أبو القاسم المعروف بابن العريف، النحوي الأديب الشاعر، له شرح كتاب الجمل في النحو للزجاج، وكتاب الرد على أبي جعفرٍ النحاس في كتابه الكافي، وغير ذلك، وكان مقدماً في العربية إماماً فيها، عارفاً بصنوف الآداب، أخذ العربية عن ابن القوطية وغيره، ورحل إلى المشرق فأقام بمصر مدةً طويلةً، وسمع فيها من الحافظ بن رشيقٍ، وأبي طاهرٍ الذهلي وغيرهما، ثم عاد إلى الأندلس فاختاره المنصور محمد بن أبي عامرٍ صاحب الأندلس مؤدباً لأولاده، وكان يحضر مجالسه، ومناظرته مع أبي العلاء صاعدٍ اللغوي البغدادي مشهورة، فمن ذلك أن المنصور جلس يوماً وعنده أعيان مملكته من أهل العلم، كالزبيدي صاحب الطبقات، والعاصمي وابن العريف صاحب الترجمة وغيرهم فقال لهم المنصور: هذا الرجل الوافد علينا يزعم أنه متقدم في هذه العلوم، وأحب أن يمتحن، فوجه إليه، فلما مثل بين يديه والمجلس قد غص بالعلماء والأشراف، خجل صاعد واحتشم، فأدناه المنصور ورفع محله، وأقبل عليه وسأله عن أبي سعيدٍ السيرافي، فزعم أنه لقيه وقرأ عليه كتاب سيبويه، فبادره العاصمي بالسؤال عن مسألة من الكتاب فلم يحضره جوابها، واعتذر بأن النحو ليس جل بضاعته، فقال له الزبيدي: فما تحسن أيها الشيخ؟ فقال: حفظ الغريب. قال: فما وزن أولق؟ فضحك صاعد وقال: أمثلي يسأل عن هذا، إنما يسأل عنه صبيان المكتب. قال الزبيدي: قد سألناك ولا نشك أنك تجهله، فتغير لونه فقال: وزنه أفعل. فقال الزبيدي: صاحبكم ممخرق فقال له صاعد: إخال الشيخ صناعته الأبنية، فقال له: أجل، فقال صاعد: وبضاعتي أنا حفظ الأشعار ورواية الأخبار وفك المعمى وعلم الموسيقى. قال فناظره ابن العريف - صاحب الترجمة - فظهر عليه صاعد وجعل لا يجري في المجلس كلمة إلا أنشد عليها شعراً شاهداً وأتى بحكايةٍ تناسبها، فأعجب المنصور فقربه وقدمه، وكان يوماً بمجلس المنصور أيضاً فأحضرت إليه وردةً في غير أوانها لم يكمل فتح وراقها، فقال فيها صاعد مرتجلاً:
أتتك أبا عـامـرٍ وردة |
|
يذكرك المسك أنفاسها |
كعذراء أبصرها مبصر |
|
فغطت بأكمامها رأسها |
فسر بذلك المنصور، وكان ابن العريف حاضراً فحسده وجرى إلى مناقضته، وقال للمنصور هذاالبيتان لغيره، وقد أنشدنيهما بعض البغداديين لنفسه بمصر وهما عندي على ظهر كتابٍ بخطه، فقال له المنصور: أرنيه، فخرج ابن العريف وركب وحرك دابته حتى أتى مجلس ابن بدرٍ، وكان أحسن أهل زمانه بديهةً فوصف له ما جرى، فقال ابن بدرٍ هذهالأبيات ودس فيها بيتي صاعدٍ:
غدوت إلى قصر عبـاسةٍ |
|
وقد جدل النوم حراسهـا |
فألفيتها وهي في خدرها |
|
وقد صدع السكر أناسها |
فقالت أسرت على هجعةٍ |
|
فقلت بلى فرمت كاسها |
ومدت يديهـا إلـى وردةٍ |
|
يحاكي لك الطيب أنفاسها |
كعذراء أبصرها مبصـر |
|
فغطت بأكمامها رأسهـا |
وقالت خف الله لا تفضح |
|
ن في ابنة عمك عباسها |
فوليت عنها على خجـلةٍ |
|
وما خنت ناسي ولا ناسها |
فطار ابن العريف بها وعلقها على ظهر كتابٍ بخطٍ مصريٍ ومدادٍ أشقر ودخل بها على المنصور، فلما رآها اشتد غيظه وقال للحاضرين غداً أمتحنه،فإن فضحه الامتحان أخرجته من البلاد ولم يبق في موضعٍ لي عليه سلطان. فلما أصبح أرسل إليه فأحضر وحضر جميع الندماء والجلساء فدخل بهم إلى مجلسٍ قد أعد فيه طبقاً عظيماً فيه سقائف مصنوعة من جميع النواوير ووضع على السقائف لعب من ياسمينٍ في شكل الجواري وتحت السقائف بركة ماءٍ قد ألقى فيها اللآلئ مثل الحصباء وفي البركة حية تسبح، فلما دخل صاعد ورأى الطبق قال له المنصور: إن هذا يوم إما أن تسعد فيه معنا وإما أن تشقى، لأنه قد زعم هؤلاء القوم أن كل ما تأتي به دعوى، وهذا طبق ما توهمت أنه حضر بين يدي ملكٍ قبلي شكله، فصفه بجميع ما فيه، فقال له صاعد على البديهة:
أبا عامرٍ هـل غـير جـدواك واكـف |
|
وهل غير من عاداك في الأرض خائف |
|||
يسـوق إلـيك الـدهـر كـل غـريبةٍ |
|
وأعجب ما يلقهـا عـنـدك واصـف |
|||
وشائع نورٍ صاغهـا هـامـر الـحـي |
|
على حافتـيهـا عـبـقـر ورفـارف |
|||
ولما تناهى الحسن فيها تقـابـلـت |
|
عليها بأنواع الملاهـي وصـائف |
|
||
كمثل الظباء المستكـنة كـنـسـاً |
|
تظللها بالياسـمـين الـسـقـائف |
|
||
وأعجب منهـا أنـهـن نـواظـر |
|
إلى بركةٍ ضمت إليها الطـرائف |
|
||
حصاها اللآلئ سابح في عبابـهـا |
|
من الرقش مسموم الثعابين زواحف |
|
||
ترى ما تراه العين في جنبـاتـهـا |
|
من الوحش حتى بينهن السلاحـف |
|
||
فاستغربوا له تلك البديهة في مثل ذلك الموضع، وكتبها المنصور بخطه، وكان إلى ناحيته نت تلك السقائف سفينة فيها جارية من النوار تجذف بمجاذيف من ذهبٍ لم يرها صاعد، فقال له المنصور: أحسنت إلا أنك أغفلت ذكر السفينة والجارية، فقال للوقت:
وأعجب منها غادة فـي سـفـينةٍ |
|
مكللة تصبو إليهـا الـهـواتـف |
إذا راعها موج من الماء تتـقـي |
|
بسكانها ما هيجته الـعـواصـف |
متى كانت الحسناء ربان مـركـبٍ |
|
تصرف في يمنى يديه المجـاذف |
ولم تر عيني في الـبـلاد حـديقةً |
|
تنقلها في الراحتـن الـوصـائف |
ولا غرو أن أنشت معاليك روضةً |
|
وشتها أزاهير الربا والزخـارف |
فأنت امرؤ لو رمت نقل متـالـعٍ |
|
ورضوى ذرتها من سطاك نواسف |
إذا قلت قولاً أو بـدهـت بـديهةً |
|
فكلني لـه لـمـجـدك واصـف |
فأمر له المنصور بألف دينارٍ ومائة ثوبٍ، ورتب له في كل شهرٍ ثلاثين ديناراً وألحقه بندمائه. توفي أبو القاسم ابن العريف بطليطلة في رجبٍ سنة تسعين وثلاثمائةٍ.