هو أبو الحسن على بن حمزة بن عبد الله بن عثمان من ولد بهمن بن فيروز مولى بني أسد النحوي. أحد الأئمة في القراءة والنحو واللغة، وأحد السبعة القراء المشهورين، وهو من أهل الكوفة، استوطن بغداد وروى الحديث وصنف الكتب، ومات بالري صحبه الرشي على ما نذكره فيما بعد سنة اثنتين وثمانين ومائة أو ثلاث وثمانين ومائة، وقيل بعد ذلك في سنة تسع وثمانين، وقال مهدى بن سابقٍ: في سنة اثنتين وتسعين ومائة هو محمد بن الحسن الفقيه صاحب أبي حنيفة، فقال الرشيد: اليوم ذهب الفقه والعربية، قال الخطيب: إن عمر الكسائي بلغ سبعين سنه.
وكان الكسائي مؤدباً لولد الرشيد، وكان أثيراً عند الخليفة حتى أخرجه من طبقة المؤدبين إلى طبقة الجلساء والمؤانسين، وكان الكسائي قد قرأ على حمزة الزيات ثم اختار لنفسه قراءةً. وسمع من سليمان ابن أرقم وأبي بكر بن عياشٍ. وفي القراء آخر يقال له الكسائي الصغير، واسمه محمد بن يحيى، روى عنه ابن مجاهدٍ عن خلف بن هشامٍ النراز.
حدث الخطيب قال: قال الفراء: إنما تعلم الكسائي النحوي على كبرٍ، وسببه أنه جاء إلى قوم من الهباريين وقد أعيا فقال لهم: قد عييت. فقالوا له: أتجالسنا وأنت تلحن؟ فقال: كيف لحنت؟ قالوا: إن كنت أردت من انقطاع الحيلة والتحير في الأمر فقل عييت مخففاً، وإن كنت أردت من التعب فقل أعييت، فأنف من هذه الكلمة، ثم قام من فوره ذلك فسأل من يعلم النحو؟ فأرشدوه إلى معاذٍ الهراء فلزمه حتى أنفد ما عنده، ثم خرج إلى البصرة فلقى الخليل وجلس في حلقته، فقال له رجل من الأعراب: تركت أسد الكوفة وتميمها وعندها الفصاحة وجئت إلى البصرة، فقال للخليل: من أين أخذت علمك هذا؟ قال: من بوادي الحجاز ونجدٍ وتهامة، فخرج ورجع. وقد أنفد خمس عشرة قنينة حبرا في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ، فلم يكن له هم غير البصرة والخليل، فوجد الخليل قد مات وجلس في موضعه يونس النحوي، فمرت بينهما مسائل أقر له يونس فيها، وصدره موضعه. وحدث الخطيب أيضاً بإسنادٍ رفعه إلى عبد الرحيم ابن موسى قال: قلت للكسائي: لم سميت الكسائي؟ قال: لأني أحرمت في كساءٍ. قال: وقيل فيه قول آخر، وذكر إسناداً رفعه إلى محمد بن يحيى المروزى قال: سألت خلف بن هشام لم سمى الكسائي كسائياً؟ فقال: دخل الكسائي الكوفة فجاء إلى مسجد السبيع وكان حمزة بن حبيب الزيات يقرئ فيه، فتقدم الكسائي مع أذان الفجر، فجلس وهو ملتف بكساء من البرد كان أسود، فلا صلى حمزة قال: من تقدم الوقت يقرأ؟ قيل له الكسائي أول من تقدم يعنون صاحب الكساء، فرمقه القوم بأبصارهم فقال: إن كان حائكاً فسيقرأ سورة يوسف، وإن كان ملاحاً فسيقرأ سورة طه، فسمعهم فابتدأ بسورة يوسف، فلما بلغ إلى قصة الذئب قرأ فأكله الذيب بغير همزٍ، فقال له الزيات: بالهمز، فقال له الكسائي: وكذلك أهمز الحوت في قوله تعالى: (فالتقمه الحوت)، قال: لا قال، فلم همزت الذئب ولم تهمز الحوت؟ وهذا فأكله الذئب، وهذا فالتقمه الحوت. فرفع حمزة بصره إلى خلادٍ الأحوال وكان أجمل غلمانه فتقدم إليه في جماعة من أهل المجلس، فناظروا فلم يصيبوا شيئاً فقال: أفدنا - رحمك الله -، فقال لهم الكسائي: تفهموا عن الحائك، تقول: إذا نسبت الرجل إلى الذئب قد استذأب الرجل، ولو قلت: قد استذاب بغير همز لكنت إنما نسبته إالى الهزال، تقول: استذاب الرجل: إذا استذاب شحمه بغير همزٍ. وإذا نسبته إلى الحوت تقول: قد استحات الرجل أي كثر أكله، لأن الحوت يأكل كثيرا ولايجوز فيه الهمز، فلتلك العلة همز الذئب ولم يهمز الحوت، وفيه معنىً آخر لاتسقط الهمزة من مفرده ولا من جمعه وأنشدهم:
أيها الـذئب وابـنـه وأبـوه |
|
أنت عندي من أذؤبٍ ضاريات |
قال: فسمى الكسائي من ذلك اليوم. وحدث المرزباني فيما رفعه إلى ابن الأعرابي قال: كان الكسائي أعلم الناس على رهق فيه، كان يديم شرب النبيذ ويجاهر باتخاذ الغلمان الروقة إلا أنه كان ضابطاً قارئاً عالماً بالعربية صدوقاً.
وحدث المزرباني فيما رفعه إلى الكسائي قال: أحضرني الرشيد سنة اثنتين وثمانين ومائة في السنة الثالثة من خلافته، فأخرج إلى محمداً الأمين وبعبد الله المأمون كأنهما بدران فقال: امتحنهما بشيءٍ، فما سألتهما عن شيء إلا أحسنا الجواب فيه، فقال لي كيف تراهما؟ فقلت:
أرى قمري أفقٍ وفرعي بشامةٍ |
|
يزينهما عرق كريم ومحـتـد |
يسدان آفاق السمـاء بـهـمةٍ |
|
يؤيدها حـزم ورأى وسـؤدد |
سليلي أمير المؤمنين وحـائزي |
|
مواريث ما أبقى النبي محمـد |
حياة وخصب للولى ورحـمة |
|
وحرب لأعداءٍ وسيف مهنـد |
ثم قلت: فرع زكا أصله، وطاب مغرسه، وتمكنت فروعه، وعذبت مشاربه، آواهما ملك أغر، نافذ الأمر، عظيم الحلم، أعلاهما فعلوا، وسما بهما فسموا، فهما يتطاولان بطوله، ويستضيئان بنوره، وينطقان بلسانه، - فأمتع الله - أمير المؤمنين بهما، وبلغه الأمل فيهما، فقال: تفقدهما، فكنت أختلف إليهما في الأسبوع طرفي نهارهما.
وحدث الخطيب بإسنادٍ رفعه إلى سلمة قال: كان عند المهدي مؤدب يؤدب الرشيد، فدعاه المهدي يوماً وهو يستاك فقال له: كيف الأمر من السواك؟ قال: استك ياأمير المؤمنين، فقال المهدي: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم قال: التمسوا لنا من هو أفهم من ذا، فقالوا: رجل يقال له علي بن حمزة الكسائي من أهل الكوفة، قدم من البادية قريباً فكتب بإزعاجه من الكوفة، فساعة دخل عليه قال: يا علي بن حمزة، قال: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: كيف تأمر من السواك؟ قال: سك يا أمير المؤمنين، قال: أحسنت وأصبت، وأمر له بعشرة آلاف درهم. وحدث المرزباني عن عبد الله بن جعفر عن ابن قادمٍ عن الكسائي قال: حججت مع الرشيد فقدمت لبعض الصلوات فصليت فقرأت: (ذريةً ضعافاً خافوا عليهم)، فأملت ضعافاً، فلما سملت ضربوني بالنعال والأيدي وغير ذلك حتى غشي علي، واتصل الخبر بالرشيد فوجه بمن استنقذني، فلما جئته قال لي: ما شأنك؟ فقلت له: قرأت لهم ببعض قراة حمزة الرديئة ففعلوا بي ما بلغ أمير المؤمنين، فقال: بئس ما صنعت، ثم ترك الكسائي كثيراً من قراءة حمزة وحدث فيما رفعه إلى الأحمر النحوي قال: دخل أبو يوسف القاضي - وقال عبد الله بن جعفرٍ محمد بن الحسن - على الرشيد وعنده الكسائي يحدثه فقال: يا أمير المؤمنين: قد سعد بك هذا الكوفي وشغلك، فقال الرشيد: النحو يستفرغني، لأنني أستدل به على القران والشعر، فقال محمد بن الحسن، أو أبو يوسف: إن علم النحو إذا بلغ فيه الرجل الغاية صار معلماً. والفقه إذا عرف الرجل منه جملة صار قاضياً. فقال الكسائي: أنا أفضل منك، لأني أحسن ما تحسن، وأحسن مالاتحسن، ثم التفت إلى الرشيد وقال: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن له في جوابي عن مسألة من الفقه، فضحك الرشيد وقال: أبلغت يا كسائي إلى هذا؟ ثم قال لأبي يوسف: أجبه، فقال الكسائي: ما تقول لرجلٍ قال لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار؟ فقال أبو يوسف: خطأ، إذا فتحت أن فقد وجب الأمر، وإذا كسرت فإنه لم يقع الطلاق بعد. فنظر أبو يوسف بعد ذلك في النحو.
وحدث أيضا عمن سمع الكسائي يقول: اجتمعت أنا وأبو يوسف القاضي عند هارون الرشيد، فجعل أبو يوسف يذم النحو ويقول: وما النحو؟ فقلت - وأردت أن أعلمه فضل النحو -: ما تقول في رجل قال لرجل: أنا قاتل غلامك؟ وقال له آخر: أنا قاتل غلامك، أيهما كنت تأخذ به؟ قال آخذهما جميعا، فقال له هارون: أخطأت، وكان له علم بالعربية، فاستحيا وقال: كيف ذلك؟ قال: الذي يؤخذ بقتل الغلام هو الذي قال: أنا قاتل غلامك بالإضافة، لأنه فعل ماض، وأما الذي قال: أنا قاتل غلامك بالنصب فلا يؤخذ، لأنه مستقبل لم يكن بعد، كما قال الله عز وجل: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله). فلولا التنوين مستقبل ما جاز فيه غداً، فكان أبو يوسف بعد ذلك يمدح العربية والنحو.
وحدث فيما رفعه إلى إبراهيم بن إسماعيل الكاتب قال: سأل اليزيدي الكسائي بحضرة الرشيد قال: انظر، في هذا الشعر عيب؟ وأنشده:
ما رأينا خربـاً نـق |
|
ر عنه البيض صقر |
لا يكون العير مهـراً |
|
لا يكون، المهر مهر |
فقال الكسائي: قد أقوى الشاعر، فقال له اليزيدي انظر فيه، فقال: أقوى لابد ينصب المهر الثاني على أنه خبر كان، قال: فضرب اليزيدي بقلنسوته الأرض وقال: أنا أبو محمدٍ الشعر صواب، وإنما ابتدأ فقال: المهر مهر، فقال له يحيى بن خالدٍ: أتكتني بحضرة أمير المؤمنين وتكشف رأسك؟ والله لخطأ الكسائي مع أدبه، أحب إلينا من صوابك مع سوء فعلك، فقال: لذة الغلبة أنستني من هذا ما أحسن.
حدث المرزباني، حدث محمد بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن أبي سعدٍ الوراق، حدثنا النعمان بن هارون الشيباني قال: كان أبو نواسٍ يختلف إلى محمد بن زبيدة، وكان الكسائي يعلمه النحو فقال أبو نواس: إني أريد إن أقبل محمداً قبلة، فقال له الكسائي: إن علي في هذا وصمة، وأكره أن يبلغ هذا أمير المؤمنين، فقال أبو نواس: إنك إن تركتني أقبله وإلا قلت فيك أبياتاً أرفعها إلى أمير المؤمنين، فأبى عليه الكسائي وظن أنه لا يفعل، فكتب أبو نواس رقعةً:
قل للإمام جزاك اللـه صـالـحةً |
|
لا يجمع الدهر بين السخل والذيب |
فالسخل غر وهم الذئب غفلـتـه |
|
والذئب يعلم مابالسخل من طـيب |
ودفعها إلى بعض الخدم ليوصلها إلى الرشيد، فجاء بها الخادم إلى الكسائي، فلما قرأها علم أنه شعر أبي نواسٍ فقال له: ويحك، هذا أمر عظيم سأتلطف لك، فغب أياماً ثم احضر وسلم علي وعلى محمد فستبلغ حاجتك، فغاب وتحدث الكسائي إن أبا نواسٍ غائب ثم جاء فقام إليه الكسائي فسلم عليه وعانقه، وسلم أبو نواسٍ على محمدٍ وقبله، فقال أبو نواسٍ:
قد أحدث الناس ظرفـاً |
|
يزهو على كل ظرف |
كانوا إذا مـاتـلاقـوا |
|
تصافحـوا بـالأكـف |
فاظهروا اليوم رشف ال |
|
خدود والرشف يشفـى |
فصرت تلثم من شـئ |
|
ت من طريق التخفي |
قال: وقال ابن أبي طاهر: وهذا الحديث عندي باطل مصنوع من قبل من حدث به ابن أبي سعد عنه لامنه، لأن أبناء الخلفاء كانوا في مثل حال الممنوع أجل مكاناً من أن يعانقوا أحدا من الرعية، ومن قبل أن هذا الشعر الأخير أنشدنيه غير واحدٍ لعبد الصمد ابن المعذل حتى خبرني أبو علىٍ الفضل بن جعفر بن الفضل بن يوسف المعروف بالبصير أنه له، وأنه قاله بالكوفة في حداثةٍ من سنه، وكان بعيداً من الكذب في ادعاء مثل هذا من الشعر والله أعلم.
حدث عبد الله بن جعفر عن محمد بن يزيد عن المازني عن الأصمعي قال: كان الكسائي يأخذ اللغة من أعراب من أعراب الحطمية ينزلون بقطر بل وغيرها من قرى سواد بغداد، فلما ناظر الكسائي سيبويه استشهد بكلامهم، واحتج بهم وبلغتهم على سيبويه. فقال أبو محمد اليزيدي: كنا نقيس النحو فيما مضى - الأبيات - والأبيات في أخبار اليزيدي. ولليزيدي أشعار في الكسائي ذكرت في أخباره، ومن قول اليزيدي فيه:
أفسد النحو الكسـائي |
|
ي وثنى ابن غـزالة |
وأرى الأحمر تيسـاً |
|
فاعلفوا التيس النخالة |
وحدث المرزباني عن عبد الله بن جعفرٍ عن محمد بن يزيد عن المازني والرياشي عن أبي زيدٍ قال: لما ورد نعى الكسائي من الري قال أبو زيدٍ: لقد دفن بها علم كثير بالكسائي ثم قال: قدم علينا الكسائي البصرة فلقى عيسى والخليل وغيرهما، وأخذ منهم نحواً كثيراً، ثم صار إلى بغداد فلقى أعراب الحطمية فأخذ عنهم الفساد من الخطأ واللحن، فأفسد بذلك ما كان أخذه بالبصرة كله. قال عبد الله: وذلك إن الكسائي كان يسمع الشاذ الذي لايجوز من الخطأ واللحن وشعر غير أهل الفصاحة والضرورات، فيجعل ذلك أصلا ويقيس عليه حتى أفسد النحو.
قال أبو عبد الله بن مقلة: حدثني أبو العباس أحمد ابن يحيى قال: اجتماع الكسائي والأصمعي عند الرشيد وكانا معه يقيمان بمقامه، ويظعنان بظعنه، فأنشد الكسائي:
أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به |
|
رئمان أنفٍ إذ ماضن باللبـن؟ |
فقال الأصمعي: رئمان بالرفع، فقال له الكسائي: اسكت ما أنت وهذا؟ يجوز رئماناً ورئمان ورئمان، ولم يكن الأصمعي بصاحب عربيةٍ، فسألت أبا العباس كيف جاز ذلك؟ فقال: إذا رفع رفع بينفع، أي أم كيف ينفع رئمان أنفٍ، وإذا نصب نصب بيعطى، وإذا خفض رده على الهاء في به. قال: والمعنى وما ينفعني إذا وعدتني بلسانك ثم لم تصدقه بفعلك، يقال ذلك للذي يبر ولا يكون منه نفع كهذه الناقة التي تشم بأنفها مع تمنع درها، والعلوق: التي قد علق قلبها بولدها، وذلك أنه نحر عنها ثم حشى جلده تبناً أو حشيشاً وجعل بين يديها حتى تشمه وتدر عليه، فهي تسكن إليه مرة ثم تنفر عنه ثانيةً تشمه بأنفها ثم تأباه مقلتها فيقول: فما ينفع من هذا البو إذا تشممته ثم منعت درها؟ قال أبو العباس: حدثني سلمة قال: قال الفراء: مات الكسائي وهو لا يحسن حد نعم وبئس، ولاحد أن المفتوحة، ولاحد الحكاية، قال: فقلت لسلمة فكيف لم يناظره في ذلك؟ فقال: قد سألته ذلك فقال: أشفقت أن أحادثه فيقول في كلمةً تسقطى فأمسكت قال الفراء: ولم يكن الخليل يحسن النداء، ولا كان سيبويه يدري حد التعجب. وحدث المرزباني في ما رفعه إلى الفراء قال: قدم سيبويه على البرامكة فعزم يحيى بن خالد أن يجمع بينه وبين الكسائي وجعل لذلك يوماً، فلما حضر تقدمت والأحمر فدخل فإذا بمثالٍ في صدر المجلس، فقعد عليه يحيى وقعد إلى جانب المثال جعفر والفضل ومن حضر بحضورهم، وحضر سيبويه فأقبل عليه الأحمر فسأله عن مسألةٍ فأجابه فيها سيبويه فقال له: أخطأت، ثم سأله عن ثانية فأجاب فقال له: أخطأت، ثم سأله عن ثالثة فأجابه فيها فقال له: أخطأت، فقال له سيبويه: هذا سوء أدب. قال الفراء: فأقبلت عليه فقلت: إن في هذا الرجل حدةً وعجلةً، ولكن ماتقول فيمن قال: هؤلاء أبون، ومررت بأبين، كيف تقول على مثال ذلك، وأيت أو أويت؟ قال: فقدر فأخطأ فقلت له: أعد النظر ثلاث مراتٍ تجيب ولاتصيب، فلما كثر عليه ذلك قال: لست أكلمكما أو يحضر صاحبكما حتى أناظره، قال: فحضر الكسائي فأقبل على سيبويه فقال: أتسألني أم أسألك؟ فقال: بل سلني أنت، فقال له الكسائي: كيف تقول: قد كنت أظن إن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها؟ فقال سيبويه: فإذا هو هي ولايجوز النصب، فقال له الكسائي: لحنت، ثم سأله عن مسائل من هذا النوع خرجت فإذا عبد الله القائم أو القائم، فقال سيبويه: في ذلك كله بالرفع دون النصب، فقال الكسائي: ليس هذا من كلام العرب، العرب ترفع في ذلك كله وتنصب، فدفع سيبويه قوله، فقال يحيى بن خالدٍ: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن ذا يحكم بينكما؟ فقال له الكسائي: هذه العرب في بابك قد جمعتهم من كل أوبٍ. ووفدت عليك من كل صقعٍ، وهم فصحاء الناس وقد قنع بهم أهل المصرين، وسمع أهل الكوفة وأهل البصرة منهم فيحضرون ويسألون، فقال يحيى وجعفر. قد أنصفت، فأمر بإحضارهم فدخلوا، فهم: أبو فقعسٍ، وأبودثارٍ، وأبو الجراح، وأبوثروان، فسئلوا عن المسائل التي جرت بين الكسائي وسيبويه، فتابعوا الكسائي وقالوا بقوله. فقال: فأقبل يحيى على سيبويه فقال: قد تسمع أيها الرجل؟ فاستكان سيبويه وأقبل الكسائي على يحيى فقال: - أصلح الله الوزير -، إنه قد وفد عليك من بلده مؤملاً، فإن رأيت ألا ترده خائباً، فأمر له بعشرة آلاف درهم، فخرج وصير وجهه نحو فارس، فأقام هناك حتى مات ولم يعد إلى البصرة.
قال ثعلب: وإنما أدخل ألفاء في قوله: فإذا هو إياها، لأن فإذا مفاجأة، أي فوجدته ورأيته، ووجدت ورأيت ينصب شيئين ويكون معه خبر، فلذلك نصبت العرب.
قال المؤلف: وقد ذكرنا هذا الخبر في باب سيبويه برواية أخرى، وذكرنا الاحتجاج للبصريين على تصويب قول سيبويه هناك إن شاء الله.
روى الزبيرعن إسحاق الموصلي قال: ما رأيت رجلاً منسوباً إلى العلم أجهل بالشعر من الكسائي وبالإسناد قال: كان الكسائي من أشد خلق الله تسكعاً في تفسير شعرٍ، وما رأيت أعلم بالنحو قط منه، ولا أحسن تفسيراً، ولا أحذق بالمسائل، المسألة تشق من المسألة، والمسألة تدخل على المسألة.
وقرأت في نوادر ابن الأعرابي التي كتبها عنه ثعلب سمعت الكسائي يقول: قلت لأبي زيدٍ وآذاني باللزوم يا هذا، قد أمللتني، كم تلازمنى؟ فقال له أبو زيدٍ: إنما ألزمك لأعلمك، قال: فقلت له فاجلس في بيتك حتى آتيك. قال: وما جربت على الكسائي كذبةً قط. قال أبو عبد الله بن الأعرابي: ولئن كان أبو زيدٍ قال هذا، ما في الأرض أحد قط أخل عقلاً منه.
قال: وكان الكسائي أعلم من أبي زيدٍ بكثيرٍ بالعربية واللغات والنوادر، ولو كان نظر في الأشعار ما سبقه أحد ولا أدركه أحد حده. وقال أبو الطيب اللغوي في كتاب مراتب النحويين عن أبي حاتم قال: لم يكن لجميع الكوفيين عالم بالقران ولا كلام العرب، ولولا أن الكسائي دنا من الخلفاء فرفعوا ذكره لم يكن شيئاً، وعلمه مختلط بلا حججٍ ولاعللٍ إلا حكايات الأعراب مطروحةً، لأنه كان يلقنهم ما يريد، وهو على ذلك أعلم الكوفيين بالعربية والقران، وهو قدوتهم وإليه يرجعون.
وحدث المرزباني في كتابه قال: كتب الكسائي إلى الرشيد وهو يؤدب محمداً الأمين:
قل للخليفة ما تقول لمـن |
|
أمسى إليك بحرمةٍ يدلى؟ |
مازلت منصار الأمين معي |
|
عبدي يدي ومطيتي رجلي |
وعلى فراشي ماينبهـنـى |
|
من نومتي بقيامه قبـلـي |
أسعى برجلٍ منه ثـالـثةٍ |
|
نقصت زيادتها عن الرجل |
فامنن على بما يسكنـه |
|
عني وأهد الغمد للنصل |
قال: فضحك الرشيد وأمر له ببرذونٍ بسرجه ولجامه وبجاريةٍ حسناء بآلتها وخادم وعشرة آلاف درهمٍ. قيل للكسائي: قد أبحت علمك الناس؟ فقال يعين الله عليهم بالنسيان.
من مجالسات ثعلبٍ: وصف ابن الأعرابي الكسائي فقال: كان أعلم الناس على رهقٍ فيه، يريد إتيان ما يكره، لأنه كان يشرب الشراب ويأتي الغلمان. قال: ومن شعر الكسائي:
إنما الـنـحـو قـياس يتـبـع |
|
وبه في كـل أمـر ينـتـفـع |
فإذا ما نصر النحـو الـفـتـى |
|
مر في المنطق مراً فاتـسـع |
فاتقـاه جـل مـن جـالـسـه |
|
من جليسٍ ناطقٍ أو مستـمـع |
وإذا لم ينصر النحـو الـفـتـى |
|
هاب أن ينطق جبناً فانقـطـع |
فتراه يرفـع الـنـصـب ومـا |
|
كان من خفضٍ ومن نصبٍ رفع |
يقرأ القـران ولا يعـرف مـا |
|
صرف الإعراب فيه وصـنـع |
والـذي يعـرفــه يقـــرؤه |
|
فإذا ما شك في حـرفٍ رجـع |
ناظـراً فـيه وفـي إعـرابـه |
|
فإذا ما عرف اللـحـن صـدع |
كم وضيعٍ رفع النـحـو وكـم |
|
من شريفٍ قد رأينـاه وضـع |
فهمـا فـيه سـواء عـنـدكـم |
|
ليست السنة فـينـا كـالـبـدع |
وحدث هارون بن علي بن المنجم في أماليه عن أبي توبه قال: سمعت الفراء يقول: مدحني رجل من النحويين فقال لي: ما اختلافك إلى الكسائي وأنت مثله في النحو؟ فأعجبتني نفسي فأتيته فناظرته مناظرة الأكفاء، فكأني كنت طائراً يغرف من البحر بمنقاره.
وحدث محمد بن إسحاق النديم قال: قرأت بخط أبي الطيب ابن أخي الشافعي قال: أشرف الرشيد على الكسائي وهو لا يراه، فقام الكسائي ليلبس نعله لحاجةٍ يريدها فابتدرها الأمين والمأمون، وكان مؤدبهما فوضعاها بين يديه، فقبل رؤوسهما وأيديهما ثم أقسم عليهما ألا يعاودا، فلما جلس الرشيد مجلسه قال: أي الناس أكرم خدماً؟ قال: أمير المؤمنين - أعزه الله - قال: بل الكسائي يخدمه الأمين والمأمون، وحدثهم الحديث.
حدث السلامي قال: حضر مجلس الكسائي أعرابي وهم يتحاورون في النحو فأعجبه ذلك، ثم تناظروا في التصريف فلم يهتد إلى ما يقولون، ففارقهم وأنشأ يقول:
مازال أخذهم في النحو يعجبني |
|
حتى تعاطوا كلام الزنج والروم |
بمفعل فعلٍ لا طاب من كـلـمٍ |
|
كأنه زجل الغربـان. والـيوم |
وقرأ بخط
أبي سعيدٍ عبد الرحمن بن علي اليزدادي اللغوي الكاتب في كتاب جلاء المعرفة
من تصنيفه قيل: اجتمع إبراهيم النظام وضرار بين يدي الرشيد، فتناظرا في
القدر حتى دقت مناظرتهما فلم يفهمهما، فقال لبعض خدمه ومن يثق به ويرضى
برأيه: اذهب بهذين إلى الكسائي حتى يتناظرا بين يديه ثم يخبرك لمن الفلح
منهما، فلما صارا في بعض الطريق قال إبراهيم النظام لضرارٍ: أنت تعلم أن
الكسائي لا يحسن شيئاً من النظر، وإنما معوله على النحو والحساب، ولكن تهيئ
له مسألة نحوٍ، وأهيئ له مسألة حسابٍ فنشغله بهما، لأنا لا نأمن إن يسمع
منا ما لم يسمعه ولم يبلغه فهمه أن ينسبنا إلى الزندقه، فلما صارا إليه
سلما عليه، ثم بدأ ضرار فقال: أسألك - أصلحك الله - عن مسألة من النحو؟
قال: هاتها، قال: ماحد الفاعل والمفعول به؟ قال الكسائي: حد الفاعل الرفع
أبداً، وحد المفعول به النصب أبداً، قال: فكيف تقول ضرب زيد؟ فقال: ضرب
زيد. قال: فلم رفعت زيداً وقد شرطت أن المفعول به منصوب أبداً؟ قال لأنه لم
يسم فاعله، قال له: فقد أخطأت في العبارة، إذ لم تقل إن المفعولين من إذا
لم يسم فاعله كان مرفوعاً، ومن جعل لك الحكم بان تجعل الرفع لمن لم يسم
فاعله؟ قال: لأنا إذا لم نذكر الفاعل أقمنا المفعول به مقامه، لأن الفعل
الواقع عليه غير مستحكم النقص، وعدم النقص مطابق للرفع، فإذا ذكرنا من فعل
به وأفصحنا بذلك نصبناه. قال له: فإن كان النصب مطابقا للنقص فمن لم يسم
فاعله أولى به، لأنا إذا قلنا: ضرب زيد فقد يمكن إن يكون ضربه مائة رجل،
وإذا قلنا ضرب عبد الله زيداً فلم يضربه إلا رجل واحد، فالذي أمكن إن يضربه
مائة رجل أولى بالنصب والنقص ممن لم يضربه إلا رجل واحد، فوقف الكسائي فلم
يدر مايقول. ثم قال له إبراهيم: أسألك - أصلحك الله - عن مسألةٍ من الحساب؟
قال: قل. قال: كم جذر عشرة. قال: اجتمع الحساب على إنه لاجذر لعشرةٍ. قال:
فهل علم الله جذرها؟ قال: الله عالم كل شيء ألقاه إلى نبيٍ من أنبيائه؟ ثم
ألقاه ذلك النبي إلى صفيٍ من أصفيائه، فلم يزل ذلك العلم ينمى حتى صار علم
جذر عشرةٍ عندي، وأكون أعلم جذرها ولاتعلمه أنت، وتكون مخطئاً فيما قلت،
فالتفت الكسائي إلى الغلام وقال: اذهب بهذين إلى أمير المؤمنين فقل: إنهما
زنديقان كافران بالله العظيم. قال: وكان الخادم لبيباً حصيفاً فأحسن
العبارة عنهما وحسن أمورهما، فأمر بهما بجائزةٍ سنيةٍ وصرفهما.
قال المؤلف: وهذه الحكاية عندي مصنوعة باردة، وإنما كتبتها لكوني وجدتها
بخط رجلٍ عالمٍ. وحدث سلمة بن عاصمٍ قال: قال الكسائي: حلفت ألا أكلم
عامياً ألا بما يوافقه ويشبه كلامه، وذلك أنني وقفت على نجارٍ فقلت له: بكم
ذانك البابان؟ فقال: بلحتان. فحلفت ألا أكلم عاميا إلا بما يصلحه. وحدث
الحزنبل قال: أنشدنا يعقوب بن السكيت لأبي الجراح العقيلي يمدح الكسائي:
ضحوك إذا زف الخوان وزوره |
|
يحيا بأهلاً مرحباً ثـم يجـلـس |
أبا حسنٍ ماجئتكم قط مـطـفـئاً |
|
لظى الشوق إلا والزجاجة تقلس |
قال يعقوب: يريد تمتلئ حتى تفيض، ونصب قوله يحيا بأهلاً على الحكاية.
وحدث عبد الله بن جعفر بن علي بن مهدي عن أحمد بن الحارث الخراز قال: كان الكسائي ممن وسم بالتعليم، وكان كسب به مالاً إلا أنه حكى عنه إنه أقام غلاماً ممن عنده في الكتاب وقام يفسق به وجاء بعض الكتاب ليسلم عليه فرآه الكسائي ولم يره الغلام، فجلس الكسائي في مكانه وبقي الغلام قائماً مبهوتاً، فلما دخل الكاتب قال للكسائي: ماشأن هذا الغلام قائماً؟ قال وقع الفعل عليه فأنتصب. وحدث المرزباني فيما أسنده إلى سعدون القارئ قال: رأيت الكسائي وهو يسأل أبا الحسن المروزي وقد أقام أربعين سنة يختلف إلى الكسائي والمروزي يقول: كيف تقول مررت بدجاجةٍ تنقرك أو تنقرك أو تنقرك؟ فقال له الكسائي؟ استحييت لك، بعد أربعين سنة لاتعرف حروف النعت؟ إنها تتبع الأسماء، قل تنقرك من نعت الدجاجة. قال: والكسائي يهزأ به ويعبث وينقر أنفه. وحدث أيضا بإسناد رفعه إلى نصير الرازي النحوي رجل كان بالري قال: قدم الكسائي مع هارون فاعتل علةً منكرةً فأتاه هارون ماشياً متفرغاً فخرج من عنده وهو مغموم جداً فقال لأصحابه: ما أظن الكسائي إلا ميتاً وجعل يسترجع، فجعل القوم يعزونه ويطيبون نفسه وهو يظهر حزناً فقالوا يا أمير المؤمنين: وماله قضيت عليه بهذا؟ قال: إنه حدثني أنه لقى رجلاً من الأعراب عالماً غزير العلم بموضعٍ يقال له ذو النخيلة، قال الكسائي: فكنت أغدو عليه وأروح أمتاح ماعنده، فغدوت عليه غدوةً من تلك الغدوات فإذا هو ثقيل ورأيت به علةً منكرةً قال: فألقى نفسه وجعل يتنفس ويقول:
قدر أحلك ذا النخيل وقد ترى |
|
وأبى مالك ذو النخيل بـدار |
ألا كداركم بذي بقر الحمـى |
|
هيهات ذو بقرٍ من المزدار |
قال الكسائي: فغدوت عليه صباحاً فإذا هو لما به: فدخلت الساعة على الكسائي فإذا هو ينشد هذين البيتين، فغمنى ذلك غماً شديداً، فكان كما قال: مات من يومه ودفن بمنزله في سكة حنظلة ابن نصر بالري سنة اثنتين وثمانين ومائة، وفي غير هذه الرواية زيادة في الشعر:
قالت جمال وكلـهـن جـمـيلة |
|
ما تأمرون بهولاء الـسـفـار |
قالوا بنو سفرٍ ولم نشعـر بـهـم |
|
وهم الذين نريد غير تـمـارى |
لما اتكأت على الحشايا مضمضت |
|
بالنوم أعينهـن بـعـد غـرار |
سقط الندى بجنوبهـن كـأنـمـا |
|
سقط الندى بلطائم الـعـطـار |
وكانت وفاته برنبوية، كورة من كور الري هو ومحمد بن الحسن الفقيه في وقتٍ واحدٍ، وكانا خرجا مع الرشيد إليها. فقال الرشيد: دفنت الفقه والنحو برنبوية، فقال أبو محمد اليزيدي يرثيهما:
تصرمت الدنيا فـلـيس خـلـود |
|
وماقد ترى من بـهـجةٍ سـيبـيد |
سيفنيك ما أفنى القرون التي مضت |
|
فكن مستعداً فالـفـنـاء عـتـيد |
أسيت على قاضى القضاة محمـدٍ |
|
فأذريت دمعي والفـؤاد عـمـيد |
وقلت إذا ما الخطب أشكل من لنـا |
|
بايضاحه يومـا وأنـت فـقـيد؟ |
وأوجعني موت الكسـائي بـعـده |
|
وكادت بي الأرض الفضاء تمـيد |
وأذهلني عـن كـل عـيش ولـذة |
|
وأرق عيني والعـيون هـجـود |
هما عالمـانـا أوديا وتـخـرمـا |
|
ومالهما في الـعـالـمـين نـديد |
وقد روى أن وفاة الكسائي كانت بطوس لا الرى. ولما بلغت هذه الأبيات إلى الرشيد قال يايزيدي: لئن كنت تسيء الكسائي في حياته، لقد أحسنت بعد موته. وقيل بل قال له: أحسنت يابصري، لئن كنت تظلمه في حياته، لقد أنصفته بعد موته. ومات الكسائي وله من التصانيف: كتاب معاني القران، كتاب مختصر في النحو، كتاب القراءات. كتاب العدد. كتاب النوادر الكبير، كتاب النوادر الأوسط، كتاب النوادر الأصغر، كتاب اختلاف العدد، كتاب الهجاء، كتاب مقطوع القران وموصوله، كتاب المصادر، كتاب الحروف، كتاب أشعار المعاياة وطرائقها، كتاب الهاءات المكنى بها في القران.
قرأت بخط الأزهري في كتاب نظم القرآ ن للمنذري: أسمعني أبو بكر عن بعض مشايخه أن الكسائي كان يقوم في المحراب يؤم فتشتد عليه القراءة حتى لا يقوم بقراءة (الحمد لله رب العالمين)، ثم يتحرف فيقبل عليهم فيملي القرآن حفظاً ويفسره بمعانية وتفسيره