باب العين - علي بن عيسى الربعي

علي بن عيسى الربعي

بن الفرج بن صالحٍ الربعي الزهيري أبو الحسن النحوي، أحد أئمة النحويين وحذاقهم، أجيدي النظر الدقيق الفهم والقياس، أخذ عن أبي سعيد السير أفي وهاجر إلى شيراز فأخذ عن أبي عليٍ الفارسي ولازمه عشرين سنةً، فقال أبو عليٍ: ابقي شيء تحتاج إليه، ولوثرت من الشرق إلى الغرب لم تجد أعرف منك بالنحو، ثم رجع إلى بغداد فأقام بها إلى أن مات سنة عشرين وأربعمائةٍ عن نيفٍ وتسعين سنةً، وصنف تصاني منها: كتاب شرح الإيضاح لأبي عليٍ، كتاب شرح مختصر الجرمي، كتاب البديع في النحو، كتاب شرح البالغة، كتاب ما جاء من المبني على فعال، كتاب التنبيه على خطأ ابن جنيٍ في تفسيرٍ شعر المتنبي، كتاب شرح سيبويه إلا أنه غسله، وذاك أن أحد بني رضوان التاجر نازعه في مسألةٍ فقام مغضباً وأخذ شرح سيبويه وجعله في إجانةٍ وصب عليه الماء وغسله، وجعل يلطم به الحيطان ويقول: لا أجعل أولاد البقالين نحاةً. وكان مبتلىً بقتل الكلاب وكسر سوقهم ويقول: ما الذي يمنعهم من نزول الشط؟ فقيل له: يمنعهم كلاب القصابين وسأل يوماً أولاد الأكابر الذين يحضرون مجلسه أن يمضوا معه إلى كلواذي فظنوا ذلك لحاجة عرضت له مناك، فركبوا خيولا وجعل وهو يمشي بين أيديهم وسألوه الركوب فأبى عليهم، فلما صار بخرابها وقفهم على ثلم وأخذ كساء وعصا، وما زال يعدو إلى كلب هناك والكلب يثب عليه تارة ويهرب منه أخرى حتى أعياه، نوه حتى أمسكوه وعض على الكلب بأسنانه عضا شديدا والكلب يستغيث ويزعق، فما تركه حتى اشتفى وقال: هذا عضني منذ أيام وأريد إن أخالف قول الأول:

شاتمني كلب بني مـسـمـع

 

فصنت عنه النفس والعرضا

ولم أجبه لاحـتـقـاري لـه

 

من ذا يعض الكلب إن عضا؟

وكان يوما يمشي على شاطئ دجلة والرضى والمرتضى العلويان في زيزي ومعهما أبو الفتح عثمان بن جنىٍ فقال لهما: من أعجب أحوال الشريفين أن يكون عثمان بن جنىٍ فقال لهما: من أعجب أحوال الشريفين أن يكون عثمان جالساً معهما في الزبزب وعلي يمشي على الشط بعيداً منهما. حدث أبو غالبٍ محمد بن بشران النحوي الواسطي قال: قدم علينا علي بت عيسى الربعي النحوي الى واسط ونزل في حجرة في جوار شيخنا أبي إسحاق يوماً: قد انعكفت على هذا المجنون؟ فقلت له: إنه يحكي النحو عن أبي عليٍ كما أنزل. فقال: صدقت، وهو يحكي النحو عن أبي عليٍ كما أنزل. وحدث ابن بشكوال في كتاب الصلة في أخبار علماء الأندلس قال: قال الربعي: كان عبد الله بن حمودٍ الزبيدي الأندلسي قد قرأ يوماً على أبي عليٍ في نوادر الأصمعي: أكأت الرجل: إذا رددته عنك، فقال أبو عليٍ: ألحق هذه الكلمة بباب أجأ فإني لم اجد لها نظيراً غيرها، فسارع من حوله إلى كتابتها. وقال الربعي: فقلت أيها الشيخ: ليس أكأت من أجأ في شيءٍ. قال: وكيف ذلك؟ قال: قلت لأن إسحاق بن إبراهيم الموصلي وقطرباً النحوي حكيا إنه يقال: كيأ الرجل: إذا جبن، فخجل الشيخ وقال: إذا كان كذا فليس منه، فضرب كل واحدٍ منهم على ما كتب. قرأت بخط هلال بن المظفر الريحاني في كتابٍ ألفه: ذكر غير واحدٍ من أهل زنجان أن رجلاً منها يعرف بجابر بن أحمد خرج إلى بغداد متأدباً، فحين دخل قصد بن عيسى النحوي بعد أن لبس ثياباً فاخرةً عطرةً وتجمل وتزين ودخل عليه وسلم. فقال له علي بن عيسى: من أين الفتى؟ قال: من الزنجان بألفٍ ولامٍ، فعلم الربعي أن الرجل خالٍ من الفضل فقال: متى وردت؟ قال: أمس. فقال: جئت راجلاً أم راكباً؟ فقال: بل راكباً. قال: المركوب مكترىً أم مشترىً؟ قال: بل مكترىً. فقال الشيخ: مر واسترجع الكرى فإنه لم يحمل شيئاً، ثم أنشد الشيخ:

وما المرء إلا الأصغران لسانه

 

ومعقوله والجسم خلق مصور

فإن طرة راقتك فاخبر فربمـا

 

أمر مذاق العود والعود أخضر

قال علي بن عيسى الربعي: استدعاني عضد الدولة وبين يديه الحماسة فوضع يده على باب الأضياف وقال: ما تقول في هذه الأبيات؟:

ومستنبحٍ بات الصدى يسـتـتـيهـه

 

إلى كل صوتٍ وهو في الرجل جانح

فقلت لأهلي: مـا بـغـام مـطـيةٍ

 

وسارٍ أضافته الكلاب الـنـوابـح؟

فقلت: هذا قول عقبة بن بجير الحارث، ومعناه: أن العرب كانت إذا ضلت في سفر وصارت بحيث تظن أنها قريبة من حلةٍ نبحت لتسمعها الكلاب فتجيبها، فيعرفون به موضع القوم فيقصدونه ويستضيفون فيضافون فقال: إن قوماً يتشبهون بالكلاب حتى يضافوا لأدنياء النفوس، فوجمت بين يديه وأنا واقف وهو ينظر إلي، وكان من عاداتنا أنه ما دام ينظر إلى أحدنا لم يزل واقفاً بين يديه حتى يرد طرفه. قال: ثم فكر فقال: لا بل إن أقواماً يستنبحون في هذا القفر والمكان الجدب فيستضيفون فيضافون مع الإقلال والعدم لقوم كرامٍ وأمر لي بجائزةٍ فدعوت له وانصرفت.

قرأت بخط ابي الكرم المبارك بن الفاخر بن محمد ابن يعقوب: قال لنا الرئيس أبو البركات جبر بن علي ابن عيسى الربعي: قال لي أبي: أخرج إلى عضد الدولة بيده مجلداً بأدمٍ مبطنٍ بديباجٍ أخضر في أنصاف السلطاني مذهبٍ مفصولٍ بالذهب بخطٍ أحسن، فيه شعر مدبر وحسن ليس له معنىً. فقال لي: كيف ترى هذا الشعر؟ فقلت: شعر مدبر والذي قاله خرب البيت مسود الوجه، ثم يمضي على ذلك زمان، ودخلت إليه فأومأ إلى خادم وقال له: امض إلى مرقدنا وجئنا بشعرنا، فمضي وجاء بالمجلد بعينه وهو هو فأبلست فقال: كيف تراه؟ وتلجلج لساني وربا في فمي، فقلت حسناً جيداً، ولم ير في ذلك شيئاً ألبته.

قرأت بخط الشيخ أبي محمد بن الخشاب: جاريت الشيخ أبا منصورٍ موهوب بن الجواليقي ذكر أبي الحسن علي بن عيسى بن صالح بن الفرج الربعي صاحب أبي علي الفارسي، فأخذت في تقريظه وتفضيله وقال لي: كان يحفظ الكثير من أشعار العرب مما لم يكن غيره من نظرائه يقوم به، إلا أن جنونه لم يكن يدعه يتمكن منه أحد في الأخذ عنه والإفادة منه. قال: وقال لي الشيخ أبو زكرياء: سألت أبا القاسم بن برهان فقلت له: يا سيدنا، تترك الربعي والأخذ عنه مع إدراكك إياه وتأخذ عن أصحابه؟ فقال لي: كان مجنوناً وأنا كما ترى، فما كنا؟ قال: ولقد مر يوماً بسكران ملقي على قارعة الطريق فحل سرواله يعني سروال الربعي، وجلس على أنفه وجعل يضرط ويشمه السكران ويقول له:

تمتع من شميم عرار نجدٍ

 

فمابعد العشية من عرار