باب السين - سعد بن محمد بن سعد

سعد بن محمد بن سعد

ابن الصيفي التميمي، شهاب الدين أبو الفوارس، المعروف بحيص بيص، الفقيه الأديب الشاعر، كان من أعلم الناس بأخبارالعرب ولغاتهم وأشعارهم، أخذ عنه الحافظ أبو سعدٍ السمعاني وقرأ عليه ديوان شعره وديوان رسائله، وذكره في ذيل مدينة السلام وأثنى عليه، وأخذ الناس عنه علماً وأدباً كثيراً، وكان لا يخاطب أحداً إلا بكلام مغربٍ، وإنما قيل له حيص بيص، لأنه رأى الناس يوماً في أمر شديدٍ، فقال: ما للناس في حيص بيص، فبقي عليه هذا اللقب.

مات ليلة الأربعاء سادس شعبان سنة أربعٍ وسبعين وخمسمائةٍ ببغداد، ومن تقعر الحيص بيص في كتابته: ما حدث به بعض أصحابه أنه نقه من مرضٍ فوصف له صاحبه هبة الله البغدادي الطبيب أكل الدراج فمضى غلامه واشترى دراجاً واجتازعلي باب أميرٍ وغلمانه بالعيون، فخطف أحدهم الدراج فأتى الغلام الحيص بيص وأخبره الخبر فقال له: ائتني بدواةٍ وقرطاسٍ فأتاه بهما فكتب إلى ذلك الأمير: لو كان مبتز دراجةٍ فتخاءٍ كاسرٍ وقف بها السغب بين التدويم والتمطر فهي تعقى وتسف وكان بحيث تنقل أخفاف الإبل لوجب الإغذاذ إلى نصرته، فكيف وهو ببحبوحة كرمك والسلام. ثم قال لغلامه: امض بها وأحسن السفارة بإيصالها للأمير، فمضى بها ودفعها للحاجب فدعا الأمير بكاتبه وناوله الرقعة فقرأها ثم فكر ليعبر له عن المعنى فقال له الأمير: ما هو؟ فقال: مضمون الكلام أن غلاماً من غلمان الأمر أخذ دراجاً من غلامه. فقال: اشتر له قفصاً مملوءاً دراجاً واحمله إليه ففعل. وكتب إلى أمين الدولة ابن التلميذ يطلب منه شياف أبارٍ. أزكنك أيها الطب اللب الآسى النطاسي النفيس النقريس، أرجنت عندك أم خنورٍ، وسكعت عنك أم هوبرٍ، أني مستأخذ أشعر في حنادري رطباً ليس كلب شبوةٍ ولا كنخر المنصحة ولا كنكز الحضب بل كسفع الزخيخ، فأنا من التباشير إلى الغباشير، لا أعرف ابن سميرٍ من ابن جميرٍ، ولا أحس صفوان من همام، بل آونةً أرجحن شاصباً وفينةً أحنبطي مقلولياً وتارةً أعرنزم، وطوراً أسلنقي، كل ذلك مع أخٍ وأخٍ، وتهم قرونتي أن أرفع عقيرتي بعاط عاطٍ إلى هياطٍ، ومياطٍ وهالى أول وأهون، وجبار ودبار ومؤنس وعروبة وشيار، ولا أحيص ولا أليص، ولا أغر ندي ولا أسرندي، فبادرني بشياف الأبار، النافع لعلتي النافع لغلتي.

فلما قرأ أمين الدولة رقعته نهض لوقته وأخذ حفنة شياف أبارٍ، وقال لبعض أصحابه: أوصلها إليه عاجلاً ولا تتكلف قراءة ورقةٍ ثانيةٍ.
ومن شعره يمدح المقتفي لأمر الله:

ماذا أقول إذا الرواة ترنـمـوا

 

بفصيح شعري في الإمام العادل

واستحسن الفصحاء شأن قصيدةٍ

 

لأجل ممدوحٍ وأفصـح قـائل

وترنحت أعطافهم فـكـأنـمـا

 

في كل قافيةٍ سـلافة بـابـل

ثم انثنوا غب القريض وصنعـه

 

يتساءلون عن الندى والـنـائل

هب يا أمير المؤمنين بـأنـنـى

 

فس الفصاحة ما جواب السائل؟

ودخل ابن القطان يوماً على الوزير الزينبي وعنده الحيص بيص فقال: قد عملت بيتين هما نسيج وحده، وأنشد:

زار الخيال بخيلاً مثل مرسله

 

فما شفاني منه الضم والقبل

ما زارني قط إلا كي يوافيني

 

على الرقاد فينفيه ويرتحـل

فقال الوزير للحيص بيص ما: تقول في دعواه؟ هذه فقال: إن أنشدهما ثانيةً سمع لهما ثالثاً، فأنشدهما فقال الحيص بيص:

وما درى أن نومي حيلة نصبت

 

لطيفه حين أعيا اليقظة الحيل؟

وحدث نصر الله بن مجلي قال: رأيت في المنام علي ابن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - فقلت له يا أمير المؤمنين: تفتحون مكة فتقولون: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثم يتم على ولدك الحسين يوم الطف ماتم؟ فقال: أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا؟ فقلت لا، فقال اسمعا منه. فلما استيقظت بادرت إلى دار الحيص بيص، فخرج إلى فذكرت له الرؤيا فأجهش بالبكاء وحلف بالله أنه ما سمعها منه أحد وأنه نظمها في ليلته هذه ثم أنشدني:

ملكنا فكان العفو منـا سـجـيةً

 

فلما ملكتم سال بالـدم أبـطـح

وحللتم قتل الأسارى وطـالـمـا

 

غدونا عن الأسرى نعف وتصفح

فحسبكم هذا التفـاوت بـينـنـا

 

وكل إناء بالذي فـيه ينـضـح

ومن شعره أيضاً:

ألعين تبدي الذي في قلب صاحبها

 

من الشناءة أو حـبٍ إذا كـانـا

إن البغيض له عين تكـشـفـه

 

لا تستطيع لما في القلب كتمانـا

فالعين تنطق والأفواه صـامـتة

 

حتى ترى من ضمير القلب تبيانا