باب العين - علي بن القاسم القاشاني

علي بن القاسم القاشاني

الكاتب أبو الحسن ذكره الثعالبي فقال: بقية مشيخة الكتاب المتقدمين في البراعة، المالكين أزمة البلاغة، المتوقلين في هضبات المجد، المترقين في درجات الفضل والرسائل الجيدة، والأشعار الرائقة. فمن رسائله: كتابي - أطال الله بقاء مولاي - وأنا متردد بين جذلٍ لتجدد بره في خطابه، وبين خجل من قوارع زجره وعتابه، فإذا خليت عنان أنسي في رياض مبارة فرتعت، جاذبيته لاعج الإشفاق من سوء ظنه ففرغت، ولو كنت جانياً لاعتذرت، أو كان سوء ظنه بي صادقاً لاعترفت، ولعذت منه بحقوى كريمٍ لا يبهضه اغتفار الجرائر، ولا يتعاظمه الصفح عن الكبائر.

فصل: علقت هذه المخاطبة والأشغال تكتنفني، وكد الخاطر بأسبابٍ شتى يقتسمني، ووراء ذلك كلال الذهن بارتقاء السن، ونقصان الخواطر بزيادة الشواغل، واستمرار البلادة لمفارقة العادة، ومولاي - والله يعيذه من السوء - مقتبل الشباب، زائد الأسباب، مؤتنف المخائل، متجدد الفضائل، إلى علمٍ لا يدرك مضماره، ولا يشق غباره، فإذا حملني على مساجلته فقد عرضني للتكشف، وإن عرضني على محنة التتبع فقد سلبني ثوب التجمل.

فصل: وصل كتاب مولاي:

فكم فرحةٍ أدى وكم كربةٍ جلى

 

وكم بهجةٍ أولى وكم غمةٍ سلا

وسألت الله واهب خصال الفضل له، وجامع خلال النبل فيه، وحائز جمال المروءة للزمان ببقائه، ومانح كمال المزية للإخوان بمكانه، أن يتولى حفظ النعم النفيسة، ويديم حياطة هذه المنائح الخطيرة بصيانة تلك الشيم العلية، حتى تستوفي المكارم أعلى حظها في أيامه، وتجوز الفضائل أقصى غاياتها في مضماره:

فينجح ذو فضلٍ ويكمد ناقص

 

ويبهج ذو ودٍ ويكبت حاسـد

فصل: وما أرتضي نفسي لمخاطبة مولاي إلا إذا كنت منفي الشواغل فارغ الخواطر، مخلى الجوارح مطلق الإسار سليم الأفكار، فكيف بي مع كلال الحد وانغلاق الفهم، واستبهام القريحة واستعجام الطبيعة، والمعول على النية وهي لمولاي بظهر الغيب مكشوفة، والمرجع إلى العقيدة وهي بالولاء المحض معروفة، ولا مجال للعتب بين هذه الأحوال، كما لا مجاز للعذر وراء هذه الخلال، وكتب إلى الصاحب أبي القاسم بن عبادٍ قصيدةً منها:

إذا الغيوم ارجحن باسـقـهـا

 

وحف أرجاءها بـوارقـهـا

وابتسمت فرحةً لوامـعـهـا

 

واحتفلت عبرةً حمالـقـهـا

وقيل: طوبى لبلدةٍ نـتـجـت

 

بجو أكنافـهـا بـوارقـهـا

فليسق غيث الندى أبا القاسم ال

 

قرم وزير الأنـام وادقـهـا

وهي طويلة ثم قال: هذه - أطال الله بقاء مولاي - نتائج أريحيةٍ أثارتها مخاطبات مولاي، التي هي أنقع لغلتي من برد الشراب، وأعجب إلى من برد الشباب، فجاش الصدر بما أبرأ إليه من عهدته، وأسكنه ظل أمانته وذمته، ليسبل عليه ستر مودته، ويتأمله بعين محبته. نعم وقد محا الزمان آثار اساءته إلي، بما أسعفني به من إقبال مولاي علي، وتتابع بره في مخاطباته لدى، فكل ذنبٍ لهذه النعمة مغفور، وكل جنايةٍ بهذا الإحسان مغمور. وأجابه الصاحب بكتابٍ صدره بأبياتٍ منها:

بدت عذارى مدت سرادقها

 

وأقسم الحسن لا يفارقها؟

كواعب أخرست دمالجهـا

 

عنا وقد أقلقت مناطقها؟

أم روضة أبرزت محاسنها

 

ومايني قطرها يعانقهـا؟

أم أشرقت فقرةً بدائعهـا

 

حديقة زانها طرائقهـا؟

لله حلف العلا أبو حسـنٍ

 

وقد جرت للعلا سوابقها

لله تلك الألفـاظ حـامـلةً

 

غو معان تعيا دقائقـهـا

يكاد إعجازها يشكـكـنـا

 

في سورٍ أنها توافقـهـا

وهي طويلة، هذه - أطال الله عمر مولاي - أبيات علقتها والروية لم تعتلقها، وأعنقت فيها و الفكرة لم تعتنقها، لاثقةً بالنفس ووفائها، وسكوناً إلى القريحة وصفائها، بل علماً باني وإن أعطيت الجهد عنانه، وفسحت للكد ميدانه، لم أدان ما ورد من ألفاظٍ أيسرما أصفها به الامتناع على الوصف أن يتقصاها، والبعد عن الإطناب أن يبلغ مداها، ولقد قرع سمعي منها ما أراني العجز يخطر بين أفكاري، والقصور يتبختر بين إقبالي وإدباري، إلى أن فكرت في أن فضيلة المولى تشتمل عبده، وتخيم وإن تصرفت عنده، فثاب إلى خاطر نظمت به ما إن طالعه صفحاً وجوداً رجوت إن يحظى بطائل القبول، وإن تتبعه نقداً تراجع على أعقاب الخمول، هذا ولا عار على من سبقه سباق الأقران المستولى على قصب الرهان. ومن شعر القاشاني المشهور:

وإني وإن أقصرت عن غير بغضةٍ

 

لراعٍ لأسباب الـمـودة حـافـظ

وما زال يدعوني إلى الصد ما أرى

 

فآبى ويثنيني إلـيك الـحـفـائظ

وأنتظرالعتبى وأغضى على القذى

 

ألاين طوراً في الهوى وأغـالـظ