظم والنثر والكتابة، ومن شعره:

أأحبابنا من بالـقـطـيعة أغـراكـم

 

وعن مستهام في المحبة ألـهـاكـم

صددتم وأنتم تـعـلـمـون بـأنـنـا

 

لغير التجني والـصـدود وددنـاكـم

كشفت لكم سري علـى ثـقةٍ بـكـم

 

فصرت بذاك السر من بعض أسراكم

جعلـنـاكـم لـلـنـائبـات ذخـيرة

 

فحين طلبناكم لها مـا وجـدنـاكـم

قطعتم وصلناكم نسيتـم ذكـرنـاكـم

 

عققتم بررناكم أضعتم حفظـنـاكـم

وفي النفس سر لا تـبـوح بـذكـره

 

ولو تلفت وجداً إلـى يوم لـقـياكـم

فإن تجمع الأيام بـينـي وبـينـكـم

 

غفرت خطاياكم لـحـرمة رؤياكـم

وقال:

خير ما ورث الرجال بنيهـم

 

أدب صالح وحسـن ثـنـاه

ذاك خير من الدنانـير والأو

 

راق في يوم شـدةٍ ورخـاء

تلك تفنى والدين والأدب الص

 

صالح لا يفنيان حتى اللقـاء

ولابن قمٍ رسالة كتب بها إلى أبي حمير سبأ بن أبي السعود أحمد بن المظفر بن عليٍ الصليحي اليماني بعد انفصاله عن اليمن، ورواها الحافظ أبو طاهرٍ السلفي سنة ثمانٍ وستين وخمسمائةٍ وهي: كتب عبد حضرة السلطان الأجل مولاي ربيع المجدبين، وقريع المتأدبين، جلوة الملتبس، وجذوة المقتبس، شهاب المجد الثاقب، ونقيب ذوي الرشد والمناقب، - أطال الله بقاءه، وأدام علوه و ارتقاءه، ما قدمت العارية للمستعير، ولزمت الياء للتصغير، - وجعل رتبته في الأولية عالية المقام كحرف الاستفهام، وكالمبتدأ إن تأخر في البنية فإنه مقدم في النية، ولا زالت حضرته من الحادثات حمىً، وللوفود مزدحماً وملتزماً، حتى يكون في العلا بمنزلة حرف الاستعلا وهو من حروف اللين في حصونٍ، وما جاورها من الإمالة مصون، ولا زال عدوه كالألف حالها يختلف، تسقط في صلة الكلام ولاسيما مع اللام، فإنه - أدام الله علوه - أحسن من إلى ابتداءً، ونشر علي من فضله رداءً، أراد أن يخفى وكيف يخفى؟ لأن من شرف الإحسان، سقوط ذكره عن اللسان، كالمفعول رفع رفع الفاعل الكامل، لما حذف من الكلام ذكر الفاعل، يهدي إليه سلاماً ما الروض ضاحكه النوض، غرس وحرس وسقي ووقي وغيب وصيب، فأخذ من كل نوء بنصيبٍ، زهاه الزهر، وسقاه النهر، جاور الأضا، فحسن وأضا، رتع فيه الشحرور ومرح العصفور، فنظر إلى أقاحيه تفتر في نواحيه وإلى البهار، يضاحك شمس النهار، فجعل فجعل يلثم من ورده خدوداً، ويضم من أغصانه قدوداً، ويقتبس النار من الجلنار ويلتمس العقيق من الشقيق، فتثنى ثملاً، وغنى خفيفاً ورملاً، بأطيب من نفحته المسكية، وأعطر من رائحته الذكية، وإني وإن أهديته في كل أوانٍ، من أداء ما يجب غير وانٍ، أعد نفسي السكيت في السبق لتقصيري لما علي من الحق، أثرت فعثرت، وجهدت فما سعدت، فأنا بحمد الله بخنوعٍ وقنوعٍ، وجنابٍ عن غين العين ممنوعٍ، فارقت المثول ولا أزال، ولزمت الخمول والاعتزال، سعيي سعي الجاهد، وعيشي عيش الزاهد، ببلدٍ الأديب فيه غريب، والأريب مريب، إن تكلم استثقل، وإن سكت استقلل، منزله كبيوت العناكب، ومعيشته كعجالة الراكب، فهو كما قال أبو تمامٍ:

أرض الفلاحة لو أتاها جـرول

 

أعني الحطيئة لاغتدى حراثـا

ما جئتها من أي بابٍ جـئتـهـا

 

إلا حسبت بيوتـهـا أجـداثـا

تصدا بها الأفهام بعد صقالـهـا

 

وترد ذكران العقـول إنـاثـا

أرض خلعت اللهو خلعي خاتمي

 

فيها وطلقت السـرور ثـلاثـا

وأما حال عبده بعد فراقه في الجلد. فما حال أم تسعةٍ من الولد ذكورٍ، كأنهم عقبان وصقور، كنوا في وكور، اخترم منهم ثمانية، وهي على التاسع حانية، نادى النذير: العربان في البادية للعادية يا للعادية، فلما سمعت الداعي، ورأت الخيل وهي سراع، جعلت تنادي ولدها الأناة الأناة، وهو ينادي العياة العياة:

بطل كأن ثيابه في سـرحةٍ

 

يحذى نعال السبت ليس بتوأم

فحين رأته يختال في غصون الزرد المصون. أنشأت تقول:

نشدت أضبطاً يمـيل

 

بين طرفاء وغـيل

لباسه من نـسـج دا

 

ود كضحضاح يسيل

فعرض له في البادية أسد هصور. كأن ذرعه مسد مضفور:

فتطاعنا وتوافقت خيلاهما

 

وكلاهما بطل اللقاء مقنع

فلما سمعت صياح الرعيل، برزت من الخدر بصبرٍ قد عيل. فسألت عن الواحد. فقيل لها لحده اللاحد.

فكرت تبتغيه فصـادفـتـه

 

على دمه ومصرعه السباعا

عبثن به فلـم يتـركـن إلا

 

أديماً قد تمزق أو كراعـا

بأشد من عبدك تأسفاً. ولا أعظم كمداً ولا تلهفاً، وإنه ليعنف نفسه دائماً، ويقول لها لائماً، لو فطنت لقطنت. ولو عقلت لما انتقلت. ولو قنعت لرجعت وما هجعت.

يقيم الرجال الموسرون بأرضهم

 

وترمي النوى بالمقترين المراميا

وما تركوا أوطانهم عن مـلالةٍ

 

ولكن حذاراً من شملتي الأعاديا

أيها السيد: أمن العدل والإنصاف. ومحاسن الشيم والأوصاف. إكرام المهان. وإذلال جواد الرهان يشبع في ساجوره كلب الزبل ويسغب في خيسه أبو الشبل:

إذا حل ذو نقصٍ مكانة فاضلٍ

 

وأصبح رب الجاه غير وجيه

فإن حياة الحر غير شـهـيةٍ

 

إليه وطعم الموت غير كريه

أقول لنفسي الدنية هبي طال نومك، واستيقظي لا عز قومك، أرضيت بالعطاء المنزور؟ وقنعت بالمواعيد الزور، يقظةً فإن الجد قد هجع، ونجعةً فمن أجدب انتجع. أعجزت في الأدباء عن خلق الحرباء؟ ولي لسان كالرشاء. تنسم أعلى السماء. ناط همته بالشمس، مع نعدها عن اللمس، أنف من ضيق الوجار، ففرخ في الأشجار، فهو كالخطيب على الغصن الرطيب.

وإن صريح الرأي والحزم لمرئٍ

 

إذا بلغته الشمس أن يتـحـولا

وقد أصحب عبده هذه الأسطر شعراً يقصر فيه عن واجب الحمد، وإن بنيت قافيته على المد، وما يعد نفسه إلا كمهدي جلد السبتي الأسمر إلى الديباج الأحمر. أين ذو الحباب من ثغور الأحباب؟. وأين السراب من الشراب؟. والركي البكي من الواد ذي المواد. أتطلب الفصاحة من الغنم؟ والصباحة من المغتم؟ غلط من رأى الآل في القي فشبهه بهلهال الدبيقي. هيهات مناسج الرياط. تسبق تنيس ودمياط. ولا أقول كما قال القائل:

من يساجلني يساجل ماجداً

 

يملأ الدلو إلى عقد الكرب

بل أضع نفسي في أقل المواضع، وأقول لمولاي قول الخاضع:

فأسبل عليها ستر معروفك الذي

 

سترت به قدماً مخازي عوراتي

وها هي هذه:

فيك برحت بـالـعـذول إبـاء

 

وعصيت اللوام والنـصـحـاء

فانثنى العاذلون أخـيب مـنـي

 

يوم أزمعتم الـرحـيل رخـاء

من مجيري من فاتر اللحظ ألمي

 

جمع النـار خـده والـمـاء؟

فيه لليل والنـهـار صـفـات

 

فلهذا سر الـقـلـوب وسـاء

لازم شيمة الخـلاف فـإن لـذ

 

ت قسا أو دنوت منه تـنـاءى

يا غريب الصفات حق لمن كـا

 

ن غريباً أن يرحم الـغـربـاء

من صدودٍ ولوعتي وتـجـنـي

 

ه وإشـمـاتـه بـي الأعـداء

وإذا ما كتمت ما بـي مـن وج

 

دٍ أذاعته مقـلـتـاي بـكـاء

كعطايا سبأ بن أحمـد يخـفـي

 

ها فترداد شـهـرةً ونـمـاء

نرتجيه بهذه الـمـدح الـجـو

 

د وإن لم نمدحه جـاد ابـتـداء

ألمعي يكـاد ينـبـيك عـمـا

 

كان في الغيب فطـنةً وذكـاء

وإذا أخلف السـمـاء بـأرضٍ

 

أخلفت راحتاه ذاك الـسـمـاء

بندىً يخجل الغيوث انـهـمـالاً

 

وجدىً ينهل الرماح الظـمـاء

ما أبالي إذ أحسن الدهـر فـيه

 

أحسن الدهر للـورى أم أسـاء

أيها المجدب الضريك انتجـعـه

 

فعطـاياه تـسـبـق الأنـواء

تلق منه المهذب الماجد الـنـد

 

ب الكريم السـمـيذع الأبـاء

راحة في الندى تنيل نـضـاراً

 

وحسام في الروع يهمي دمـاء

يا أبا حمـيرٍ دعـوتـك لـلـده

 

ر فكنت امرأً يجيب الـدعـاء

فأبى البخل أن يكـون أمـامـاً

 

وأبى الجـود أن يكـون وراء

أنا أشكو إلـيك جـور زمـانٍ

 

دأبـه أن يعـانـد الأدبـــاء

أهملتني صـروفـه وكـأنـي

 

ألف الوصل ألغـيت إلـغـاء

إن سطا أرهب الضراغم في الآ

 

جام أو جاد بخل الـكـرمـاء

شيم مـن أبـيه أحـمـد لا ين

 

فك عنها تتبـعـاً واقـتـفـاء

قد تعاطى في المجد شأوك قوم

 

عجزوا واحتملت فيه العـنـاء

شرفاً شامخاً ومجـداً مـنـيفـاً

 

حمـيرياً وغـيرةً قـعـسـاء

مال عنـي بـمـا أؤمـل فـيه

 

كلما قلت سوف يأسـو أسـاء

رهن بيتٍ لو استقر به الـبـر

 

بوع لم يرضه لـه نـافـقـاء

نفضتني نفض المرجم حـتـى

 

خلتني في فم الـزامـن نـداء

منعتني من التصرف مـنـع ال

 

تعلل التسع صرفها الأسـمـاء

يا أبا حمـيرٍ وحـرمة إحـسـا

 

نك عندي ما كان حـبـي رياء

ما ظننت الزمان يبعدنـي عـن

 

،ك إلـى أن أفـارق الأحـياء

غير أني فدتك نفسي من السـو

 

ء وإن قلت أن تـكـون فـداء

ضاع سعيي وخبت خابت أعـا

 

ديك ومن يبتغي لك الأسـواء

واحتملت الزمان والنقص وال

 

إبعاد والذل والعنا والجـفـاء

وتجملت واضطربت فمـا أب

 

قى على عودي الزمان لحـاء

أعلى هذه المصـيبة صـبـر

 

لا ولو كنت صخرةً صمـاء؟

ولو أني لم أعتمد دون غـيري

 

لتـأسـيت أن أمـوت وفـاء

غير أن التصريح ليس بخـافٍ

 

عند من كان يفـهـم الإيمـاء

غير أني متنٍ عليك ومـا لـم

 

ت على ما لقيت إلا القضـاء

وسيأتيك في البعاد وفي القـر

 

ب مديح يستوقف الشـعـراء

فبشكرٍ رحلت عنـك وألـقـا

 

ك به إن قضى الإله لـقـاء

ليس يبقى في الدهر غير ثنـاءٍ

 

فاكتسب ما استطعت ذاك الثناء

وقال:

تشكي المحبون الصبابة ليتـنـي

 

تحملت ما يلقون من بينهم وحدي

فكانت لنفسي لذة الحب كلـهـا

 

فلم يدرها قبلي محب ولا بعدي

وقال:

هدايا الناس بعضهم لبـعـضٍ

 

تولد في قلوبهـم الـمـوده

وتزرع في النفوس هوىً وحباً

 

لصرف الدهر والحدثان عده

وتصطاد القلوب بلا شـراكٍ

 

وتسعد حظ صاحبهـا وجـده