باب العين - علي بن سليمان بن الفضل الأخفش

علي بن سليمان بن الفضل الأخفش

أبو الحسن، وهو الأخفش الصغير، وهناك الأخفش الأكبر، وهو أبو الخطاب عبد الحميد وقد ذكر، والأوسط وهو أبو الحسن سعيد بن مسعدة وقد مر في بابه، وهناك أخفش آخر، وهو عبد العزيز بن أحمد المغربي الأندلسي، وقد ذكر في بابه أيضا وغيرهم. ومات علي بن سليمان هذا في شعبان سنة خمس عشرة وثلاثمائةٍ، ودفن بمقبرة قنطرة البردان، وذكر ذلك المزرباني. قال المزرباني في كتاب المقتبس: ذكر جماعة لقيناهم من النحويين وأهل اللغة. منهم علي بن سليمان بن الفضل الأخفش، ولم يكن بالمتسع في الرواية للأخبار والعلم بالنحو، وما علمته صنف شيئاً ألبته ولاقال شعراً، وكان إذا سئل عن مسائل النحو ضجر وأنتهر كثيرا من يواصل مساءلته ويتابعها، ثم ذكر وفاته كما تقدم قال: وشهدته يوماً وصار إليه رجل من حلوان كان يلزمه فحين رآه قال له:

حياك ربك أيها الحلـوانـي

 

ووقاك ما يأتي من الأزمان

ثم التفت إلينا وقال: ما نحن من الشعر إلا هذا وماجرى مجراه. هكذا ذكر أبو عبيدة الله تلميذه وصاحبه. وقال الجوهرى: الأجلع: الذي لاتنضم شفتاه على أسنانه، وكان الأخفش الأصغر النحوي أجلع. ووجدت في كتاب فهرست ابن النديم بخط مؤلفه، وذكر الأخفش هذا فقال: له من التصانيف: كتاب الأنواء، وكتاب التثنية والجمع، وكتاب شرح سيبويه حدثني الصاحب الوزير جلال الدين القاضي الأكرم أبو الحسن علي بن يوسف القفطي- أدام الله أيامه - أنه ملكه في خمسة أجلادٍ. وكتاب تفسير رسالة كتاب سيبويه رأيته في نحو خمس كراريس، وكتاب الحداء، ووجدت أهل مصر ينسبون إليه كتاباً في النحو هذبه أحمد بن جعفرٍ الدينوري وسماه المهذب. وحدث أبو عبيدة الله: حضرت يوماً أبا الحسن الأخفش ودفع كتاباً إلى بعض من كان في مجلسه ليكتب عليه اسمه، فقال له أبو الحسن: خفش خفش يريد اكتب الأخفش ثم قال: أنشدنا أبو العباس المبرد:

لاتكرهن لقباً شهرت بـه

 

فلرب محظوظٍ من اللقب

قد كان لقب مرة رجـل

 

بالوائلي فعد في العـرب

قال الأخفش: دعاتي سوار بن أبي شراعة فتأخرت عنه وكتب إلى:

مضى النور واشتبهم الأغطش

 

وأخلفني وعـده الأخـفـش

وحال وحـالـت بـه شـيمة

 

كما حال عن لونه البرقـش

أبا حسن كنت لي مـألـفـاً

 

فمالك عن دعوتى تطـرش

وكنت لأعدائك الـشـانـئيك

 

سماماً كما نفـث الأرقـش

وكنت بقربـك فـي روضةٍ

 

فها أنا والبلد المـعـطـش

إذا قلت قرطست في صاحبٍ

 

نزعت كما ينزع المرعـش

وسيان عندي من عـقـنـي

 

عقوقك والحية الحـربـش

أقول وماحلت عن عـهـده

 

رأيتك كالناس إذ فـتـشـوا

وحدث - أخلي في الأصل - قال: كان ابن الرومي كثير الهجاء للأخفش، وذاك أن ابن الرومي كان كثير الطيرة وكان الأخفش كثير المزاح، وكان يباكره قبل كل أحدٍ فيطرق الباب على ابن الرومي فيقول: من بالباب؟ فيقول الأخفش: حرب بن مقاتلٍ، وما أشبه ذلك، فقال ابن الرومي يهجوه ويتهدده:

قل لنحـوينـا أبـي حـسـنٍ

 

إنى حسام متى ضربت مضى

لاتحسبن الهجاء يحفـل بـال

 

رفع ولاخفض خافضٍ خفضا

كأنني بالشـقـي مـعـتـذرا

 

إذا القوافي أذقنه مضـضـا

ينشدني العهـد يوم ذاك ولـل

 

عهد خضاب أزاله فنـضـا

قال المزرباني: فحدثني المظفر بن يحيى قال: حدثني أبو عبد الله النحوي أن الأخفش قال يوما لابن الرومي: إنما كنت تدعى هجاءٍ مثقالٍ، فلما مات مثقال انقطع هجاؤك. قال فاختر على قافيةً. قال: على روى قصيدة دعبلٍ الشينية، فقال قصيدته التي يهجوه فيها ويجود حتى لايقدر أحد أن يدفعه عن ذلك، ويفحش حتى يفرط أولها:

ألا قل لنحويك الأخفـش

 

أنست فأقصر ولاتوحش

وماكنت عن غيةٍ مقصراً

 

وأشلاء أمك لم تنبـش

قال فيها:

أمـا والـقـريض ونـقـاده

 

ونجشك فيه مع الـنـجـش

ودعواك عـرفـان نـقـاده

 

بفضل النقى على الأنـمـش

لئن جئت ذا بـشـرٍ حـالـكٍ

 

لقد جئت ذا نـسـبٍ أبـرش

وماواحـد جـاء مـن أمـه

 

بأعجب من ناقـدٍ أخـفـش

كأن سنا الشتم في عـرضـه

 

سنا الفجر في السحر الأغبش

أقـول وقـد جـاءنـي أنـه

 

ينوش هجائي مع الـنـوش

إذا عكس الدهر أحـكـامـه

 

سطا أضعف القوم بالأبطش

وماكل من أفحـشـت أمـه

 

تعرض للقـذع الأفـحـش

وهي قصيدة طويلة، ولما سار هجاؤه في الأخفش، جمع الأخفش جماعةً من الرؤساء، وكان كثير الصدق، فسألوا ابن الرومي أن يكف عنه، فأجابه إلى الصفح عنه، وسألوه أن يمدحه بما يزيل عنه عار هجائه فقال فيه:

ذكر الأخفش القديم فقلـنـا:

 

إن للأخفش الحديث لفضلا

فإذا ماحكمت والروم قومي

 

في كلامٍ معربٍ كنت عدلا

أنا بين الخصوم فيه غـريب

 

لا أرى الزور للمحاباة أهلا

ومتى قلت باطلاً لم ألقـب

 

فيلسوفاً ولم أسمى هرقـلا

وذكر الزبيدي أن الأخفش كان يتحفظ هجاء ابن الرومي له ويمليه في جملة مايملي، فلما رأى ابن الرومي أنه لم يألم لهجائه ترك هجوه. وكان الأخفش قد قرأ على ثعلبٍ والمبرد وأبي العيناء واليزيدي.

وحدث الأخفش قال: استهدى إبراهيم بن المدبر المبرد جليساً يجمع إلى تأديب ولده الاستمتاع بإيناسه ومفاكهته، فندبني إليه وكتب معي: قد أنفذت إليك - أعزك الله - فلاناً وجملة أمره:

إذا زرت الملوك فإن حسبي

 

شفيعاً عندهم أن يخبروني

وقدم الأخفش هذا مصر في سنة سبعٍ وثمانين ومائتين، وخرج منها سنة ثلاثمائةٍ إلى حلب مع علي ابن أحمد بن بسطام صاحب الخراج فلم يعد إلى مصر.

وحدث أبو الحسين هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابئ في كتابه كتاب الوزراء قال: حكى لي أبو الحسن ثابت بن سنان قال: كان أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش مواصل المقام عند أبي علي بن مقلة ويراعيه أبو علي ويبره. فشكا إليه في بعض الأيام الإضاقة، وسأله أن يكلم أبا الحسن على بن عيسى وهو يومئذٍ وزيره في أمره، وسأله إجراء رزقٍ عليه في جملة من يرتزق من أمثاله، فخاطبه أبو علي وسأل أن يجري عليه رزقاً في جملة الفقهاء، فأنتهره علي بن عيسى انتهاراً شديداً وأجابه جواباً غليظاً، وكان ذلك في مجلسٍ حافلٍ، ومجمعٍ كاملٍ فشق على أبي عليٍ وماعامله به، وقام من مجلسه وقد اسودت الدنيا في عينيه، وصار إلى منزله لائماً لنفسه على سؤال علي بن عيسى ما سأله، وحلف أنه يجرد في السعي عليه، ووقف الأخفش على الصورة واغتم وانتهت به الحال إلى أن أكل الشلجم النييء، وقيل إنه قبض على قلبه فمات فجأة، وكان موته في شعبان سنة خمس عشرة وثلاثمائةٍ.