باب العين - علي بن عبد الله بن وصيف الناشئ

علي بن عبد الله بن وصيف الناشئ

الحلاء، ويكنى أبا الحسين. قال ابن عبد الرحيم: حدثني أبو عبد الله الخالع قال: حدثني الناشئ قال: كان جدي وصيف مملوكا، وكان عبد الله أبي عطاراً في الحضرة بالجانب الشرقي، وكنت لما نشأت معه في دكانه كان ابن الرومي يجلس عندنا وأنا لاأعرفه، وكان يلبس الدراعة وثيابه وسخة، وانقطع عنا مدةً فسألت عنه أبي وقلت: مافعل ذلك الشيخ الوسخ الثياب الذي كان يجلس الينا؟ فقال: ويحك ذاك ابن الرومي وقد مات، فندمت إن لم أكن أخذت عنه شيئاً ولاعرفته في حال حضوره وتشاغلت بالصنعة عن طلب العلم، ثم لقيت ثعلباً ولم آخذ عنه إلا أبياتا منها:

إن أخا الإخوان من يسعى معك

 

ومن يضر نفسه لينـفـعـك

قال الخالع: وكان الناشئ قليل البضاعة في الأدب قئوماً بالكلام والجدل، يعتقد الإمامة ويناظر عليها بأجود عبارةٍ، فاستنفد عمره في مديح أهل البيت حتى عرف بهم، وأشعاره فيهم لاتحصى كثرةً، ومدح مع ذلك الراضي بالله وله معه أخبار، وقصد كافوراً الإخشيدي بمصر وامتدحه، وامتدح ابن حنزابة وكان ينادمه، وطرى إلى البريدي بالبصرة، وإلى أبي الفضل بن العميد، بأرجان، وعضد الدولة بفارس، وكان مولده على ماخبرني به سنة إحدى وسبعين ومائتين، ومات يوم الاثنين لخمسٍ خلون من صفرٍ سنة خمسٍ وستين وثلاثمائةٍ، وكنت حينئذٍ بالري فورد كتاب ابن بقية إلى ابن العميد بخبره، وقيل: إنه شيع جنازته ماشيا وأهل الدولة كلهم، ودفن في مقابر قريشٍ وقبره هناك معروف.

قال الخالع: ولم يخلف عقباً ولاعلمت أنه تزوج قط، وكان يميل إلى الأحداث ولايشرب النبيذ، وله في المجون والولع طبقة عالية، وعنه أخذ مجان باب الطاق كلهم هذه الطريقة، وكان يخلط بجدله ومناظرته هزلاً مستلمحاً ومجوناً مستطاباً يعتمد به إخجال خصمه وكسر حده، وله في ذلك أخبار مشهورة، وكانت له جارية سوداء تخدمه، فدخل يوماً إلى دارأخته وأنامعه، فرأى صبياً صغيراً أسود فقال لها: من هذا؟ فسكتت فألح عليها فقال: ابن بشارة، فقال: ممن؟ فقالت من أجل هذا أمسكت، فاستدعى الجارية وقال لها: هذا الصبي من أبوه؟ فقالت ماله أب، فالتفت إلى فقال: سلم إذاً على المسيح عليه السلام.

قال ابن عبد الرحيم: حدثني الخالع قال: حدثني الناشئء قال: أدخلني ابن رائقٍ على الراضي بالله، وكنت مداحاً لابن رائق ونافقاً عليه، فلما وصلت إلى الراضي قال لي: أنت الناشئ الرافضي؟ فقلت خادم أمير المؤمنين الشيعي. فقال: من أي الشيعة؟ فقلت: شيعة بني هاشمٍ: فقال: هذا خبث حيلةٍ. فقلت: مع طهارة مولدٍ. فقال هات مامعك. فأنشدته فأمر أن يخلع على عشر قطع ثياباً، وأعطى أربعة آلاف درهم، فأخرج إلى ذلك وتسلمته وعدت إلى حضرته فقبلت الأرض وشركته وقلت: أنا ممن يلبس الطيلسان. فقال: هاهنا طيالس عدنية، أعطوه منها طيلساناً، وأضيفوا إليها عمامة خزٍ ففعلوا. فقال: أنشدني من شعرك في بني هاشم فأنشدته:

بني العباس إن لكم دماءً

 

أراقتها أمية بالدخـول

فليس بهاشميٍ من يوالي

 

أمية واللعين أبا زبـيل

 فقلت مابينك وبين أبي زبيلٍ؟ فقلت: أمير المؤمنين أعلم. فابتسم وقال: انصرف. قال الخالع: وشاهدت العمامة والطيلسان معه وبقيا عنده إلى أن مات. قال: وحدثني الخالع قال: كان أبو الحسن شيخاً طويلاً جسيماً عظيم الخلقة، عريض الألواح، موفر القوة، جهوري الصوت، عمر نيفاً وتسعين سنةً، لم تضطرم أسنانه، ولاقلع سناً منها ولامن أضراسه. وكان يعمل الصفر ويخرمه، وله فيه صنعة بديعة. قال: ومن عمله قنديل بالمشهد بمقابر قريشٍ مربع غاية في حسنه.

قال الخالع: ومن مجونه في المناظرات وغيرها: أنه ناظر أبا الحسن على بن عيسى الرماني في مسألةٍ فانقطع الرماني وقال: أعاود النظر، وربما كان في أصحابي من هو أعلم مني بهذه المسألة، فإن ثبت الحق معك وافقتك عليه، فأخذ يندد به. ودخل أبو الحسن علي بن كعب الأنصاري أحد المعتزلة فقال: في أي شيء أنتم ياأبا الحسن؟ فقال: في ثيابنا، فقال: دعنا من مجونك وأعد المسألة، فلعلنا أن نقدح فيها فقال: كيف تقدح وحراقك رطب؟ ومنه حكايته المشهورة مع الأشعري الذي ناظره فصفعه فقال: ماهذا ياأبا الحسين؟ فقال: هذا فعل الله بك، فلم تغضب مني؟ فقال: مافعله غيرك، وهذا سوء أدب وخارج عن المناظرة، فقال: ناقضت. إن أقمت على مذهبك فهو من فعل الله، وإن انتقلت فخذ العوض، فانقطع المجلس بالضحك وصارت نادرةً.

قال عبيد الله الفقير إليه تعالى مؤلف هذا الكتاب: لو كان الأشعري ماهراً لقام إليه وصفعه أشد من تلك ثم يقول له: صدقت، تلك من فعل الله بي، وهذه من فعل الله بك، فتصير النادرة عليه لا له.

قال الخالع: فأنشدني يوماً لنفسه من قصيدةٍ:

تجاه الشظا جنب الحمى فالمشرف

 

حيال الربى فالشاهق المتشـرف

فقلت له بم ارتفعت هذه الأسماء وهي ظروف؟ فقال بما يسوءك، وبعد هذا البيت:

طلول أطال الحزن لي حزن نهجها

 

وألزمني وجداً عليها الـتـأسـف

فإذا حمل ماقاله على أن يجعل تلك الظروف هي الطلول، وهي: ماشخص من الأرض، وجعلت شخوصاً جاز الرفع على هذا التأويل، وإن جعلت محال للطلول فليس إلا النصب، ومن هذه القصيدة:

وقفت على أرجائها أسأل الـربـى

 

عن الخرد الأتراب والدار صفصف

وكيف يجيب السـائلـين مـرابـع

 

عفتها شآبيب من المـزن وكـف؟

ومنها وصف الخمر:

دنان كرهبان عليهـا بـرانـس

 

من الخزد كن يوم فصحٍ تصفف

ينظم منها المزج سلكـاً كـأنـه

 

إذا مابدا في الكأس در منصف

ومن مجون الناشئ: أنه ناظر بعض المجبرة فحرك الجبري يده فقال للناشئ: هذه من حركها؟ فقال الناشئ: من أمه زانية. فغضب الرجل فقال له: ناقضت، إذا كان المحرك غيرك فلم تغضب؟ قال عبيد الله الفقير إليه: وهذا أيضاً كفر وبهت، لأن المحرك لها على اعتقاد الناشئ مناظره، فيكون قد أساء العشرة مع جليسه، وعلى مذهب صاحبه الخالق، فيكون قد كفر، فعلى كل حال هو مسيء. وسمع يوماً رجلاً ينادي على لحم البقر: أين من حلف ألا يغبن؟ فقال له: إيش تريد منه؟ تريد أن تحنثه؟ ولقب رجلاً من باب الطاق بالأبعد، ولقب آخر بالآخر وهاتان لفظتان جامعتان لكل سبٍ وقذفٍ، لأن الناس مغرون بإلحاق كل قبيحٍ فظيعٍ بهما، على سبيل الكناية والاستراحة في الكلام إليهما.

قال الخالع: وحدثني الناشئ قال: لما وفدت على سيف الدولة وقع في أبو العباس النامي وقال: هذا يكتب التعاويذ. فقلت لسيف الدولة: يتأمل الأمير فإن كان يصلح أن يكتب مثله على المساجد بالربج فالقول كما قال: فأنشدته قصيدة أولها:

الدهر أيامه ماضٍ ومرتقب

وقلت فيها:

فارحل إلى حلبٍ فالخير منحلب

 

من نيل كفك إن لاحت لنا حلب

فقال أبا الحسين: بيت جيد لكنه كثير اللبن وأنشدته قصيدة أخرى أقول فيها:

كان مشيبي إذ يلـوح عـقـارب

 

وأقتل ماأبصرت بيض العقـارب

كأن الثريا عـوذة فـي تـمـيمةٍ

 

وقد حليت واستودعت حرز كاعب

وحدث الخالع قال: حدثني أبو الحسن الناشئ قال: كنت بالكوفة في سنة خمسٍ وعشرين وثلاثمائةٍ وأنا أملي شعري في المسجد الجامع بها والناس يكتبونه عني، وكان المتنبي إذ ذاك يحضر معهم وهو بعد لم يعرف ولم يلقب بالمتنبي، فأمليت القصيدة التي أولها:

بآل محمد عرف الصواب

 

وفي أبياتهم نزل الكتاب

وقلت فيها:

كأن سنان ذابلـه ضـمـير

 

فليس عن القلوب له ذهاب

وصارمه كبيعـتـه بـخـمٍ

 

مقاصدها من الخلق الرقاب

فلمحته يكتب هذين البيتين، ومنها أخذ ماأنشدتموني الآن من قوله:

كأن الهام في الهيجا عـيون

 

وقد طبعت سيوفك من رقاد

وقد صغت الأسنة من همومٍ

 

فما يخطرن إلا في فـؤاد

قال الخالع: وأصل هذا لأبي تمامٍ:

من كل أزرق نظارٍ بلا نظرٍ

 

إلى المقاتل مافي متنـه أود

كأنه كان ترب الحب مذ زمنٍ

 

فليس يعجزه قلـب ولاكـيد

وعليه وقع المتنبي وسبق إلى ذلك ديك الجن أيضاً في قوله:

قناً تنصب في ثغر التراقـي

 

كما ينصب في المقل الرقاد

وأبيات المتنبي أمثل من الجميع إذا تركت العصبية قال ابن عبد الرحيم: حدثني الخالع قال: كنت مع والدي في سنة ستٍ وأربعين وثلاثمائةٍ وأنا صبي في مجلس الكبوذي في المسجد الذي بين الوراقين والصاغة وهو غاص بالناس، وإذا رجل قد وافى وعليه مرقعة وفي يده سطيحة وركوة ومعه عكاز وهو شعث فسلم على الجماعة بصوتٍ يرفعه ثم قال: أنا رسول فاطمة الزهراء صلوات الله عليها، فقالوا: مرحباً بك وأهلاً ورفعوه فقال: أتعرفون لي أحمد المزوق النائح؟ فقالوا: هاهو جالس، فقال: أتعرفون لي أحمد المزوق النائح؟ فقالوا: هاهو جالس، فقال: رأيت مولاتنا عليها السلام في النوم فقالت لي: امض إلى بغداد واطلبه وقل له نح علي ابني بشعر الناشئ الذي يقول فيه:

بني أحمدٍ قلبي لكم يتقـطـع

 

بمثل مصابي فيكم ليس يسمع

وكان الناشئ حاضراً فلطم لطماً عظيماً على وجهه وتبعه المزوق والناس كلهم. وكان أشد الناس في ذلك الناشئ ثم المزوق، ثم ناحوا بهذه القصيدة في ذلك اليوم إلى أن صلى الناس الظهر وتقوض المجلس، وجهدوا بالرجل أن يقبل شيئاً منهم فقال: والله لو أعطيت الدنيا ما أخذتها، فإنني لاأرى أن أكون رسول مولاتي عليها السلام ثم آخذ عن ذلك عوضاً وانصرف ولم يقبل شيئاً. قال: ومن هذه القصيدة وهي بضعة عشر بيتاً:

عجبت لكم تفنون قتلاً بسـيفـكـم

 

ويسطو عليكم من لكم كان يخضع

كأن رسول الله أوصى بقتـلـكـم

 

وأجسامكم في كل أرضٍ تـوزع

قال: وحدثني الخالع قال: اجتزت بالناشئ يوماً وهو جالس في السراجين فقال لي: قد عملت قصيدةً وقد طلبت وأريد أن تكتبها بخطك حتى أخرجها فقلت: أمضى في حاجة وأعود، وقصدت المكان الذي أردته وجلست فيه فحملتني عيني فرأيت في منامي أبا القاسم عبد العزيز الشطرنجي النائح فقال لي: أحب أن تقوم فتكتب قصيدة الناشئ البائية فإنا قد نحنا بها البارحة بالمشهد، وكان هذا الرجل قد توفي وهو عائد من الزيارة، فقمت ورجعت إليه وقلت: هات البائية حتى أكتبها فقال: من أين علمت أنها بائية؟ وماذكرت بها أحداً، فحدثته بالمنام فبكى وقال: لاشك أن الوقت قد دنا فكتبتها فكان أولها:

رجائي بعيد والممات قـريب

 

ويخطئ ظني والمنون تصيب

ومن شعر الناشئ:

وليل توارى النجم من طول مكثه

 

كما ازور محبوب لخوف رقيبه

كأن الثريا فيه بـاقة نـرجـسٍ

 

يجيء بها ذو صبوةٍ لحـبـيبـه

وله:

وكان عقرب صدغه وقفت

 

لما دنت من نار وجنتـه

قرأت بخط بديع بن عبد الله الهمذاني فيما قرأه علي ابن فارسٍ اللغوي: سمعت أبا الحسين الناشئ علي بن عبد الله بن وصيفٍ بمدينة السلام قال: حضرت مجلس أبي الحسين بن المغلس الفقيه فانقلبت محبرة لبعض من حضرعلى ثيابي، فدخل أبو الحسين وحمل إلى قميصا دبيقياً ورداءً حسناً. قال: فأخذتهما ورجعت إلى بيتي وغسلت ثيابي ولبستهما ورددت القميص والرداء إلى أبي الحسين. فلما رآهما غضب غضباً شديداً وقال: ألبسهما لولا أنك تتوشح بالأدب لجفوتك.

وهذه حكاية وجدتها بعد أخبار الناشئ بخط المصنف: قرأت في كتاب محمد بن أبي الأزهر في عقلاء المجانين: حدثني علي بن ابراهيم بن موسى الكاتب قال: كنت يوماً جالساً في صحن داري إذا حجارة قد سقطت بالقرب مني، فبادرت هارباً وأمرت الغلام بالصعود إلى السطوح والنظر من أين أتتنا الحجارة؟ فرجع إلى وقال لي: يامولاي امرأة من دار ابن الرومي الشاعر تقول: الله الله فينا، اسقونا ماء وإلا متنا عطشاً، فإن الباب علينا مقفل منذ ثلاثة أيامٍ بسبب تطير صاحبنا، فإنه يلبس ثيابه في كل يوم ويتعوذ ويقرأ ثم يصير إلى الباب والمفتاح معه، فيضع عينه على خللٍ من الباب فتقع على جار له نازلٍ بإزائه وكان أعور، فإذا بصر به رجع وخلع ثيابه وترك الباب على حاله سائر يومه وليلته. فدفع إليها ماطلبته، فلمامات كان من غدٍ وجهت بخادم لي اسمه طاهر، وكان ابن الرومي يعرف وأمرته أن يجلس على بابه وتقدمت إلى بعض الغلمان في المصير إلى الأعور برسالتي ومسألته المصير إلى، فلما زال الرجل عن موضعه دق الخادم الباب على ابن الرومي وخاطبه وسأله المصير إلى أيضا. قال الخادم: فخرج فوضع عينه على ذلك الموضع فوقعت عينه علي ولم ير جاره ففتح الباب وخرج لاتقلع عينه عن النظر إلى، ولايصرف كلامه إلا إلى ناحيتي.

قال علي بن ابراهيم: فإني لجالس أنتظره، وقد انصرف الأعور إذ وافاني أبو خديجة الطرسوسي، وكان في ناحية اسماعيل بن اسحاق القاضي، وقد دفع إليه المعتضد برذعة ليوصله إلى الحسن ابنه ليتولى تسليمه إلى ابن راشدٍ، فنحن نتحدث إذ دخل ابن الرومي مع الخادم علينا، فلما تخطى عتبة باب الصحن عثر فانقطع شسع نعله فأخذها بيده ودخل مذعوراً، فقلت له: أيكون شيء ياأبا الحسن أحسن من خروجك من منزلك على وجه خادمي؟ فقال: لقد لحقني مارأيت من العثرة لأني أفكرت إن به عاهةً، قلت: وماهي؟ قال: هو مجبوب، فقال برذعة الموسوس: وشيخنا يتطير؟ قلت: نعم ويفرط، قال: ومن هو؟ قلت: هذا علي بن الرومي الكاتب، قال: الشاعر؟ قلت: نعم، فأقبل عليه فقال:

ولما رأيت الدهر يؤذن صـرفـه

 

بتفريق مابيني وبين الـحـبـائب

رجعت إلى نفسي فوطنتها عـلـى

 

ركوب جميل الصبر عند النـوائب

ومن صحب الدنيا على جور حكمها

 

فأيامه محفوفة بـالـمـصـائب

فخذ خلسةً من كل يومٍ تـعـيشـه

 

وكن حذراً من كامنات العواقـب

ودع عنك ذكر ألفاً والزجر واطرح

 

تطير جارٍ أو تفـاؤل صـاحـب

فرأيت ابن الرومي شبيهاً بالباهت ولم أدر أنه قد شغل قلبه بحفظ الأبيات، ثم نهض برذعه وأبو خديجة معه فقال له ابن الرومي: والله لاتطيرت بعد هذا، فأقام عندي وكتبت هذه الأبيات من حفظه وزالت عنه الطيرة.