باب العين - علي بن عيسى بن داود بن الجراح

علي بن عيسى بن داود بن الجراح

أبو الحسن الوزير. كانت منزلته من الرياسة ومعرفته بالعدل والسياسة تجل عن وصفها، ومن حسن الصناعة والكفاية ما هو مشهور مذكور، وزر للمقتدر بالله دفعتين، ومات في ليلة اليوم الذي عبر معز الدولة في صبيحته إلى بغداد، وهو يوم الجمعة انتصاف الليل من سلخ ذي الحجة سنة أربعٍ وثلاثين وثلاثمائةٍ، ودفن في داره وعمره تسع وثمانون سنةً ونصف، وحم يوماً واحداً، ومولده في جمادى الآخرة سنة خمسٍ وأربعين ومائتين، وله كتاب جامع الدعاء، كتاب معاني القران وتفسيره، أعانه عليه أبو الحسين الواسطي وأبو بكر بن مجاهدٍ، كتاب رسائله. كان تقلده للوزارة الأولى في المحرم سنة إحدى وثلاثمائةٍ، وبقي فيها أربع سنين غير شهرٍ، والأخرى في صفرٍ سنة خمس عشرة وثلاثمائةٍ، وبقي فيها سنةً وأربعة أشهرٍ ويومين، وكان يستغل ضياعة في السنة بسبعمائة ألف دينارٍ، يخرج منها في وجوه البرستين وستمائة ألف دينارٍ، وينفق أربعين ألف دينارٍ على خاصته، وكانت غلته عند عطلته ولزومه بيته نيفاً وثمانين ألف دينارٍ، يخرج منها في وجوه البر نيفاً وأربعين ألفاً، وينفق ثلاثين ألفاً على نفسه، وكان يرتفع لابن الفرات وهو متعطل ألف ألف دينارٍ. قال: الصولي ولا أعلم أنه وزر لبنى العباس وزير يشبهه في زهده وعفته وحفظه للقران وعلمه بمعانيه، وكان يصوم نهاره ويقوم ليله.

قال الصولي: ولا أعلم أنني خاطبت أحداً أعرف منه بالشعر، وكان يوقع بيده في جميع ما يحتاج إليه مما كان يوقع فيه أصحاب الدواوين في وزارته، فسألت أبا العباس أحمد بن طومار الهاشمي عن السبب فقال: قد اقتصر في نفقته وأجرى الفاضل على أولاد الصحابة بالمدينة، وجلس للمظالم فأنصف الناس وأخذ للضعيف من القوي، وتناصف الناس بينهم، ولم يروا أعف بطناً ولساناً وفرجاً منه، ولما عزل في وزارته الثانية وولى ابن الفرات لم يقنع المحسن ابن ابي الحسن بن الفرات إلا بإخراجه عن بغداد، فخرج إلى مكة فأقام بها مهاجراً وقال في نكبته:

ومن يك عني سـائلاً لـشـمـاتةٍ

 

لما نابني أو شامتـاً غـير سـائل

فقد أبرزت مني الخطوب ابن حرةٍ

 

صبوراً على أهوال تلك الزلازل

إذا سر لم يبطر وليس لـنـكـبةٍ

 

إذا نزلت بالخاشع المـتـضـائل

ولما جلس كان يلبس ثيابه ويتوضأ للصلاة ويقوم ليخرج لصلاة الجمعة، فيرده المتوكلون فيرفع يده إلى السماء ويقول: اللهم أشهدك أنني أريد طاعتك ويمنعني هؤلاء، وأشار على المقتدر أن يقف العقار ببغداد على الحرمين والثغور، وغلتها ثلاثة عشر ألف دينارٍ في كل شهرٍ، والضياع الموروثة بالسواد وارتفاعها نيف وثمانون ألف دينارٍ سوى الغلة، ففعل ذلك وأشهد على نفسه الشهود، وأفرد لهذه الوقوف ديواناً سماه ديوإن البر. ورأى آثار سعيه لآخرته في دنياه، فإنه سلم من جميع البلاء على كثرة من عاداه وقصده، ومنع حواشي المقتدر من المحالات وحملهم على السيرة الحميدة، فأفسدوا أمره حتى اعتقل ثمانية عشر شهراً، ثم نفى إلى مكة واليمن ومصر، ثم عاد ووزر بعد ذلك، واحتاج إلى المشي في بعض أسفاره فجعل يتمثل:

قد علمت إخوتنا كلاب

 

أنا على دقتنا صلاب

وكان الديلم عند دخولهم إلى بغداد إذا اجتازوا على محلته تجنبوها ويقولون: هاهنا دار الوزير الصالح، وكانت داره على دجلة وهي المعروفة بالستيني، واحتاجت مسناتها إلى مرمةٍ فقدروا لها صناعها ثلاثة آلاف دينارٍ، فلما أحضر الدنانير قال: صرفها إلى الصدقة أولى، فليس اليوم على دجلة بين البلد والمعزية غيرها وهي مشهورة ببغداد إلى يومنا هذا. قد عمل عليها عدة دواليب لسقي مزارع الزاهر، ونزل يوماً في طيارةٍ فاجتمع عليه قوم يسألونه توقيعاً فقال: نعم وكرامةً حتى أرجع وأوقع، ثم قال: ومن لي بان أرجع؟ ووقع لهم قائماً ثم قال: افتديت في هذا الفعل بعمر بن عبد العزيز، فإنه وقف على متظلمٍ وأطال الوقوف حتى قضى حاجته وقال: إن الخير سريع الذهاب، وخشيت إن أفوته نفسي.

ولما ورد البريدي إلى بغداد مستولياً عليها متغلباً خوف منه وقيل: الصواب أن تهرب إلى الموصل فقال: أيهرب مخلوق إلى مخلوقٍ؟ أصرفوا ما أعددته لنفقة الطريق إلى الفقراء. فلما دخل البريدي لم يكرم أحداً غيره، وكثر الموتان ببغداد في أيام البريدي، فكفن علي بن عيسى من الغرباء والفقراء ما لا يحصى كثرةً، حتى نفذ ما كان عنده فاستدان لذلك أموالاً كثيرةً، وكان يجري على خمسةٍ وأربعين ألف إنسان جراياتٍ تكفيهم، وخدم السلطان سبعين سنةً لم يزل فيها نعمةً عن أحدٍ، وأحصى له في أيام وزارته نيف وثلاثون ألف توقيعٍ من الكلام السديد، ولم يقتل أحداً ولا سعى في دمه، فبقيت عليه نعمته وعلى ولده بعد أن شحذت له المدى مراراً، فدفع الله عنه وأهلك ظالمه، ولم يهتك حرمةً قط لأحدٍ فلم يهتك الله له حرمةً مع كثرة نكباته، وكان على خاتمه مكتوب:

لله صنع خـفـي

 

في كل أمرٍ يخاف

وكان له ابن يكنى أبا نصرٍ واسمه إبراهيم، وزر للمطيع في شهر ربيعٍ الأول سنة سبعٍ وأربعين، ومات في جمادى الأولى سنة خمسين وثلاثمائةٍ فجأةً. وابن يكنى أبا القاسم واسمه عيسى بن عليٍ كتب للطائع لله.

ودخل علي بن عيسى على أبي نصرٍ وأبي محمدٍ ولدى القاضي أبي الحسن عمر بن أبي عمر محمد بن يوسف يعزيهما بموت أبيهما، فلما أرد الانصراف التفت إليهما وقال: مصيبة قد وجب أجرها، خير من نعمةٍ لا يؤدى شكرها. وهذا عندي من حر الكلام وفصل الخطاب.