باب الخاء - خالد بن صفوان بن عبد الله

خالد بن صفوان بن عبد الله

ابن عمرو بن الأهتم أبو صفوان التميمي المنقري، أحد فصحاء العرب وخطبائهم، كان رواية للأخبار خطيباً مفوهاً بليغاً، وكان يجالس هشام بن عبد الملك وخالداً القسري.

حدث العتبي قال: قال هشام بن عبد الملك لسبه ابن عقال وعنده الفرزدق وجرير والأخطل وهو يومئذٍ أمير: ألا تخبرني عن هؤلاء الذين قد مزقوا أعراضهم، وهتكوا أستارهم، وأغروا بين عشائرهم في غير خير ولا برٍ ولا نفعٍ أيهم أشعر؟ فقال سبة: أما جرير فيغرف من بحرٍ، وأما الفرزدق فينحت من صخرٍ، وأما الأخطل فيجيد المدح والفخر. فقال هشام: ما فسرت لنا شيئاً نحصله. فقال: ما عندي يغر ما قلت. فقال لخالد لن صفوان: صفهم لنا يا بن الأهتم، فقال: أما أعظمهم فخراً وأبعدهم ذكراً وأحسنهم عذراً وأشدهم ميلاً وأقلهم غزلاً وأحلامهم عللاً، الطامي إذا زخر، والحامي إذا زأر، والسامي إذا خطر، الذي إن هدر قال، وإن خطر صال، الفصيح اللسان، الطويل العنان، فالفرزدق، وأما أحسنهم نعتاً وأمدحهم بيتاً وأقلهم فوتاً، الذي إن هجا وضع، وإن مدح رفع، فالأخطل، وأما أغزرهم بحراً وأرقهم شعراً وأهتكهم لعدوه ستراً، الأغر الأبلق الذي إن طلب لم يسبق، وإن طلب لم يلحق، فجرير، وكلهم ذكي الفؤاد، رفيع العماء، وارى الزناد. فقال له مسلمة بن عبد الملك: ما سمعنا بمثلك يا خالد في الأولين، ولا رأينا في الآخرين. وأشهد أنك أحسنهم وصفاً، وألينهم عطفاً، وأعفهم مقالاً، وأكرمهم فعالاً. فقال خالد: - أتم الله عليكم نعمه وأجزل لديكم قسمه وآنس بكم الغربة وفرج بكم الكربة -، وأنت والله ما علمت أيها الأمر كريم الغراس، عالم بالناس، جواد في المحل، بسام عند البذل، حليم عند الطيش، في ذروة قريشٍ، ولباب عبد شمس، ويومك خير من أمس. فضحك هشام وقال: ما رأيت كتخلصك يا بن صفوان في مدح هؤلاء ووصفهم حتى أرضيتهم جميعاً.

وعن عمر بن شبه قال: مر خالد بن صفوان بابي نخيلة الشاعر الراجز وقد بني داراً فقال له أبو نخيلة: يا أبا صفوان، كيف ترى داري؟ قال رأيتك سألت فيها إلحافاً، وأنفقت ما جمعت لها إسرافاً، جعلت إحدى يديك سطحاً وملآت الأخرى سلاحاً. فقلت: من وضع في سطحي وإلا ملأته بسلحي، ثم ولي وتركه فقيل له: ألا تهجوه؟ فقال: إذن والله يركب بغلته ويطوف في مجالس البصرة ويصف ابنتي بما يعيبها.
عن يونس بن حبيب النحوي قال: قال رجل لخالد بن صفوان: كان عبدة بن الطبيب لا يحسن أن يهجو فقال: لا تقل ذاك، فو الله ما أبي عن عيٍ ولكنه كان يترفع عن الجاء ويراه ضعةً كما يرى تركه مروةً وشرفاً، ثم قال:

وأجرأ من رأيت بظهر غـيب

 

على عيب الرجال أولو العيوب

حدث شبيب بن شيب عن خالد بن صفوان قال: أوفدني يوسف بن عمر الثقفي إلى هشام بن عبد الملك في وفد العراق فقدمت عليه وقد خرج متبدياً بأهله وقرابته وحشمه وجلسائه وغاشيته، فنزل في أرضٍ قاعٍ صحصح تنائف أفيح في عام قد بكر وسميه، وتتابع وليه، وأخذت الأرض فيه زينتها من اختلاف ألوان نبتها من نور ربيعٍ مونقٍ، فهو في أحسن منظر ومخبرٍ وأحسن مستمطر، بصعيدٍ كأن ترابه قطع الكافور، حتى لو أن قطعةً ألقيت فيه لم تترب، وقد ضرب له سرادق من حبر كان صنعه له يوسف بن عمر باليمن، في فسطاط فيه أربعة أفرشةٍ من خزٍ أحمر مثلها مرافقها وعليه دراعه من خزٍ مثلها عمامتها، وقد أخذ الناس مجالسهم فأخرجت رأسي من ناحية السماط فنظر إلى مثل المستنطق لي، فقلت - أتم الله عليك يا أمير المؤمنين نعمه، وسوغكها بشكره، وجعل ما قلدك من هذا الأمر رشداً، وعاقبة ما تئول إليه خمداً، وأخلصه لك بالتقى، وكثره لك بالنما، ولا كدر عليك منه ما صفا، ولا خلط سروره بالردى -، فلقد أصبحت للمسلمين ثقةً ومستراحاً، إليك يفزعون في مظالمهم، وإياك يقصدون في أمورهم، وما أجد يا أمير المؤمنين - جعلني الله فداءك - شيئاً هو أبلغ في قضا حقك وتوقير مجلسك، وما من الله به علي من مجالستك والنظر إلى وجهك، من أن أذكرك نعمة الله عليك فأنبهك على شكرها. وما أجد في ذلك شيئاً هو أبلغ من حديثٍ من سلف قبلك من الملوك، فإن أذن لي أمير المؤمنين أخبرته. وكان متكئاً فاستوى قاعداً وقال: هات يا بن الأهتم، فقلت يا أمير المؤمنين: إن ملكاً من الملوك قبلك خرج في عامٍ مثل عامنا هذا إلى الخورنق والسدير في عامٍ قد بكر وسميه وتتابع وليه، وأخذت الأرض زينتها من اختلاف ألوان نبتها من نور ربيعٍ مونق في أحسن منظر وأحسن مخبر، بصعيد كأن ترابه قطع الكافور، وقد كان أعطى فتاء السن مع الكثيرة والغلبة والقهر، فنظر فأبعد النظر، فقال لمن حوله: هل رأيتم مثل ما أنا فيه؟ وهل أعطى أحد مثل ما أعطيت؟ فكان عنده رجل من بقايا حملة الحجة والمضي على أدب الحق ومناهجه، ولم تخل الأرض من قائم لله بالحجة في عباده، فقال: أيها الملك، إنك سألت عن أمرٍ، أفتأذن لي في الجواب عنه؟ قال نعم: قال: أرأيت هذا الذي أنت فيه؟ أشيءٌ لم تنزل فهي أم شيءٌ صار إليك ميراثاً؟ وهو زائل عنك، وصائر إلى غيرك كما صار إليك ميراثاً من لدن غيرك؟ قال: كذلك هو. قال: فلا أراك إلا أعجبت بشيء يسيرٍ تكون فيه قليلاً، وتغيب عنه طويلاً وتكون غداً بحسابه مرتهناً. قال: ويحك، فأين المهرب وأين المطلب؟؟ قال: فإما أن تقيم في ملكك وتعمل فيه بطاعة ربك على ما ساءك وسرك ومضك وأرمضك، وإما أن تضع تاجك وتخلع أطمارك وتلبس مسوحك وتعبد ربك في جبل حتى يأتيك أجلك. قال: فإذا كان السحر فاقرع علي بابي، فإني مختار أحد الرأيين، فإن اخترت ما أنا فيه كنت وزيراً لا يعصى، وإن اخترت خلوات الأرض وقفر البلاد كنت رفقاً لا يخالف. فلما كان السحر قرع عليه بابه، فإذا قد وضع تاجه وخلع أطماره ولبس المسوح وتهيأ للسياحة، فلزما والله الجبل حتى أتاهما أجلهما، فذلك حيث يقول أخو بني تميمٍ عدي بن زيدٍ العبادي:

أيهـا الـشامت الـمـيعـر بـالـــده

 

رأأنـت المـــبـرأ الـمـــوفـــور؟

أم لـديك العـهـد الــوثـيق من الأي

 

ام بـل أنـت جـاهـــل مــغـــرور؟

من رأيت المنون خـلـدن أم مـــن

 

ذا علـيه مـن أن يضـام خـــفـــير؟

أين كسرى كسرى الملوك

 

أنوشروان أم أين قبله سابور؟

وبنو الأصفر الكرام ملوك ال

 

روم لم يبق منــهـــم مـــذكـــور

وأخـو الـخــضــر إذ نـباه وإذ دج

 

له تجـبــى إلــيه والــخــابـــور

شاده مـرمـراً وجـلـلــه كــل

 

ساً فلـلــطــير فـــي ذراه وكـــور

لم يهـبـه ريب الـمــنـون فـبـاد ال

 

ملك عنـه فـبـابـه مــهـــجـــور

وتـذكـر رب الـخــورنـــق إذ أش

 

رف يومـاً ولـلـهـدى تفـــكـــير

سره مــالــه وكــثــرة مـــا يم

 

لك وابحـر مـعــرضــاً والـســدير

فارعوى قلـبـه وقـال ومـا غــب

 

طه حيٍ إلـى الـمـمــات يصـــير

ثم بـعـد الـفـلاح والـملك والــنع

 

مة وارثـهــم هــنـاك قــبـــور

ثم صــاروا كـــأنـهــم ورق ج

 

ف فألوت به الـصـبــا والــدبــور

قال: فبكى هشام حتى اخضلت لحيته وبلت عمامته، وأمر بنزع أبنيته ونقل قرابته وأهله وحشمه وجلسائه وغاشيته ولزم قصره. فأقبلت الموالي والحشم على خالد بن صفوان فقالوا: ما أردت بأمير المؤمنين؟ نغصت عليه لذاته وأفسدت مأدبته. فقال لهم: إليكم عني فإني عاهدت الله عز وجل ألا أخلو بملك إلا ذكرته الله عز وجل.

وتقدم في ترجمة حميدٍ الأرقط من كلام أبي عبيدة أن خالد بن صفوان مع فضله وجلالته أحد بخلاء العرب الأربعة. وروى أنه أكل يوماً خبزاً وجبناً فرآه أعرابي فسلم عليه، فقال له خالد: هلم إلى الخبز والجبن فانه حمض العرب، وهو يسيغ اللقمة، ويفتق الشهوة، وتطيب عليه الشربة، فانحط الأعرابي فلم يبق شيئاً منهما. فقال خالد: يا جارية زيدينا خبزاً وجبناً، فقالت: ما بقي عندنا منه شيء. فقال خالد: الحمد لله الذي صرف عنا معرته وكفانا مئونته، والله إنه لم علمته ليقدح في السن، ويخشن الحلق، ويربو في المعدة، ويعسر في المخرج، فقال الأعرابي: والله ما رأت قط قرب مدحٍ من ذمٍ أقرب من هذا.

ومن حكم خالد بن صفوان: إن جعلك الأمر أخاً فاجعله سيداً، ولا يحدثن لك الاستئناس به غفلة عنه ولا تهاوناً. وقال: ابذل لصديقك مالك، ولمعرفتك بشرك وتحيتك. وللعامة رفدك وحسن محضرك، ولعدوك عدلك، واصنن بدينك وعرضك عن كل أحدٍ. وقال: إن أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة وأنقص الناس عقلاً من ظلم من هو دونه. وقال لا تطلبوا الحوائج في غير حينها، ولا تطلبوها إلى غير أهلها، ولا تطلبوا ما لستم له بأهل فتكونوا للمنع أهلاً. توفي خالد بن صفوان سنة خمس وثلاثين ومائة.