باب الحاء - حماد بن ميسرة بن المبارك

حماد بن ميسرة بن المبارك

ابن عبيدٍ الديلمي، مولى بني بكر بن وائلٍ، وقيل مولى مكنف بن زيد الخيل، الكوفي المعروف بالرواية. قال المدائني: كان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها، وكانت ملوك بني أمية تقدمه وتؤثره وتستزيره، فيفد عليهم ويسألونه عن أيام العرب وعلومها، ويجزلون صلته وعن الهيثم بن عديٍ صاحبه وروايته قال: قال الوليد بن يزيد لحمادٍ الراوية: بم استحققت هذا اللقب فقيل لك الراوية؟ فقال: بأني أروي لكل شاعرٍ تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به، ثم أروي لأكثر منهم ممن أعرف أنك لم تعرفه ولم تسمع به، ثم لا أنشد شعراً لقديمٍ ولا محدث إلا ميزت القديم منه من المحدث. فقال: إن هذا لعلم وأبيك كبير، فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ قال: كثيراً، ولكني أنشدك على كل حرفٍ من حروف المعجم مائة قصيدةٍ كبيرةٍ، سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام. قال: سأمتحنك في هذا وأمره يالإنشاد، فأنشد حتى ضجر الوليد، ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه، فأنشده ألفين وتسعمائة قصيدة للجاهلين وأخبر الوليد بذلك، فأمر له بمائة ألف درهمٍ.

وروى عن حمادٍ الراوية أنه قال: كنت منقطعاً إلى يزيد بن عبد الملك، وكان أخوه هشام يجفوني لذلك دون سائر أهله من بني أمية، فلما مات يزيد وأفضت الخلافة إليه إلى هشامٍ خفته، فمكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا لمن أثق به من إخواني سراً، فلما لم أسمع أحد يذكرني أمنت فخرجت وصليت الجمعة في الرصافة، ثم جلست عند باب الفيل، فإذا شرطيان قد وقفا علي فقالا: يا حماد أجب الأمير يوسف بن عمر، فقلت في نفسي: هذا الذي كنت أحذره، ثم قلت لهما: هل لكما أن تدعاني حتى آتي أهلي فأودعهم وداع من لا ينصرف إليهم أبداً ثم أصير معكما إلى الأمير؟ فقالا: ما إلى ذلك سبيل، فاستسلمت إليهما وصرت إلى يوسف بن عمر وهو في الإيوان الأحمر فسلمت عليه، فرمى إلي كتاباً فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم" من عبد الله هشامٍ أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر، أما بعد: فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حمادٍ الراوية من يأتيك به غير مروعٍ ولا متعتعٍ وادفع إليه خمسمائة دينارٍ وجملاً مهرياً يسير عليه اثنتي عشرة ليلةً إلى دمشق، فأخذت الدنانير ونظرت فإذا جمل مرحول، فركبته وسرت اثنتي عشرة ليلةً حتى وافيت باب هشامٍ، فاستأذنت فأذن لي فدخلت عليه في دارٍ قوراء مفروشةٍ بالرخام. وهو في مجلسٍ مفروشٍ بالرخام بين كل رخامتين قضيب ذهبٍ، وهشام جالس على طنفسةٍ حمراء، وعليه ثياب خزٍ حمر وقد تضمخ بالمسك والعنبر، وبين يديه مسك مفتوت في أواني ذهبٍ يقلبه بيده فيفوح، فسلمت عليه بالخلافة فرد علي السلام واستدناني فدنوت منه حتى قبلت رجله، فإذا جاريتان لم أر مثلهما قط وفي أذني كل واحدةٍ منهما حلقتان فيهما لؤلؤتان تتقدان، فقال لي: كيف أنت يا حماد وكيف حالك؟ فقلت: بخيرٍ يا أمير المؤمنين. قال: أتدري فيم بعثت إليك؟ قلت: لا، قال: بعثت إليك بسبب بيتٍ خطر ببالي لا أعرف قائله. قلت: وما هو؟ قال:

ودعوا بالصبوح يوماً

 

قينة في يمينها إبريق

فقلت: هذا يقوله عدي بن زيدٍ المبادي في قصيدةٍ له، قال: فأنشدنيها فأنشدته:

بكر العاذلون في وضـح الـب

 

ح يقولون لي ألا تستـفـيق؟

ويلومون فيك يا ابنة عبـد الـل

 

ه و القلب عندكـم مـوهـوق

لست أدري إذ أكثروا العذل فيها

 

أعدو يلومـنـي أم صـديق؟

زانها حسنها وفـرع عـمـيم

 

وأثيث صلت الجـبـين أنـيق

وثنـايا مـفـلـجـات عـذاب

 

لا قصار ترى ولا هـن روق

ودعوا بالصبوح يوماً فجـاءت

 

قينة فـي يمـينـهـا إبـريق

قدمته على عقارٍ كـعـين الـد

 

ديك صفى سلافها الـراووق

مرة قبل مزجـهـا فـإذا مـا

 

مزجت لذ طعمها مـن يذوق

وطفا فوقها فقـاقـيع كـالـد

 

در صغار يثيرها التصـفـيق

ثم كان المزاج مـاء سـحـابٍ

 

لا صرىً آجن و لا مطـروق

 قال: فطرب هشام ثم قال: أحسنت يا حماد. يا جارية اسقيه، فسقتني شربةً ذهبت بثلث عقلي وقال: أعد فأعدت فاستخفه الطرب حتى نزل عن فرشه، ثم قال للجارية الأخرى: اسقيه، فسقتني شربةً ذهبت بثلث عقلي الثاني، فقلت: إن سقتني الثالثة افتضحت، فقال لي هشام: سل حاجتك، قلت: كائنةً ما كانت؟ قال: نعم، قلت: إحدى الجاريتين، فقال: هما جميعاً لك بما عليهما وما لهما، ثم قال للأولى: اسقيه، فسقتني شربةً لم أعقل بعدها حتى أصبحت، فإذا بالجاريتين عند رأسي وعدةٍ من الخدم مع كل واحد منهم بدرة، فقال لي أحدهم: أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك: خذ هذه فأصلح بها شأنك، فأخذتها والجاريتين وانصرفت إلى أهلي. قال الهيثم بن عديٍ: ما رأيت رجلاً أعلم بكلام العرب من حمادٍ، وقال الأصمعي: كان حماد أعلم الناس إذا نصح يعني إذا لم يزد وينقص في الأشعار والأخبار، فإنه كان متهماً بأنه يقول الشعر وينحله شعراء العرب، وقال المفضل الضبي: قد سلط على الشعر من حمادٍ الراوية ما أفسده فلا يصلح أبداً، فقيل له: وكيف ذلك؟ أيخطئ في روايةٍ أم يلحن؟ قال: ليته كان كذلك، فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجلٍ، ويدخله في شعره ويحمل ذلك عنه في الآفاق فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالمٍ ناقدٍ وأين ذلك؟. وذكر أبو جعفرٍ أحمد بم محمدٍ النحاس أن حماداً هو الذي جمع السبع الطوال ولم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقةً على الكعبة.
ولحمادٍ أخبار طوال اقتصرنا على ما ذكرناه منها، وكانت ولادته في سنة خمسٍ وتسعين، وتوفي سنة خمسٍ وخمسين ومائةٍ. رثاه ابن كناسة الشاعر بقوله:

لو كان ينجي من الردى حذر

 

نجاك مما أصابك الـحـذر

يرحمك الله من أخـي ثـقةٍ

 

لم يك فس صفو وده كـدر

فهكذا يفسد الالزمـان ويف

 

نى فـيه ويدرس الأثــر