باب العين - علي بن أحمد بن محمد الواحدي

علي بن أحمد بن محمد الواحدي

وقال أبو الحسن الواحدي في مقدمة البسيط: وأظنني لم آل جهداً في إحكام أصول هذا العلم حسب ما يليق بزمننا هذا وتسعة سنو عمري على قلة أعدادها فقد وفق الله وله الحمد، حتى اقتبست كل ما احتجت إليه في هذا الباب من مظانه وأخذته من معادنه، أما اللغة فقد درستها على الشيخ أبي الفضل أحمد بن بن محمد بن عبد الله بن يوسف العروضي رحمه الله، وكان قد حنق التسعين في خدمة الأدب، وأدرك المشايخ الكبار وقرأ عليهم وروي عنهم كأبي منصورٍ الأزهري، روي عنه كتاب التهذيب وغيره من الكتب، وأدرك أبا العباس العامري، وأبا القاسم الأسدي، وأبا نصرٍ ظاهر بن محمدٍ الوزيري، وأبا الحسن الرخجي، وهؤلاء كانوا فرسان البلاغة وأئمة اللغة، وسمع أبا العباس الاسم وروي عنه، واستخلفه الأستاذ أبو بكرٍ الخوارزمي على درسه عند غيبته، وله المنصفات الكبار والاستدراكات على الفحول من العلماء باللغة والنحو، وكنت قد لازمته سنين أدخل عليه عند طلوع الشمس وأخرج لغروبها، أسمع وأقرأ وأعلق وأحفظ وأبحث وأذاكر أصحابه ما بين طرفي النهار، وقرأت عليه الكثير من الدواوين واللغة حتى عابني شيخي - رحمه الله - يوماً وقال: إنك لم تبق ديواناً من الشعر إلا قضيت حقه، أما آن لك أن تتفرغ لتفسير كتاب الله العزيز تقرؤه على هذا الرجل الذي تأتيه البعداء من أقصى البلاد وتتركه أنت على قرب ما بيننا من الجوار، يعني الأستاذ الإمام أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، فقلت: يا أبت إنما أتدرج بهذا إلى ذلك الذي تريد، وإذا لم أحكم الأدب بجد وتعبٍ لم أرم في غرض التفسير من كتب، ثم لم أغب زيارته في يومٍ من الأيام حتى حال بيننا قدر الحمام.

وأما النحو فإني لما كنت في ميمة صباي وشرخ شبيبتي وقعت إلى الشيخ أبي الحسن علي بن محمد بن إبراهيم الضرير، وكان من أبرع أهل زمانه في لطائف النحو وغوامضه، وأعلمهم بمضايق طرق العربية وحقائقها، ولعله تفرس في وتوسم الخير لدي، تجرد لتخريجي وصرف وكده إلى تأديبي ولم يدخر عنى شيئاً من مكنون ما عنده حتى استأثرني بأفلاذه، وسعدت به أفضل ما سعد تلميذ بأستاذه، وقرأت عليه جوامع النحو والتصريف والمعاني، وعلقت عنه قريباً من مائة جزء في المسائل المشكلة، وسمعت منه أكثر مصنفاته في النحو والعروض والعلل، وخضني بكتابه الكبير في علل القراءة المرتبة في كتاب الغاية لابن مهران، ثم ورد علينا الشيخ أبو عمران المغربي المالكي وكان واحد دهره وباقعة عصره في علم النحو، لم يلحق أحد ممن سمعناه شأوه في معرفة الإعراب، ولقد صحبته مدةً في مقامه عندنا حتى استنزفت غرر ما عنده، وأما القرآن وقراءات أهل الأمصار واختيارات الأئمة فإني اختلفت إلى الأستاذ أبي القاسم علي بن أحمد البستي رحمه الله وقرأت عليه القرآن ختماتٍ كثيرةً لا تحصى، حتى قرأت عليه أكثر طريقة الأستاذ أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران، ثم ذهبت إلى الإمامين أبي عثمان سعيد بن محمد الحيري وأبي الحسن علي بن محمد الفارسي، وكانا قد انتهت إليهما الرياسة في هذا العلم، وأشير إليهما بالأصابع في علو السن ورؤية المشايخ وكثرة التلامذة وغزارة العلوم وارتفاع الأسانيد والوثوق بها، فقرأت عليهما وأخذت من كل واحدٍ منهما حظاً وافراً بعون الله وحسن توفيقه، وقرأت على الأستاذ سعيدٍ مصنفات ابن مهران، وروى لنا كتب أبي علي، الفسوي عنه، وقرأت عليه لفظي كتاب الزجاج بحق روايته عن ابن مقسمٍ عنه، وسمع بقراءتي الخلق الكثير، ثم فرغت للأستاذ أبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي رحمه الله، وكان خير العلماء بل بحرهم، ونجم الفضلاء بل يدرهم، وزين الأئمة بل فخرهم، وأوحد الأمة بل صدرهم، وله التفسير الملقب بالكشف والبيان عن تفسير القرآن، الذي رفعت به المطايا في السهل والأوعار، وسارت به الفلك في البحار، وهبت هبوب الريح في الأقطار:

فسار مسير الشمس في كل بـلـدةٍ

 

وهب هبوب الريح في البر والبحر

 وأصفقت عليه كافة الأمة على اختلاف نحلهم، وأقروا له بالفضيلة في تصنيفه ما لم يسبق إلى مثله، فمن أدركه وصحبه علم أن منقطع القرين، ومن لم يدركه فلينظر في مصنفاته ليستدل بها على أنه كان بحراً لا ينزف، وغمراً لا يسبر، وقرأت عليه من مصنفاته أكثر من خمسمائة جزءٍ، منها تفسيره الكبير وكتابه المعنون بالكامل في علم القرآن وغيرهما، ولو أثبت المشايخ الذين أدركتهم واقتبست عنهم هذا العلم من مشايخ نيسابور وسائر البلاد التي وطأتها طال الخطب ومل الناظر، وقد استخرت الله العظيم في جمع كتا بٍ أرجو أن يمدني الله فيه بتوفيقه مشتملٍ على ما نقمت على غيري إهماله، ونعيت عليه إغفاله، لا يدع لمن تأمله حارةً في صدره حتى يخرجه من ظلمة الريب والتخمين، إلى نور العلم واليقين، هذا بعد أن يكون المتأمل مرتاضاً في صنعة الأدب والنحو، مهتدياً بطرق الحجاج قارحاً في سلوك المنهاج، فأما الجذع المرخى من المتقبسين، والريض الكز من المبتدئين، فإنه مع هذا الكتاب كمزاولٍ غلقاً ضاع عنه المفتاح، ومتخبطٍ في ظلماء ليلٍ خانه المصباح:

يحاول فتق غيمٍ وهو يأبى

 

كعنينٍ يريد نكاح بكـر

ثم قال بعد كلامٍ: إن هذا الكتاب عجالة الوقت، وقبسة العجلان، وتذكرة يستصحبها الرجل حيث حل وارتحل، وإن أنسئ الأجل وأرخى الطول، وأنظرني الليل والنهار، حتى يتلفع بالمشيب العذار، أردفته بكتاب أنضجه بنار الروية، وأردده على رواق الفكرة، وأضمنه عجائب ما كتبته، ولطائف ما جمعته، وعلى الله المعول في تيسير ما رمت، وله الحمد كلما قعدت أو قمت.