أبو سعدٍ من أهل الكرخ، أحد الكتاب المعروفين ومن يضرب به المثل في الفصاحة وحسن العبارة، وكان نصرانياً فأسلم في زمان الوزير أبي شجاع وحسن إسلامه. قال الهمذاني: في رابع عشر صفرٍ سنة أربعٍ وثمانين وأربعمائةٍ، خرج توقيع الخليفة بإلزام أهل الذمة بلبس الغيار والتزام ما شرطه عليهم عمر بن الخطاب، فهربوا كل مهربٍ وأسلم بعضهم وأسلم أبو غالب بن الأصباغي، وفي ثاني هذا اليوم أسلم الرئيسان أبو سعدٍ العلاء بن الحسن بن وهب بن الموصلايا صاحب ديوان الإنشاء وابن أخته أبو نصر صاحب الخبر على يدي الخليفة بحيث يريانه ويسمعان كلامه، وكان يتولى ديوان الرسائل منذ أيام القائم بأمر الله، وناب في الوزارة وأضر في آخر عمره، وكان ابتداء خدمته لدار الخلافة القائمية في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائةٍ، فخدمها خمساً وستين سنة يزداد في كل يوم من أيامها جاهاً وحظوةً، وناب عن الوزارة عدة نوب مع ذهاب بصره، وكان أبو نصر هبة الله بن الحسن بن أخته يكتب الإنهاءات عنه إذا حضر، وكان كثير الصدقة والخير. ورسائله وأشعاره مدونة يتداول بها ويرغب فيها، أخذ عنه الشيخ أبو منصور موهوب بن الخضر الجواليقي وأنشده عنه:
أحن إلى روض التصابـي وأرتـاح |
|
وأمتح من حوض التصافي وأمتـاح |
||
واشتاق رئماً كلـمـا رمـت صـيده |
|
تصد يدي عنـه سـيوف وأرمـاح |
||
غزال إذا ما لاح أو فـاح نـشـره |
|
تعـذب أرواح وتـعــذب أرواح |
||
بنفسي وإن عـزت وأهـلـي أهـلة |
|
لها غرر في الحسن تبدو وأوضـاح |
||
نجوم أعاروا النور للبدر عـنـدمـا |
|
أغاروا على سرب الملاحة واجتاحوا |
||
فتنضـح الأعـذار فـيهـم إذا بـدوا |
|
ويفتضح اللاحون فيهـم إذا لاحـوا |
||
وكرخية عـذراء يعـذر حـبـهـا |
|
ومن زندها في الدهر تقدح أقـداح |
||
إذا جليت في الكأس والليل ما انجلـى |
|
تقابل إصباح لـديك ومـصـبـاح |
||
يطوف بها ساقٍ لسـوق جـمـالـه |
|
نفاق لإفساد الهـوى فـيه إصـلاح |
||
به عجمة في اللفظ تغرى بوصـلـه |
|
وإن كان منه بالقطـيعة إفـصـاح |
||
وغرته صـبـح وطـرتـه دجـىً |
|
ومـبـسـمة در وريقـتــه راح |
||
أباح دمي مذ بحت في الحب باسمـه |
|
وبالشجو من قبلي المحبون قد باحـو |
||
وأوعدني بالسوء ظلمـاً ولـم يكـن |
|
لإشكال ما يفضي إلى الضيم إيضاح |
||
وكيف أخاف الضيم أو أحذر الـردى |
|
وعوني على الأيام أبـلـج وضـاح |
||
وظل نظام الملك للكسر جابر |
|
وللضر مناع وللنفع منـاح |
||
ومن شعره:
يا خليلي خليانـي ووجـدي |
|
فملام المحب ما ليس يجدي |
ودعاني فقد دعاني إلى الحك |
|
م غريم الغرام للدين عنـدي |
فعسـاه يرق إذ مـلـك ال |
|
رق بنقدٍ من عدله أو بوعد |
ثم من ذا يجير منـه إذا جـا |
|
ر ومن لي على تعديه يعدى |
ومات العلاء
في الثاني والعشرين من جمادى الأولى سنة سبع وتسعين وأربعمائةٍ، ومولده سنة
اثنتي عشرة وأربعمائة، ودفن في تربة الطائع.
قال أبو الفرج في المنظم: نال أبو سعد بن الموصلايا من الرفعة في الدنيا ما
لم ينله أبناء جنسه، فإنه ابتدأ في خدمة دار الخلافة في أيام القائم سنة
اثنتين وثلاثين وأربعمائة، فخدمها خمساً وستين سنةً، وأسلم في سنة أربع
وثمانين، وناب عن الوزارة في أيام المقتدي وأيام المستظهر نوباً كثيرةً،
وكان كثير الصدفة كريم الفعال حسن الفصاحة، ويدل على فصاحته وغزارة علمه ما
كان ينشئه من كتابات الديوان والعهود. وحكى بعض أصحابه قال: شتمت يوماً
غلاماً لي فوبخني وقال: أنت قادرعلى تأديب الغلام أو صرفه، فأما الخنا
والقذف فإياك والمعاودة له، فإن الطبع يسرق والصاحب يستدل به على المصحوب،
وكانت وفاته فجأة. وقال محمد بن عبد الملك الهمذاني: لما عزل المقتدي
الوزير أبا شجاع خلع علي الأجل أبي سعد بن الموصلايا وكانت الخلعة دراعةً
وعمامة وحمل على فرس بمركب ذهب ووسم بنيابة الوزارة، وخلع على ابن أخته تاج
الرؤساء أبي نصرٍ هبة الله صاحب الخبر بن الحسن بن علي جبة وعمامة وحمل على
فرسٍ.
ومدح الأديب أبو المظفر الأبيوردي الأجل أبا سعدٍ وقد لقبه الخليفة بأمينا
لدولة بقصيدة منها:
وزعزع الصبح سلك النجم فانتثرت |
|
منه كماً تستطير النار بالشـعـل |
قال: ومن علم السير علم أن الخليفة والملوك لم ينقوا بأحدٍ ثقتهم بأمين الدولة، ولا نصحهم أحد نصحه، وتولى ديوان الإنشاء بعد سنة ثلاثين وأربعمائة، والناظر إذ ذاك عميد الرؤساء أبو طالب بن أيوب، وناب عن الوزارة المقتدرية والمستظهرية، ومن شعره:
يا هند رقي لفتـىً مـدنـف |
|
يحسن فيه طـلـب الأجـر |
يرعى نجوم الليل حتى يرى |
|
حل عراها بيد الـفـجـر |
ضاق نطاق الصبر عن قلبه |
|
عند اتساع الخرق في الهجر |
قال العماد - وقد ذكر هذه الأبيات الثلاثة - قد أرقى هذه الأبيات برقها وحلاوة الاستعارة في معناها مع دفتها وقد ساعده التوفيق في هذا التطبيق، وما كل شاعرٍ يتخلص من هذا المضيق، وهكذا شعر الكتاب يجمع إلى اللطافة ظرافةً، وإلى الحلاوة طلاوةً: وله:
وكأس كساها الحسن ثوب مـلاحةٍ |
|
فحارت ضياء يشبه الحسن والشمسا |
أضاءت له كف المدبر ومـا درى |
|
وقد دجت الظلماء أصبح أو أمسى |
وله:
أقول للائمي في حب ليلى |
|
وقد ساوى نهار منه لـيلا |
أقل فما أقلت قـط أرض |
|
محباً جر في الهجران ذيلا |
ولو ممن أحب ملأت عينـا |
|
لكنت إلى هواه أشد مـيلا |