باب العين - على بن الحسن بن عنتر بن ثابت

على بن الحسن بن عنتر بن ثابت

المعروف بشميمٍ الحلى، أبو الحسن النحوي اللغوي الشاعر، مات في ربيع الأخر سنة إحدى وستمائة. أخبرني به العماد بن الحدوس العدل، وبمنزله مات بالموصل عن سن عالية، وهو من أهل الحلة المزيدية. قدم بغداد وبها تأدب، ثم توجه تلقاء الموصل والشام وديار بكر، وأظنه قرأ على أبي نزار ملك النحاة. فقال: كيف أرضى عنهم وليس لهم ما يرضيني؟ قلت: فما فيهم قط أحد بما يرضيك؟ فقال: لا أعلمه إلا أن يكون المتنبي في مديحه خاصة، وابن نباتة في خطبه، وابن الحريري في مقاما ته فهؤلاء لم يقصروا. قلت له: يا مولانا قد عجبت إذ لم تصنف مقامات تدحض بها مقامات الحريري، فقال لي: يابني اعلم إن الرجوع إلى الحق خير من التمادي على الباطل. عملت مقاماتٍ مرتين فلم ترضى فغسلتها، وما أعلم إن الله خلقني إلا لأظهر فضل ابن الحريري، ثم سطح في الكلام وقال: ليس في الوجود إلا خالقان: فأحد في السماء وأحد في الأرض، فالذي في السماء هو الله، والذي في الأرض أنا، ثم التفت إلي وقال: هذا كلام لا يحتمله العامة لكونهم لا يفهمونه، أنا لا أقدر على خلق شيء إلا خلق الكلام فأنا أخلقه، ثم ذكر اشتقاق هذه اللفظة، فقلت له: أيا مولانا؟ أنا رجل محدث وإن لم تكن في المحدث جراءة مات بغصته، وأحب أن أسأل مولانا عن شيءٍ إن أذن، فتبسم وقال: ما أراك تسأل إلا عن معضلة هات ما عندك. قلت: لم سميت بالشميمم؟ فشتمني ثم ضحك وقال: اعلم إنني بقيت مدة من عمري - ذكرها هو ونستيها أنا - لا آكل في تلك المدة إلا الطيب فحسب قصداً لتنشيف الرطوبة وحدة الحفظ، وكنت أبقى أياما لايجيئني الغائط، فإذا جاء كان شبه البندقة من الطين وكنت آخذه وأقول لمن انبسط إليه شمه فإنه لا رائحة له، فكثر ذلك حتى لقبت به، أرضيت يا بن الفاعلة.

هذا آخر ما جرى بيني وبينه، ثم أنشدت له من حماسته:

لا تسرحن الطرف في بقر المها

 

فمصارع الآجال فـي الآجـال

كم نظرةٍ أردت وما أخذت يد ال

 

مصمى لمن قتلت أداة قـتـال

سنحت وما سمحت بتسلـيم واق

 

لال التحية فعلة الـمـغـتـال

أضللت قلبي عندهن ورحـت إن

 

شده بذات الضال ضل ضلالـي

ألوى بألوية العقيق على الطلـو

 

ل مسائلا من لا يجيب سؤالـي

تربت يدي في مقصدي من لايدي

 

قودي وأولى لي بها أولى لـي

يا قاتل الله الدمـى كـم مـن دم

 

أجرين حلا كان غـير حـلال

أشلين ذل اليتم فـي الأشـبـال

 

وفتكن بالأجساد فـي الأغـيال

ونفرن حين نكرن إقبالـي ولـو

 

إني نفرت لكان من إقـبـالـي

لكن أبي رعى ذمام الـحـب إن

 

أولى الوفاء قطيعةً من قـالـى

وأنشدني تقي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي محمد المعروف بابن الحجاج، وأبو محمد هو الحجاج من شرقي واسط قال: أنشدني أبو الحسن على بن عنتر ابن ثابت الحلوى المعروف بشميم وقد قلت: لا أراك تذم أحداً من أهل العصر فقال لي: ليس لأحدٍ منهم عندي قيمة، فإنه لا يصلح للذم إلا من يصلح للمدح، أما سمعت قولي في الحماسة:

أصخ إنما مدح الفـتـى وهـجـاؤه

 

لدى الطبن النقريس ذا تـوءم لـذا

فحيث أنتوى ملقى المديح عصا الثوى

 

تراح بها من أينها قلص الـهـجـا

ومن ليس أهلاً للمديح ولا الهـجـا

 

فعيناه في عين الرضا ظلمة العمى

ويزرى بضرغام الـغـريف زئيره

 

على ذبخ عنوٍ هر أو أغضفٍ عوى

وأنشدني أيضا له:

قالوا نراك بكل فنٍ عـالـمـاً

 

فعلام حظك من دناك خسيس؟

فأجبتهم لاتعجبوا وتفـهـمـوا

 

كم ذاد نهزة ليث خيسٍ خـيس

حدثني ابن الحجاج تقي الدين قال: اجتمع جماعة من التجار الواسطيين بالموصل على زيارة شميم وتوافقوا على ألا يتكلموا بين يديه خوفاً من زلل يكون منهم، فلما حصلوا بين يديه قال أحدهم: أدام الله أيامك فالتفت إلي وقال: إيش هؤلاء؟ فإني أرى عمائم كباراً ظننتها على آدميين فسكتوا، فلما قاموا قال له آخر منهم: يا سيدي ادع لنا بشمل الجميع، فغضب وقال: إيش هؤلاء وكيف خلقهم الله؟ ثم حلف بخالقه وقال: لو قدرت على خلقه مثل هؤلاء إنفث من خلق مثلهم. قال المؤلف:  حدثني محمد بن حامد بن محمد بن جبريل بن محمد بن منعة بن مالك الموصلي الفقيه فخر الدين بمرو في سنة خمس عشرة وستمائة، في ربيع الأول منها قال: لما ورد شميم الحلي إلى الموصل بلغني فضله فقصدته لأقتبس من علومه، فدخلت عليه فجرى أمري على ماهو معروف به من قلة الاحتفال بكل أحدٍ، وجرت خطوب ومذاكرات إلى إن قال: ومن العجائب استحسان الناس قول عمرو بن كلثوم:

مشعشعة كان الحص فيها

 

إذا ما الماء خالطها خرينا

- كذا قال تهكماً - إلا قال كما قلت:

وسالت نطاف الراح في الراح فاغتدى الس

 

سمـاح إلـى راحـاتـنـا فـسـخـينـا

ثم أخرج رقعة من تحت مصلاه وقال لي: ما معنى قولي: قلب شطر أعاديك حظ من كفر أياديك؟ فقلت: أكتبها وأفسرها؟ فقال: اكتب، فكتبتها وقلت نعم: شطر أعاديك: ديك وقلبه: كيد، أردت إن الكيد حظ من كفر أياديك، فقال: أحسنت، وكان ذلك سبب إقباله على بعد ما تقدم من إهماله إياي، وأنشدني أبو حامد المذكور قال: أنشدني أبو الحسن على بن الحسن بن عنتر الحلي لنفسه:

أقيلي عثرة الشاكي أقـيلـي

 

فسولى في سماع نثا رسولى

وإن لم تأذني بفكاك أسـري

 

فدليني على صبر جـمـيل

حدثني الأمدي الفقيه قال: بلغني إنه لما قدم الحلي إلى الموصل إنثال إليه الناس يزورونه، وأراد نقيب الموصل - وهو ذو الجلالة المشهورة بحيث لا يخفى أمره على أحد - زيارته فقيل له: إنه لا يعبأ بأحد ولا يقوم من مجلسه لزائر أبداً، فجاءه رجل وعرفه ما يجب من احترام النقيب لحسبه ونسبه وعلو منزلته من الملوك، فلم يرد جواباً، وجاءه النقيب ودخل وجرى على عادته من ترك الاحتفال له ولم يقم عن مجلسه، فجلس النقيب ساعةً ثم انصرف مغضباً، فعاتبه ذلك الرجل الذي كان أشار عليه بإكرامه، فلم يرد عليه جواباً، فلما كان من الغد جاءه وفي يد الحلي كسرة خبزٍ يابسةٍ وهو يعض من جنبها ويأكل، فلما دخل الرجل عليه قال له: بسم الله، فقال له: وأي شيء هاهنا حتى آكل؟ فقال له: يا رقيع من يقنع من الدنيا بهذه الكسرة اليابسة لأي معنىً يذل للناس مع غناه عنهم واحتياجهم إليه.

حدثني الفقيه قال: بلغني إن الحلي قدم إلى أسعرت فتسامع به أهلها فقصدوه من كل فجٍ، وكان فيهم رجل شاعر فأنشده الرجل شعراً استجاده الحلي فقال لقائله: إني أرفع هذا الشعر عن طبقتك، فإن كنت في دعواك صادقاً فقل في معناه الآن شيئاً آخر، ففكر ساعة فقال:

وماكل وقت فيه يسمح خـاطـري

 

بنظم قريض يقتضي لفظه معنـى

ولم يبح الشرع المـبـين تـيمـمـاً

 

بترب وبحر الأرض في ساحةٍ معنا

فقال له الحلي: ويحك اسجد، ويلك اسجد، فإن هذا موضع من مواضع سجدات الشعر، وأنا أعرف الناس بها. ومما سمعته من قلق فيه وهو من إنشاء خطبة له وهي: الحمد لله فالق قمم حب الحصيد بحسام السحب، صابغ خد الأرض بقاني رشيق يانع العشب، نافخ روح الحياة في صور تصاويرها بسائح القراح العذب، يحي ميت الأرض بإماتة كالح الجدب، لابتسام ثغر نسيم إنفاح الخصب، محيل جسم طبيعة الماء المبارك في أشكال الحب والعنب والزيتون والقضب، جاعلة للأنام والأنعام، ذات الحمل والحلب، محلى جيد الآفلاك بقلائد دراري النجوم الشهب، ومجلى جند الأملاك عن مباشرة التصرف والكسب، وللقيام بالواجب وأصل التسبيح والتقديس للرب، قابل التوبة من المذنب المنيب وغافر الذنب، الواحد المنفرد بوحدانيته عن ملاءمة قسمة أعداد الحساب والضرب، المستغنى بصمديته عن مسيس الحاجى إلى دواعي الأكل والشرب، الشاهد على خلقه بما يفيضون فيه لألا تصاف بعد ولاقرب، المهيمن على سر اجتراح كل جارحة وخاطر خاطر وتقلب قلبٍ، أحمده على مامنح من موضح بيان بما ألب في سويداء لبٍ، وأشكره على ماجلا من مظلم ظلم جهل، وكشف من كثيف ركام كرب، وأشهد إن لاإله الأ الله وحده لاشريك له شهادةً سالمةً من شوائب النفاق والخب، مؤمنةً قائلها يوم الفزع الأكبر من إيحاش الرهب والرعب، وأشهد إن محمدا عبده المحبو بعقد حبا، خاتم الأنبياء من جميع أصحاب الصحف والكتب، وصفية المنتخب لنصر الدين وإقامة دعوى الإسلام بالبيض القضب والجرد القب والأسد الغلب. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما سنحت الغزالة بأفق شرقٍ وحجبت بغارب غربٍ، صلاة بفتى تكرارعديدها صم الحصا الصلب، ويبيد أربد الترب. عباد الله: من اختلف عليه الأباد باد، ومن تمكنت يد المنون من عنقه إنقاد، ومن تزود التقوى استفاد خير الزاد، ومن بدأ ببره وعاد للمعاد فاز بالأحماد، (يوم تجد كل نفس ماعملت من خيرٍ محضراً، وما عملت من سوء تود لو إن بينها وبينه أمداً بعيداً، ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد). اللهم نول آمالنا مناها، وكفل أعمالنا تقاها، وخول أطماعنا رضاها، ولاتشرب قلوبنا هوى دنياها، فإن المعاطب في حبها، وشين المعايب مزرٍ بها، فلا تجعل اللهم مهامنا فيها المنى، وآمنا بأمننا من كيد أمنا الدنا، برحمتك يا أرحم الراحمين، استغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين ولوالدي ولمن علمني

أسماء تصانيف الشيخ علي بن الحسن الشميم الحلي

كتاب النكت المعجمات في شرح المقامات، وكتاب أرى المشتارفي القريض المختار، وكتاب الحماسة من نظمه مجلد، وكتاب مناح المنى في إيضاح الكنى أربع كراريس، وكتاب درة التأميل في عيون المجالس والفصول مجلدان، وكتاب نتائج الإخلاص في الخطب مجلد، وكتاب إنس الجليس في التجليس مجلد، وكتاب أنواع الرقاع في الأسجاع، وكتاب التعازي في المزاري مجلد، وكتاب خطبٍ نسق حروف المعجم كراسان، وكتاب الأماني في التهاني مجلد، وكتاب المفاتيح في الوعظ كراسان، وكتاب معاياة العقل في معاناة النقل مجلد، وكتاب الإشارات المعرية مجلد، وكتاب المرتجلات في المسجلات أربع كراريس، وكتاب المخترع في شرح اللمع مجلد، وكتاب المحتسب في شرح الخطب مجلد، وكتاب المهتصر في شرح المختصر مجلد، وكتاب التحميض في التغميض كراسان، وكتاب بداية الفكر في بدائع النظمم والنثر مجلدان، وكتاب خلق الآدمي كراسان، وكتاب رسائل لزوم مالا يلزم كراسان، وكتاب اللزوم مجلدان، وكتاب لهنة الضيف المصحر في الليل المسحر كراسان، وكتاب متنزه القلوب في التصحيف كراس، وكتاب المنائح في المدائح مجلدان، وكتاب نزهة الراح في صفات الأفراح كراسان، كتاب الخطب المستضيئة، كتاب حرز النافث من عيث العائث، كتاب الخطب الناصرية، كتاب الركوبات مجلدان، كتاب شعر الصبي مجلد، كتاب إلقام الألحام في تفسير الأحلام، كتاب سمط الملك المفضل في مدح المليك الأفضل، كتاب مناقب الحكم في مثالب الأمم مجلدان، كتاب اللماسة في شرح الحماسة، كتاب الفصول الموكبية يشتمل على أربعين فصلاً، وكتاب مجتنى ريحانة الهم في استئناف المدح والذم، كتاب المناجاة.