باب العين - عثمان بن جني أبو الفتح النحوي

عثمان بن جنيٍ أبو الفتح النحوي

وكان جني أبوه مملوكاً رومياً لسليمان بن فهد الأزدي الموصلي، من أحذق أهل الأدب وأعلمهم بالنحو والتصريف، وصنف في ذلك كتباً أبر بها على المتقدمين، وأعجز المتأخرين، ولم يكن في شيءٍ من علومه أكمل منه في التصريف، ولم يتكلم أحد في التصريف أدق كلاماً منه، ومات لليلتين بقيتا من صفرٍ سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة في خلافة القادر، ومولده قبل الثلاثين وثلاثمائةٍ وهو القائل:

فإن أصبح بلا نـسـب

 

فعلمي في الورى نسبي

على أنـي أقـول إلـى

 

قرومٍ سـادةٍ نـجـب

قياصرة إذا نـطـقـوا

 

ارم الدهر في الخطب

أولاك دعا النبي لـهـم

 

كفى شرفاً دعاء نبـي

وحدث غرس النعمة أبو الحسن محمد بن هلال بن المحسن قال: حدثني أبي قال: كان من كتاب الإنشاء في أيام عضد الدولة وبعدها في أيام صمصام الدولة ابنه كاتب يعرف بأبي الحسين القمي قال: وشاهدته في ديوان الإنشاء يكتب بين يديي جدي أبي إسحاق لما ولاه صمصام الدولة، فاتفق أنه حضر يوماً عند جدي أبي إسحاق أبو الفتح عثمان بن جنيٍ النحوي في الديوان وجلس يتحدث مع جدي تارةً ومعي إذا اشتغل جدي أخرى، وكانت له عادة في حديثه بأن يميل بشفته ويشير بيده، فبقي أبو الحسين القمي شاخصاً ببصره تعجب منه، فقال له ابن جنىٍ: ما بك يا أبا الحسين تحدق إلى النظر، وتكثر من التعجب؟ قال: شيء ظريف، قال: ما هو؟ قال: شبهت مولاي الشيخ وهو يتحدث ويقول ببوزه كذا وبيده كذا بقرد رأيته اليوم عند صعودي إلى دار المملكة وهو على شاطئ دجلة يفعل مثل ما يفعل مولاي الشيخ، فامتعض أبو الفتح وقال: ما هذا القول يا أبا الحسين - فأعزك الله - ومتى رأيتني أمزح فتمزح معي أو أمجن فنمجن بي، فلما رآه أبو الحسين قد حرد واستشاط وغضب قال: المعذرة أيها الشيخ وإلى الله تعالى عن أن أشبهك بالقرد، وإنما شبهت القرد بك، فضحك أبو الفتح وقال: ما أحسن ما اعتذرت، وعلم أبو الفتح أنها نادرة تشيع، فكان يتحدث بها هو دائماً.

قال: واجتاز أبو الفتح يوماً وأبو الحسين في الديوان وبين يديه كانون فيه نار والبرد شديد. فقال له أبو الحسين: تعال أيها الشيخ إلى النير، فقال: أعوذ بالله، النير: هو صماد البقر.

وذكره أبو الحسن علي بن الحسن الباخرزي في دمية القصر فقال: ليس لأحد من أئمة الأدب في فتح المقفلات وشرح المشكلات ماله، فقد وقع عليها من ثمرات الإعراب ولاسيما في علم الإعراب، ومن تأمل مصنفاته وقف على بعض صفاته، فوربي إنه كشف الغطاء عن شعره وما كنت أعلم أنه ينظم القريض أو يسيغ ذلك الجريض حتى قرأت مرثيةً في المتنبي أولها:

غاض القريض وأذوت نضرة الأدب

 

وصوحت بعد رىٍ دوحة الـكـتـب

سلبت ثوب بهاء كنـت تـلـبـسـه

 

كما تخطف بالخـطـية الـسـلـب

ما زلت تصحب في الجلي إذا انشعبت

 

قلباً جميعاً وعزماً غير منـشـعـب

وقد حلبت لعمري الدهـر أشـطـره

 

تمطو بـهـمة لاوانٍ ولا نـصـب

من للهواجل يحيي ميت أرسـمـهـا

 

بكل جائلة التـصـدير والـحـقـب

قباء خوصاء محمـودٍ عـلالـتـهـا

 

تنبو عريكتها بالحلـس والـقـتـب

أم من البيض الظبا توكـافـهـن دم

 

أم من لسمر القنا والزغف واليلـب

أم للجحافل يذكى جمر جاحـمـهـا

 

حتى يقربها من جاحـم الـلـهـب

أم للمحافل إذ تبدو لـتـعـمـرهـا

 

بالنظم والنثر والأمثال والـخـطـب

أم للصواهل محمـرا سـرابـلـهـا

 

من بعد ما غربت معروفة الشهـب

أم للمناهل والظـلـمـاء عـاطـفة

 

يواصل السكر بين الورد والـقـرب

أم للقساطل تعتـم الـحـزون بـهـا

 

أم من لضغم الهزبر الضيغم الحرب

أم للملوك يحـلـيهـا ويلـبـسـهـا

 

حتى تمايس في أبرارها الـقـشـب

باتت وسادى أطـراب تـؤرقـنـي

 

لما غدوت لقى في قبضة الـثـوب

عمرت خدن المساعي غير مضطهـدٍ

 

كالنصل لم يدنس يومـاً ولـم يعـب

فاذهب عليك سلام المجد ما قلـقـت

 

خوص الركائب بالأكوار والشعـب

وحدث أبو الحسن الطرائفي قال: كان أبو الفتح عثمان بن جنيٍ يحضر بحلب عند المتنبي كثيراً ويناظره في شيء من النحو من غير أن يقرأ عليه شيئاً من شعره أنفةً وإكباراً لنفسه. وكان المتنبي يقول في أبي الفتح: هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس، وسئل المتنبي بشيراز عن قوله:

وكان ابنا عدوٍ كـاثـراه

 

له ياءي حروف أنيسيان

فقال: لو كان صديقنا أبو الفتح حاضراً لفسره. وحدث أبو إسحاق إبراهيم بن عليٍ الحصري في كتاب النورين: وقال بعض أهل العصر، وهو أبو الفتح عثمان ابن جنيٍ النحوي:

غزال غير وحشـىٍ

 

حكى الوحشى مقلته

رآه الورد يجني الور

 

د فاستكساه حلـتـه

وشم بأنفه الـريحـا

 

ن فاستهداه زهرته

وذاقت ريحه الصهبا

 

ء فاختلسته نكهتـه

وكان أبو الفتح بن جنيٍ ممتعاً بإحدى عينيه، فلذلك يقول في صديقٍ له:

صدودك عني ولا ذنب لي

 

دليل على نـيةٍ فـاسـده

فقد وحياتك مما بـكـيت

 

خشيت على عيني الواحده

ولولا مـخـافة ألا أراك

 

لما كان في تركها فـائده

وحدثت أنه صحب أبا عليٍ الفارسي أربعين سنة وكان السبب في صحبته له: أنا أبا عليٍ اجتاز بالموصل فمر بالجامع وأبو الفتح في حلقةٍ يقرئ النحو وهو شاب فسأله أبو علي عن مسألةٍ في التصريف فقصر فيها، فقال له أبو علي: زببت وأنت حصرم، فسأل عنه فقيل له: هذا أبو عليٍ الفارسي فلزمه من يومئذٍ واعتنى بالتصريف فما أحد أعلم منه به ولا أقوم بأصوله وفروعه، ولا أحسن أحد إحسانه في تصنيفه. فلما مات أبو عليٍ تصدر أبو الفتح في مجلسه ببغداد بأخذ عنه الثمانيني وعبد السلام البصري وأبو الحسن السمسمي. وكان لابن جني من الولد على وعالٍ وعلاء وكلهم أدباء فضلاء قد خرجهم والدهم وحسن خطوطهم، فهم معدودون في الصحيحي الضبط، وحسني الخط. ومن كتاب سر السرور لأبي الفتح بن جنىٍ:

رأيت محاسن ضحك الربيع

 

أطال عليها بكاء السحـاب

وقد ضحك الشيب في لمتـى

 

فلم لا أبكي ربيع الشبـاب؟

أأشرب في الكأس كلا وحاشا

 

لأبصره في صفاء الشراب؟

وأنشد له:

تحبب أو تذرع أو تـأبـى

 

فلا واللـه لا أزداد حـبـا

أخذت ببعض حبك كل قلبي

 

فإن رمت المزيد فهات قلبا

قرأت بخط أبي علي بن إبراهيم الصابئ: ولأبي نصر بشر بن هارون في ابن جنيٍ النحوي وقد جرى بينه وبينه في معنى شيطان يقال: إنه يظهر بالراية اسمه العدار، وإذا لقى إنساناً وطأه، فقال له ابن جنيٍ: بودك لو لقيك فإنه كان لأمنتيك، فقال أبو نصرٍ:

زعمت أن العدار خدني

 

وليس خدناً لي العـدار

عفر من الجن أنت أولى

 

به وفيه لك افتـخـار

فالجن جن ونحن إنـس

 

شتان هذان يا حـمـار

ونحن من طينةٍ خلقنـا

 

ما خلق الجن منه نـار

العر والعار فيك تـمـا

 

والعور التام والعـوار

ونقل عن خط أبي الفتح بن جنيٍ خطبة نكاحٍ من أنشأته: الحمد لله فاطر السماء والأرض، ومالك الإبرام والنقض، ذي العزة والعلاء، والعظمة الكبرياء، مبتدع الخلق على غير مثالٍ، والمشهود بحقيقته في كل حالٍ، الذي ملأت حكمته القلوب نوراً، فاستودع علم الأشياء كتاباً مسطوراً، وأشرق في غياهب الشبه خصائص نعوته، واغترقت أرجاء الفكر بسطببة ملكوته، أحمده حمد معترف بجزيل نعمه وأحاظيه، ملتبساً بسني قسمه وأعاطيه. وأؤمن به في السر والعلن، وأستدفع بقدرته ملمات الزمن، وأستعينه على نوازل الأمور، وأدرئه في نحر كل محذور، وأشهد شهادةً تخضع لعلوها السموات وما أظلت، وتعجز عن حملها الأرضون وما أقلت، أنه مالك يوم البعث والمعاد والقائم على كل نفسٍ بالمرصاد، وأن لا معبود سواه، ولا إله إلا هو، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم، - وبحل وكرم -، عبده المنتخب، وحجته على العجم والعرب، ابتعته بالحق إلى أوليائه ضياءً لامعاً، وعلى المراق من أعدائه شهاباً ساطعاً، فابتذل في ذات الله نفسه وجهدها، وانتحى مناهج الرشد وقصدها، مستسهلاً ما يراه الأنام صعباً، ومستخصباً ما يرعونه بينهم جدباً، يغامس أهل الكفر والنفاق، ويمارس البغاة وأولى الشقاق، بقلبٍ غير مذهولٍ، وعزمٍ غير مفلول يستنجز الله صادق وعده، ويسعى في خلود الحق من بعده، إلى أن وطد بوانى الدين وأرساها، وشاد شرف الإسلام وأسماها، فصرم مدته التي أوتيها في طاعة الله موفقاً حميداً، ثم انكفأ إلى خالقه مطمئنا به فقيداً، صلى الله عليه وسلم ما ومض في الظلام برق، أو نبض في الأنام عرق، وعلى الخرة المصطفين من آله، والمقتدين بشرف فعاله، وإن مما أفرط الله تعالى به سابق حكمه، وأجرى بكونه قلم علمه، ليضم بوقوعه متباين الشمل، ويزم به شارد الفرع إلى الأصل، أن فلان بن فلان وهو كما يعلم من حضر من ذوي الستر وصدق المختبر، مشجوح الخليقة، مأمون الطريقة، متمسك بعصام الدين، آخذ بسنة المسلمين، خطب للأمر المحموم، والقدر المحتوم. من فلان بن فلان الظاهر العدالة والإنصاف، أهل البر وحسن الكفالة والكفاف، عقيلته فلانة بنت فلانٍ خيرة نسائها وصفوة آبائها في زكاء منصبها وطيب مركبها، وقد بذل لها من الصداق كذا وكذا، فليشهد على ذلك أهل مجلسنا، (وكفى بالله شهيداً) ثم يقرهما ثم يقال: لاءم الله على التقوى كلمتيكما، وأدام بالحسنى بينكما، وخار لكما فيما قضى. ولا أبتر كما صالح ما كسا وهو حسبنا وكفى.

قرأت بخط الشيخ أبي منصور موهوب بن الخضر، الجواليقي - رحمه الله - أنشدنا الشيخ الإمام أبو زكرياء يحيى بن علي التبريزي قال: أنشدنا عالي بن عثمان بن جنيٍ قال: أنشدنا أبي لنفسه:

وحلـو شـمـائل الأدب

 

منيف مراتب الحسـب

أخي فخر مـفـاخـره

 

عقـائل عـقـلة الأدب

له كلف بمـا كـلـفـت

 

به العلماء م الـعـرب

ببيت يفـاتـش الأنـقـا

 

ب عن أسرارها الغيب

فمن جـددٍ إلـى جـلـدٍ

 

إلى صعدٍ إلى صـبـب

ويسرب في معـانـيهـا

 

بضيض رواشح الثغـب

ويفرع فكـره الأبـكـا

 

ر منها من حمى الحجب

فيبردهـا وكـان بـهـا

 

وإن خفيت سنا لـهـب

يغازل من تـأمـلـهـا

 

غزال الخرد الـعـرب

يجد بهـا وتـحـسـبـه

 

للطف الفكر في لعـب

بساطة مذهب سبـكـت

 

عليه مـاءة الـذهـب

ورقة مأخـذٍ شـهـدت

 

بغلظة كل منـتـخـب

وطرداً للفروع عـلـى

 

أصـولٍ وطـدٍ رتـب

إذا ما انحـط غـائرهـا

 

سما فرعاً على الرتـب

قياساً مثـل مـا وقـدت

 

بليلٍ برزة الـشـهـب

وألفاظاً مهـذبة الـحـوا

 

شي ثـرةً الـسـحـب

فطوراً من ذرى عـلـمٍ

 

وطوراً من ذرى طنـب

إذا حازت لنـا سـلـبـاً

 

فعد عن القنا السـلـب

تركت مساجلـي أدبـي

 

طوال الدهر في تعـب

إذا أجـروا إلـى أمــدٍ

 

فقل في هـافةٍ لـغـب

وإن راموا مبـادهـتـي

 

سبقت وأوطئوا عقبـى

وكيف يروم منـزلـتـى

 

نزيل خبائث الـتـرب؟

وهل يسمو لقـارعـتـي

 

خفيض الخد ذو حـدب

وهل ينتاط بي سـبـبـاً

 

ضعيف مقاعد السـبـب

أغرة وجه سـابـقـهـا

 

تقاس بشعله الـذنـب؟

شكرت الله نـعـمـتـه

 

ومـا أولاه مــن أرب

زكت عندي صـنـائعـه

 

فوفقني وأحـسـن بـي

تخولـنـي وخـولـنـي

 

ونولـنـي ونـوه بـي

وأخر مـن يقـادمـنـي

 

وأعلاني وأرغـم بـي

فيا بـأبـي مـنـائحـه

 

وقل لـهـن يا بـأبـي

ضفون على عطف عـلاً

 

برفلٍ جد مـنـشـعـب

فإن أصبح بـلا نـسـبٍ

 

فعلى في الورى نسبـي

علـى أنـي أؤول إلـى

 

قرومٍ سـادةٍ نـجــب

قياصـرة إذا نـطـقـوا

 

أرم الدهر ذو الخطـب

أولاك دعا النبـي لـهـم

 

كفى شرفاً دعاء نـبـي

وإما فـاتـنـي نـشـب

 

كفاني ذاك من نشـبـي

وإن أركب مطا سـفـرٍ

 

مجد الـورد والـقـرب

فإني مـخـدل خـلـفـاً

 

يضاحي الشمس من كثب

إذا لم يبق لـي عـقـب

 

أقامت خير ما عـقـب

موشـحةً مـرشـــحةً

 

لنل الغاي مـن كـثـب

يصم صدى الحسود لهـا

 

ويخرق أطرق الركـب

إذا اهتزت كـتـائبـهـا

 

هفت خفـاقة الـعـذب

أزول وذكـرهـا بـاقٍ

 

على الأيام والـحـقـب

تناقلهـا الـرواة لـهـا

 

على الأجفان من حـدب

فيرتع فـي أزاهـرهـا

 

ملوك العجم والـعـرب

فمن مغـن إلـى مـدنٍ

 

إلى مثنٍ إلـى طـرب

كفاهـا أن يقـول لـهـا

 

بها الـدولة اقـتـربـي

إلى الله المـصـير غـداً

 

وعند الله مـطـلـبـي

له ظهري وعتـمـلـي

 

ومتجهي ومنـقـلـبـي

فقل للغامطـي نـعـى

 

وما راعيت من قربـي

وتثميري وتـنـشـئتـى

 

ومحتالي ومضطـربـي

ونهضي عنك أطعن فـي

 

نحور أوابـد الـنـوب

ورفعي من رذائلـك ال

 

لواتي بعضها سـبـبـي

ولـولا أنـت كـان أدي

 

م مأثرتـي بـلا نـدب

ألـهـا أشـــرت وأن

 

نزت بك بطنة الكـلـب

وأكرمك الأكـابـر لـي

 

وخالطت الأماثـل بـي

ورفعـت الـذلاذل عـن

 

معاطـف تـائهٍ حـرب

وأنـسـيت الأوائل بـال

 

أواخر نزقة العـجـب

وقـلـت أنـا وأين أنـا

 

ومن مثلي وحسبك بي؟

وقال لي الـوزير هـنـا

 

وأدنانـي ورحـب بـي

وقدمنـي ولـقـبـنـي

 

ووسطني وصـدر بـي

أسأت جوار عارفـتـي

 

فتق بطوارق العـقـب

وحسبي أن ألـم بـكـب

 

ر مثلك جارحاً حسـب

ولكـن الـدواء عـلـى

 

كراهته شفا الـوصـب

حدث أبو الحسن الطرائفي ببغداد قال: كان أبو الفتح عثمان بن جنيٍ في حلب يحضر عند المتنبي الكثير، ويناظره في شيء من النحو من غير أن يقرأ عليه ديوان شعره إكباراً لنفسه عن ذلك وكان المتنبي يعجب بأبي الفتح وذكائه وحذقه، ويقول: هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس، وسئل أبو الطيب بشيراز عن قوله:

وكان ابنا عدوٍ كاثـراه

 

له يأئي حروف أنيسيان

فقال: لو كان صديقنا أبو الفتح بن جنيٍ حاضراً فسره. قلت: وتفسيره أن لفظة إنسانٍ خمسة أحرفٍ إذا كانت مكبرةً، فإذا صغر قيل أنيسيان فزاد عدد حروفه وصغر معناه، فيقول للممدوح: إن عدوك الذي له إبنان فيكاثرك بهما كانا زائدين في عدده ناقصين من فضله وفخره، لأنهما ساقطان خسيسان كيائي أنيسيان تزيدان في عدد الحروف وتنقصان من معناه. قرأت بخط الشيخ أبي منصور بن الجواليقي قال لنا أبو زكرياء: رأيت بخط ابن جنىٍ: أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد القرميسيني عن أبي بكر محمد بن هارون اروياني عن أبي حاتم سهل بن محمد السجستاني قال: قرأ على أعراب (طيبي لهم وحسن مآبٍ)، فقلت: طوبى، فقال: طيبى، فقلت ثانياً: طوبى، فقال: طيبى، فلما طال علي قلت: طوطو، فقال الأعرابي: طى طى أما ترى إلى هذه النحيزة ما أبقاها وأشد محافظة هذا البدوي عليها، حتى إنه استسكره علي تركها فأبى إلا إخلاداً إليها. ونحو ذلك قال عمرو الكلبي: وقد أنشد بعض أهل الأدب:

بانت نعيمة والـدنـيا مـفـرقة

 

وحال من دونها غيران مزعوج

فقيل له: لا يقال مزعوج، إنما يقال مزعج فجفا ذلك عليه، وقال يهجو النحويين:

ماذا لقينا من المستعربـين ومـن

 

قياس نحوهم هذا الذي ابتدعـوا

إن قلت قافيةً بكراً يكـون بـهـا

 

بيت خلاف الذي قاسوه أو ذرعوا

قالوا لحنت وهذا ليس متـصـبـاً

 

وذاك خفض وهذا ليس يرتفـع

وخرصوا بين عبد الله من حمـقٍ

 

وبين زيدٍ فطال الضرب والوجع

كم بين قومٍ قد احتالوا لمنطقـهـم

 

وبين قومٍ على إعرابهم طبعـوا

ما كل قولي مشروحاً لكن فخذوا

 

ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا

لأن أرضي أرض لا تشب بـهـا

 

نار المجوس ولا تبني بها البـيع

قال ابن جني: وعلى نحو ذلك، فخضرني قديماً بالموصل أعرابي عقيلي جوني تميمي، يقال له محمد بن العساف الشجري، وقلما رأيت بدوياً أفصح منه، فقلت له يوماً شغفاً بفصاحته، والتذاذاً بمطاولته، وجرياً على العادة معه في إيقاظ طبعه واقتداح زند فطنته: كيف تقول أكرم أخوك أباك، فقال: كذاك، فقلت له: أفتقول أكرم أخوك أبوك؟ فقال: لا أقول أبوك أبداً. فقلت: فكيف تقول أكرمني أبوك؟ فقال: كذاك، قلت: ألست تزعم أنك لا تقول أبوك أبداً؟ فقال: إيش هذا اختلفت جهتا الكلام، فهل قوله اختلفت جهتا الكلام إلا كقولنا نحن هو الآن فاعل، وكان في الأول مفعولاً، فانظر إلى قيام معاني هذا الأمر في أنفسهم وإن لم تقطع به عبارتهم.

أخبرني أبو عليٍ عن أبي بكرٍ عن أبي العباس قال: سمعت عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير يقرأ (ولا الليل سابق النهار)، فقلت لك ما أردت؟ قال: أردت سابق النهار، فقلت له: فهلا قلته، فقال: لو قلته لكان أوزن أي أقوى وأفصح، ففي هذه الحكاية من فقه العربية ثلاثة أشياء: أحدها أنهم قد يراعون من معانيهم ما ننسبه إليهم ونحمله عليهم. والثاني أنهم قد ينطقون بالشيء وفي أنفسهم غيره، ألا ترى أنه لما نص أبو العباس عليه واستوضح ما عنده قال: أردت كذا، وهو خلاف ما لفظ به. والثالث أنهم قد ينطقون بالشيء وغيره أقوى منه استلانةً وتخفيفاً، ألا تراه كيف قال: لو قلته لكان أوزن أي أقوى وأعرب.

قال ابن جنىٍ: وسألت الشجري صاحبنا هذا الذي قد مضى ذكره قلت له: كيف يا أبا عبد الله تقول: اليوم كان زيد قائماً، فقال: كذلك، فقلت: فكيف تقول اليوم إن زيداً قائم، فإياها ألبتة، وذلك أن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها، لأنها إنما تأتي أبداً مستقبلة قاطعةً لما قبلها عما بعدها، وما بعدها عما قبلها. قلت له يوماً ولابن عمٍ له يقال له غصن، وكان أصغر منه سناً وألين لساناً، كيف تحقران حمراء؟ فقالا: حميراء قلت: فصفراء، قالا: صفيراء، قلت: فسوداء، قالا: سويداء، واستمررت بها في نحو هذا فلما استويا عليه دسست بين ذلك علباء فقلت: فعلباء فأسرع ابن عمه على طريقته فقال: عليباء، وكان الشجري يقولها معه، فلما هم بفتح الباء استرجع مستنكراً فقال: أه عليبي، وأشم الفتحة دائماً للحركة في الوقف وتلك عادة. قال ابن جني: فسألته يوماً يا أيا عبد الله، كيف تجمع محرنجماً، وكان غرضي من ذلك أن أعلم ما يقوله، أيكسر فيقول حراجم، أم يصحح فيقول محرنجمات؟؟ فذهب هو مذهباً غير ذين فقال: وإيش فرقه حتى أجمعه وصدق، وذلك أن المحرنجم هو المجتمع يقولها مارا على شكيمته غير محسٍ لما أريده منه، والجماعة معي على غاية الاستغراب لفصاحته، قلت له: فدع هذا، إذا أنت مررت بإبلٍ محر نجمةٍ و أخرى محرنجمة وأخرى محرنجمةٍ تقول مررت بإبل ماذا؟ فقال وقد أحس الموضع: يا هذا هكذا أقول: مررت بإبل محرنجاتٍ وأقام على التصحيح ألبتة استيحاشاً من تكسير ذوات الأربعة لمصاقبها ذوات الخمسة التي لا سبيل إلى تكسيرها، لاسيما إذا كان فيها زيادة، والزيادة قد تعتد في كثير من المواضع اعتداد الأصول، حتى أنها لتلزم لزومها نحو كوكبٍ وحوشبٍ وضيون وهز نيران ودودرى وقرنفل، وهذا وضع يحتاج إلى إصغاء إليه وإرعاء عليه والوقت لتلاحمه وتقارب أجزائه مانع منه، ويعين الله فيما يليه على المعتقد المنوي فيه بقدرته. وسألته يوماً كيف تجع سرحاناً؟ فقال: سراحين، قلت: فدكانا، قال: دكاكين: قلت: فقرطاناً قال: قراطين، قلت: فعثمان قال: عثمانون، قلت: هلا قلت عثامين كما قلت سراحين وقراطين، فأباها البتة وقال: إيش ذا؟ أرأيت إنساناً يتكلم بما ليس من لغته؟ والله لا أقولها أبداً. استوحش من تكسير العلم إكثاراً له لاسيما وفيه الألف والنون اللتان بابهما فعلان الذي لا يجوز و فيه فعالين نحو سكران وغضبان.

فهرست كتب ابن جنىٍ، كتب ابن جنيٍ إجازة بما صورته: "بسم الله الرحمن الرحيم": قد أجزت للشيخ أبي عبد الله الحسين بن أحمد بن نصرٍ - أدام الله عزه - أن يروي عني مصنفاتي وكتبي مما صححه وضبطه عليه أبو أحد عبد السلام بن الحسين البصري - أيد الله عزه -: عنده منها كتابي الموسوم بالخصائص وحجمه ألف ورقةٍ، وكتابي التام في تفسير أشعار هذيل مما أغفله أبو سعيد الحسن ابن الحسين السكري - رحمه الله - وحجمه خمسمائة ورقة بل يزيد على ذلك، وكتابي في سر الصناعة وهو ستمائة ورقةٍ، وكتابي في تفسير تصريف أبي عثمان بكر بن محمد ابن بقية المازني وحجمه خمسمائة ورقةٍ، وكتابي في شرح المقصور والممدود عن يعقوب بن إسحاق السكيت وحجمه أربعمائة ورقةٍ، وكتابي في تعاقب العربية وأطراف به وحجمه مائتا ورقةٍ، وكتابي في تفسير ديوان المتنبي الكبير وهو ألف ورقةٍ ونيف، وكتابي في تفسير معاني هذا الديوان وحجمه مائة ورقةٍ وخمسمون ورقةً، وكتابي اللمع في العربية وإن كان لطيفاً، وكذلك كتابي مختصر التصريف على إجماعه، وكتابي مختصر العروض والقوافي، وكتاب الألفاظ المهموزة، وكتابي في اسم المفعول المعتل العين من الثلاثي على إعرابه في معناه وهو المتقضب، وما بدأت بعمله من كتاب تفسير المذكر والمؤنث ليعقوب أيضاً - أعانه الله - على إتمامه، وكتاب ما خرج عني من تأييد المذكرة عن الشيخ أبي عليٍ- أدام الله عزه - وكتابي في المحاسن في العربية وإن كان ما جرى أزال يدي عنه حتى شذ عنها ومقداره ستمائة ورقةٍ، وكتابي النوادر الممتعة في العربية وحجمه ألف ورقةٍ وقد شذ أيضاً أصله عنى، فإن وقعا كلاهما أو شئ منهما فهو لاحق بما أجزت روايته هنا، وكتاب ما أحضرنيه الخاطر من المسائل المنثورة مما أمللته أو حصل في آخر تعاليقي عن نفسي وغير ذلك مما هذه حاله وصورته، فليرو - أدام الله عزه - ذلك عني أجمع إذا أصبح عنده وأنس بتثقيفه وتسديده، وما صح عنده - أيده الله - من جميع رواياتي مما سمعته من شيوخي- رحمهم الله - وقرأته عليهم بالعراق والموصل والشام وغير هذه البلاد التي أتيتها وأقمت بها مباركاً له فيه منفوعاً به بإذن الله، وكتب عثمان بن جنيٍ بيده حامداً سبحانه في آخر جمادى الآخرة من سنة أربعٍ وثمانين وثلاثمائةٍ: والحمد لله حق حمده عوداً على بدء. ومن كتبه ما لم تتضمنه هذه الإجازة: كتاب المحتسب في شرح الشواذ، وكتاب تفسير أرجوزة أبي نواس، وكتاب تفسير العلويات وهي أربع قصائد للشريف الرضى كل واحدةٍ في مجلدٍ، وهي قصيدة رثى بها أبا طاهر إبراهيم ابن نصر الدولة أولها.

ألق الرماح ربيعة بن نـزار

 

أودى الردى بقريعك المغوار

ومنها قصيدته التي رثى بها الصاحب بن عبادٍ وأولها:  

أكذا المنون تقطر الأبطـالا

 

أكذا الزان يضعضع الأجيالا

وقصيدته التي رثى بها الصابئ أولها:

أعلمت من حملوا على الأعواد

 

أرأيت كيف خبا زناد النـادي

وكتاب البشرى والظفر صنعه لعضد الدولة ومقداره خمسون ورقةً في تفسير بيتٍ من شعر عضد الدولة.

أهلاً وسهلاً بذي البشرى ونوبتها

 

وباشمال سرايانا على الظفـر

وكتاب رسالةٍ في مد الأصوات ومقادير المدات كتبها إلى أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد الطبري مقدارها ست عشرة ورقةً بخط ولده عالٍ: كتاب المذكر والمؤنث، كتاب المنتصف، كتاب مقدسات أبواب التصريف، وكتاب النقض على ابن وكيعٍ في شعر المتنبي وتخطئته، كتاب المغرب في شرح القوافي، كتاب الفصل بين الكلام الخاص والكلام العام، كتاب الوقف والابتداء كتاب الفرق، كتاب المعاني المجردة، كتاب الفائق، كتاب الخطيب، كتاب الأراجيز، كتاب ذي القد في النحو، وكتاب شرح الفصيح، وكتاب شرح الكافي في القوافي وجد على ظهر نسخةٍ ذكر ناسخها أنه وجده بخط أبي الفتح عثمان بن جنيٍ - رحمه الله - على ظهر نسخة كتاب المحتسب في علل شواذ القراءات.
أخبرني بعض من يعتادني للقراءة علي والأخد قال: رأيتك في منامي جالساً في مجلس لك على حال كذا وبصورة كذا، وذكر من الجلسة والشارة جميلاً، وإذا رجل له رواء ومنظر وظاهر نبلٍ وقدرٍ قد أتاك، فحين رأيته أعظمت مورده وأسرعت القيام له فجلس في مجلسك وقال لك: اجلس، فجلست فقال: كذا شيئاً ذكره، ثم قال لك: أتمم كتاب الشواذ الذي عملته فإنه كتاب يصل إلينا ثم نهض، فلما ولى سألت بعض من كان معه عنه فقال: علي ابن أبي طالب عليه السلام، ذكر هذا الرائي لهذه الرؤيا لي، وقد بقيت من نواحي هذا الكتاب أميكنة تحتاج إلى معاودة نظرٍ وأنا على الفراغ منها. وبعده ملحق في الحاشية بخطه أيضاً، ثم عاودتها فصحت بلطف الله ومشيئته، تمت الحكاية. وقرأت بخط الشيخ أبي الحسن على بن عبد الرحي السلمي: أنشدني الرئيس أبو منصور ابن دلال قال: أنشدنا أبو زكرياء يحيى بن علي التبريزي قال: أنشدني أبو العباس محمد بن الفضل بن محمد القصباني النحوي البصري بها لابن الزملدم الموصلي يهجو أبا الفتح ابن جنىٍ:

يا أبا الفتح قد أتيناك لـلـتـد

 

ريس والعلم في فنائك رحب

فوجدنا فتاة بينـك أنـحـى

 

منك والنحو مؤثر مستحـب

قدماها مرفوعة وهي خفض

 

قلم الأير فاعل وهو نصـب

مذهب خالفت شيوخك فـيه

 

فهي تصبى به الحليم وتصبو