باب العين - على بن الحسن القهستاني

على بن الحسن القهستاني

 أبو بكر العميد، أحد من أشرق بنور الآداب شمسه، وتقدم وإن تأخر زمانه بالفضل يومه وأمسه، وسما بفضل أدبه كل أفاضل جنسه، مشهور في أهل خراسان، مذكور معروف بينهم لايجهل قدره، ولايطمس بدره. وكان قد اتصل في أيام السلطان محمود ابن سيكتكين بولده محمد بن محمود في أيام أبيه لما قلده الخوزستان، وكان يميل إلى علوم الأوائل، ويدمن النظر في الفلسفة، فقدح في دينه ومقت لذلك. وكان كريماً جواداً ممدحاً، ولى الولايات الجليلة. وله أشعار فائقة ورسائل رائقة، وكان كثير المزاح، راغبا في اللهو والمراح، له في ذلك خاطر وقاد، وحكايات متداولة. وقد دونت رسائله، وشاعت فضائله، وكان يدمن المزاح حتى في مجلس نظره، وكان يعاتب على ذلك فلا يدعه لغلبة طبعه عليه. وكان قد تولى العرض فجرى يوما بين يديه في مجلس العرض ذكر المعمى فقال: قد كان عندي البارحة جماعة - سماهم - من أهل الأدب، فألقيت عليهم مثالاً يصعب استخراج مثله، فوقفوا فيه وهو:

مليحة القد والأعطاف قد جعـلـت

 

في الحجر طفلا له رأسان في جسد

قد ضيقت منه أنفاس الخنـاق بـلا

 

جرمٍ وتضربه ضربـاً بـلا حـرد

فتسمع الصوت منه حين تضـربـه

 

كأنه خارج من مـاضـغ الأسـد

ثم قال: لقد ساءني والله فلان - لرجل أسماه - إذ لم يفهم هذا القدر. فقال له غلام أمرد من أولاد الكتاب كان يتعلم في ديوانه: قد عرفت - أطال الله - بقاء الشيخ العميد هذا المعمى وهو الطبل: فقال له مبادراً كأنه كان قد أعد له ذلك: عهدي بك تستدخل الأعور، فكيف صرت تستخرج الأعمى؟ فخجل الغلام وضحك الحاضرون.

قال ابن عبد الرحيم: وحدثني أبو الفضل قال: بلغني إن القهستاني أنشد مرة بحضرة السلطان محمد بن محمود بيتاً من المعمى فلم يعرفه هو ولاندماؤه وهو:

دقيقة الساق لاعروق لهـا

 

تدوس رزق الورى بهامتها

فقال له محمد: مانفهم هذا ولانعرف شيئاً يشبهه ففسره. قال: هو مغرفة الباقلأني يغرف بها الماء ويهشم برأسها الخبز والثريد وهو رزق الورى، فاستبرده وثقل عليه عدم فهمه له، وهو لعمري مستبرد حقيقةً. قال: وحدثني إن هذا الرجل كان يتميز على أهل خراسان بحسن الأخلاق والسخاء وكثرة المعروف والعطاء، وكان الشعراء يقصدونه دائماً لما اشتهر من سماحته وفائض مروءته، فأنشده بعض الشعراء قصيدةً باردةً غير مرضيةٍ فغفل عنه وأخر صلته، فكتب بيتين في رقعةٍ وسأل الدواتى إن يتركها في دواته، ففعل وكان البيتان:

أبا بكر هجوتك لالطبـعـي

 

فطبعي عن هجاء الناس ناب

ولكني بلوت الطـبـع فـيه

 

فإن السيف يبلى في الكلاب

فوقعت بيد العميد بعد أيام، فلما وقف عليها استحسنها وسأل الدواتي عن الرجل فعرفه إياه فأمر بطلبه، فقيل له إنه سافر، فأرسل خلفه من استعاده من عدة فراسخ، فلما دخل إليه قام له وأكرمه وتلقاه بالإجلال وقال: لوكان مديحك كهجائك لقاسمتك نعمتي، فإني ما سمعت بأحسن من هذين البيتين، ووصله وأحسن جائزته، فاستجرأ الناس عليه وقالوا: إنه لايثيب إلا على الهجاء. قال: وكان أبو بكر القهستاني لهجاً بالغلمان شديد الميل إليهم، وكان لمحمد بن محمود سبعمائة غلامٍ في خيله فعلق العميد أحدهم وأحبه حباً مفرطاً ولم يستجرئ أن يبدى ذلك لما فيه من سوء العاقبة، فاتفق أن عاد الغلمان يوماً من بعض التصيدات فلقيهم العميد في صحن الدار فسلموا عليه وقرب ذلك الغلام منه وكان قد عرف ميله إليه فقرص فخذه، وكان محمد مشرفاً عليهم ينظر إلى ذلك، فنزل واستدعى الخدم وأمرهم بضربه فضربوه ضرباً مسرفاً ثم انفذه إلى العميد وقال له: قد وهبناه منك وصفحنا عن ذنبك، فلو لم يساعدك هذا ألفاً جر على ذلك لما أمكنك فعله، ولكن لاتعد إلى مثل هذا، فاستحيا العميد وقال: هذا أعظم من الضرب والأدب وتأخر عن داره حياءً فانفذ محمد واستدعاه وبسطه حتى زال إنقباضه، وكان محمد لا رأى له في الغلمان ولاميل عنده إليهم، وكان لمعرفته بمحبة العميد لهم لا يزال يهب منه واحداً بعد واحدٍ، وشكا الخدم إلى محمدٍ إن بعض الغلمان الدارية يمكن باقي الغلمان من وطئه ولايمتنع عليهم من الغشيان فقال: أيفعل هذا طبعاً أم يستجعل عليه؟ فقالوا: بل يستجعل عليه، فتقدم بإخراجه وإنفاذه إلى العميد وقال: قولوا له هذا بك أشبه لابنا، فخذه مباركاً لك فيه، وقال أبو بكر العميد في الميمندي وزير محمود:

ولقد سئمت من الوزي

 

ر ومـن ذويه زائدة

وغسلت من معروفهم

 

كلتـا يدي بـواحـدة

وضربتهم عرض الجدا

 

ر فليس فيهـم فـائدة

ومن مشهور قوله:

ومعقرب الأصداغ في

 

خديه ورد ينـتـثـر

لاعبته بالكعـبـتـي

 

ن مسامحاً حتى قمر

فازداد حسناً وجـهـه

 

لما رأى حسن الظفر

فنعرت نعرة عاشـق

 

قمر القمر قمر القمر

وله:

ومقرطق في صحن غرة وجهه

 

متصرف صرف الجمال وتحته

عاقرته أسكرتـه قـبـلـتـه

 

جدلته فقحـتـه سـرحـتـه

وله من أبيات كان يغني بها في حضرة الأمير محمد بن محمود:

قم يا خليلي فـاسـقـنـي

 

كشعاع خدك من شـراب

فلقد يمـر الـعـيش مـن

 

قرضاً ولامر السـحـاب

فانعم بعيشك مااسـتـطـع

 

ت ولاتضع شرخ الشباب

فلكم أضعت من الـشـبـا

 

ب ومااستفدى سوى اكتئاب

قال ابن عبد الرحيم: ثم ورد العميد إلى بغداد في أوائل سني نيفٍ وعشرين وأربعمائةٍ، ومدح أمير المؤمنين القادر بالله والأجل عميد الرؤساء أبا طالب بن أيوب كاتبه، ثم خرج من بغداد، وبلغني الآن في سنة إحدى وثلاثين إنه اتصل بالملوك السلجوقية الغز المتملكين على خراسان وخوارزم والجبل، وإنهم عرضوا عليه الخدم الجليلة فاختار منها ما يظن معه سلامة العاقبة والخلاص من التبعة، ومن قصيدته في القادر:

ولم يرني ذو منةٍ غير خالـقـي

 

وغير أمير المؤمنين بـبـابـه

غنينا بلا دنيا عن الخلق كلـهـم

 

وإن ما الغنى إلا عن الشيء لابه

ومما بلغني من شعره:

رأيت عماراً وليتى لم أره

 

حاز لتلك الطلعة المنكرة

لاأحمد الله على خلـقـه

 

فلو أراد الحمد ما صوره

وله يهجو ابن كثير العارض:

فلسنا نرجى الخير من ابن واحدٍ

 

فكيف نرجيه من ابن كـثـير

وله فيه:

وطول بـلا طـولٍ

 

وعرض بلا عرض

وهجاه بأبيات تصحف:

مالي وهذا العارض بن كثـيرٍ

 

شيخ العميد وماله يشـنـانـي

وهو الفؤاد بروحـه وأحـبـه

 

ويتـيه أين رأيتـه ورانــي

ويغض من قدري ويخمل جاهداً

 

ذكري ويخفي في الجنان جناني

يريد في الخنان خناني.