باب العين - علي بن المحسن أبو القاسم التنوخي

علي بن المحسن أبو القاسم التنوخي

قال السمعاني في كتاب النسب: هو أبو القاسم علي ابن المحسن بن علي بن محمد بن أبي الفهم، واسم أبي الفهم داود بن ابراهيم بن تميم بن جابر بن هانئ بن زيد بن عبيد بن مالك بن مربط بن شرح بن نزار بن عمرو بن الحارث بن عمرو بن فهم بن تيم بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن الحاف بن قضاعة. سمع أبا الحسن علي بن أحمد بن كيسان النحوي، واسحاق بن سعد بن الحسن بن سفيان النسوي، وروى عنه الخطيب فأكثر، وكان قد قبلت شهادته عند الحكام في حداثته، مات فيما ذكره عبد الله بن علي بن الآبنوسي في سنة سبع وأربعين وأربعمائةٍ في محرمها. قال الخطيب: وسألته عن مولده فقال: ولدت بالبصرة في النصف من شعبان سنة سبعين وثلاثمائةٍ. قال: وكان معتزلياً، قال: وكان عنده كتاب القدر لجعفر الفريابي، وكان أصحاب الحديث يتحاشون من مطالبته بإخراجه، فطالبته به وقرأته عليه، وسمعوا أو كما قال. وكان التنوخي ساكتاً لم يعترض على شيء من تلك الأحاديث.

قال: وكان دخل التنوخي كل شهرٍ من القضاء ودار الضرب وغيرهما ستين ديناراً، فيمر الشهر وليس له شيء، وكان ينفق على أصحاب الحديث، وكان الخطيب والصوري وغيرهما يبيتون عنده، وكان ثقة في الحديث متحفطاً في الشهادة محتاطاً صدوقاً، وتقلد قضاء عدة نواحٍ منها المدائن وأعمالها ودرزيجان والبردان وقرميسين.

وحدثنا الهمذاني في تاريخه بعد ذكر مولده ووفاته كما تقدم ثم قال: وكان ظريفاً نبيلاً فاضلاً جيد النادرة.

قال القاضي أبو عبد الله بن الدامغاني: دخلت على القاضي أبي القاسم التنوخي قبل موته بقليلٍ وقد علت سنه فأخرج إلى ولده من جاريته، فلما رآه بكى فقلت: تعيش إن شاء الله وتربيه ويقر الله عينك به، فقال: هيهات والله ما يتربى إلا يتيماً وأنشد:

أرى ولد الفتى كلاً علـيه

 

لقد سعد الذي أمسى عقيما

فاما أن يخـلـفـه عـدوا

 

واما أن يربـيه يتـيمـا

ثم قال: أريد أن تزوجني من أمه - فإنني قد أعتقتها - على صداق عشرة دنانير ففعلت، وكان كما قال تربى يتيما، وهو أبو الحسن محمد بن علي بن المحسن. قبل القاضي أبو عبد الله شهادته، ثم مات سنة أربعٍ وتسعين وأربعمائة وانقرض بيته.

قال أبو الحسن بن أبي الحسين: ولد لأبي القاسم التنوخي ولد في سنة نيفٍ وأربعين وأربعمائةٍ. فقال له رئيس الرؤساء: أيها القاضي، كنت منذ شهورٍ قريبةٍ قلت لي: إنك لا تعرف هذا الشأن، الذي يكون منه الأولاد منذ سنين، وإنه لا حاسة بقيت لك ولا شهوة ولا قدرة على هذا الفن، وأنت اليوم تقر عندي بولدٍ رزقته، ففي أي القولين أنت كاذب أيها القاضي؟ فقال: اللهم غفراً، اللهم غفراً، وخجل وقام. قال: واجتاز يوماً في بعض الدروب فسمع امرأةً تقول لأخرى: كم عمر بنتك يا أختي؟ فقالت لها: رزقتها يوم شهر بالقاضي التنوخي وضرب بالسياط، فرفع رأسه إليها وقال: يا بظراء صار صفعي تاريخك وما وجدت تاريخاً غيره؟ وكان أعمش العينين لا تهدأ جفونه من الانخفاض والارتفاع والتغميض والانفتاح، فقال فيه أبو القاسم بن بابك الشاعر:

إذا التنوخي انـتـشـا

 

وغاض ثم انتعـشـا

أخفى عليه إن مشـي

 

ت وهو يخفى إن مشا

فلا أراه قـــــلةً

 

ولايراني عـمـشـا

وكان تولى دار الضرب فقال البصروي فيه:

وفي أمض الأعمال قاضٍ

 

ليس بأعمى ولا بصـير

يقضم ما يجتـبـى إلـيه

 

قضم البراذين للشـعـير

قال غرس النعمة: حدثت أنه جاء رجل إلى التنوخي على الطريق وهو راكب حماره وأعطاه رقعةً وبعد مسرعاً ففتحها وإذا فيها:

إن التنوخـي بـه أبـنة

 

كأنه يسجد لـلـفـيش

له غلامان ينـيكـانـه

 

بعلة التزويج في الخيش

فلما قرأها قال: ردوا ذاك زوج القحبة الذي أعطاني الرقعة، فعدوا وراءه فقال: هذه الرقعة منك؟ فقال: لا، أعطانيها بعض الناس وأمرني أن أوصلها اليك، قال: قل له: يا كشخان يا قرنان يا زوج ألف قحبةٍ، هات زوجتك وأختك وأمك إلى داري، وانظر ما يكون مني إليهم، واحكم ذلك الوقت بما حكمت به في رقعتك أو بضده، قفاه قفاه، فصفعوه وافترقا.

قال غرس النعمة: حدثني أبو سعدٍ الماندائي قال: دخلت يوماً على القاضي أبي القاسم التنوخي وكانت عينه رمدةً أتعرف خبره فقال لي: حدثني من رأيت وما رأيت في طريقك؟ فقلت: رأيت منسفاً فيه نحو عشرين رطلاً رطباً أزاذاً لقاطاً ما رأيت مثله. فقال لغلامه: يا أحمد، علي بالمنسف الساعة، فمضى أحمد وابتاعه وجاء به فحل عينه وغسلها من الدواء الذي فيها وقال لي: كل حتى آكل، فقلت يا سيدي عينك رمدة فكيف تأكل رطبا؟ فقال: كل فعيني تهدأ والرطب يفنى، فأكل والله منه حتى وقف. قال: وحدثني قال: كنت ليلةً بائتاً عنده فهبت ريح شديدة فما زال طرف النطع الذي تحته يصعد وينزل ويصفع رأسه فقال: هذا سقوط الساعة أم مصافعة؟ فقلت: ممن يا سيدنا؟ فقال: فضولك وضحكنا. قال: وحدثني قال: حدثني القاضي قال: كنت يوماً وقت القيلولة نائماً فاجتاز واحد غث يصيح صياحاً أزعجني وأيقظني: شراك النعال، شراك النعال. فقلت لأحمد الغلام: خذ كل نعلٍ لي ولمن في داري وأخرجها إلى هذا الرجل ليرمها ويشتغل بها ففعل، ونمت إلى إن اكتفيت ثم انتبهت وصليت العصر وأعطيته أجرته ومضى، فلما كان من غدٍ في مثل ذلك الوقت جاء وأنا نائم فصاح وأنبهني فقلت للغلام: أدخله، فأدخله فقلت: يا ماص كذا وكذا من أمه، أمس في هذا الوقت أصلحت كل نعلٍ لنا. وعدت اليوم تصيح على بابنا، أبلغك أننا البارحة تصافعنا بالنعال وقطعناها؟ وقد عدت اليوم لعملها وإصلاحها، قفاه. فقال يا سيدنا القاضي: أو أتوب الأ أدخل هذا الدرب؟ قلت: فما تتركني أنام ولا أهدأ ولا أستقر؟ فحلف ألا يعود إلى الدرب وأخرجته إلى لعنة الله. قال: ورأيته يوماً عند الرئيس الوالد - رضي الله عنهما - وهو يشكو إليه قبح أبي القاسم بن المسلمة رئيس الروساء وقصده له وغضه منه، وتناهى غضبه إلى إن أخذ الدواة من بين يدي الرئيس ورفعها إلى فوق رأسه وقال: والله لقد بال في حجري وعلى ثيابي بعدد الرمل والحصا والتراب، وحط الدواة فضرب بها الأرض فكسرت، فلما رأى ذلك قام وانصرف وقد استحيا وبقينا متعجبين منه.

قال: وحدثني أبو سعدٍ الماندائي قال: كنت مع القاضي التنوخي وقد خرج يوماً من دار الخلافة ليعبر إلى داره بالجانب الغربي، فلما بلغنا مشرعة نهر معلى صاح به الملاحون: يا شيخ يا شيخ، تعال هنا تعال هنا، فوقف وقال لهم: كل مردىٍ معكم ومجذاف في كذا وكذا من نسائكم، ما فيكم إلا من يعرفني ويعلم أنني القاضي التنوخي يا كذا وكذا، ثم نزل وهو يسبهم ويشتمهم والملاحون وأنا قد متنا بالضحك. وجاءه غلام قد تزوج وكتب كتاباً بمهر يشهده فيه واستحيا الغلام من ذلك فجذب طاقةً من حصير القاضي وجعل يقطعها لحيائه وخجله، ولحظه القاضي فقال يا هذا: أنا أشهد لك في كتابٍ يقتضي أن يحمل به إليك القماش والجهازاللذان يعمران بيتك ويجملأن أمرك، وأنت مشغول بقطع حصيري وتخيب بيتي؟ وشق الكتاب قطعاً ولم يشهد فيه ورمى به إليه، فأخذه وانصرف متعجباً.

قال: وحدثني الرئيس أبو الحسين والدي قال: شهد القاضي أبو القاسم - منذ سنة أربعٍ وثمانين وثلاثمائةٍ، إلى أن توفي في المحرم سنة سبعٍ وأربعين وأربعمائةٍ، وكان مولده يوم الثلاثاء النصف من شعبان سنة خمسٍ وستين وثلاثمائةٍ، إلى أن توفي في المحرم سنة سبعٍ وأربعين وأربعمائةٍ، وكان مولده يوم الثلاثاء النصف من شعبان سنة خمسٍ وستين وثلاثمائةٍ -، نيفاً وستين سنةً ما وقف له على زلةٍ ولا غلطةٍ. وأذكر له حكايةً وهي: أنه شهد مع جماعةٍ من الشهود على زوجة أبي الحسن بن أبي تمامٍ الهاشمي نقيب النقباء في اقرارٍ أقرت به، فلما سمعوا اقرارها من وراء الستارة لم يقنعهم ذاك، وأرداوا من يشهد عندهم أن المقرة هي المذكورة في الكتاب بعينها، وأن يشاهدوها حتى يسلموا له، ويصح أن يشهدوا عليها بالمعرفة، فلم يقدموا على ذلك وخطاب أبي تمام فيه، فخرج ولده منها فقام له التنوخي وأخذه إلى حجره وقبل رأسه وقال له: قليلاً قليلاً، من هذه التي تكلمنا من وراء الستارة وتحدثنا وتشهدنا عليه؟ فقال له: ستي، فالتفت إلى الجماعة وقال لهم: اشهدوا يا سادة، فأنا أشهد عندكم أن المقرة عندنا من وراء الستارة هي المذكورة في الكتاب بعينها، فشهدوا وشهد معهم. وقال من بعد: هذا صبي لا يعرف ما نحن فيه، ولو كان خلف الستارة غير ستة لقال، ولما كانت هي بعينها قال: هي ستي. ولعمري لقد كان أبو الحسن أجل من أن يفعل هذا معنا. قال أبو الحسن: كان لنا غلام يعرف بجميلة فابتاع ألف سابلٍ سرجيناً من ملاحٍ يعرف بالدابة ليحمله إلى قراحنا المشجر في نهر عيسى ليطرح في أصول الشجر، فلما ذكر جميلة ذاك للرئيس رضي الله عنه قال له: اكتب عليه خطاً وأشهد فيه يعني المعلم في الدار ومن يجري مجراه، فكتب جميلة على الملاح رقعةً ومضى بها لا يلوي على شيءٍ إلى أن عاد التنوخي بين الصلاتين وهو جائع حاقن تعب والزمان صاف، فقام إليه ودعا له وقال له: من أنت؟ قال غلام فلان. قال: ما لك؟ قال: شهادة. قال له: اقعد ودخل فخلع ثيابه ودخل بيت الطهارة وأطال والغلام يصيح يا سيدنا أنا قاعد من ضحوة النهار إلى الساعة، فقال له: ويلك؟ أصبر حتى أخرا، أصبر حتى أخرا، اصبر حتى أخرا، ثم توضأ ليصلي فلم يهنئه فقال: ادخل دخلت بطنك الشمس، فقد والله حيرتني وجننتني، فلما دخل أعطاه الرقعة فقرأها وقال: ويلك، ما اسم هذا الملاح؟ فقال: الدابة يا سيدي، فقال: وأي شيء يقربه؟ ويلك فما أقف عليه، أرى خمسة آلاف سابلٍ سرقين. فقال له: وما السرقين؟ فقال: خرء البقر والغنم.

قال: يا ماص بظر أمه، أنا شاهد الخرء؟ ونهض إليه وهو مغتاظ فأخذ ينتف ذقنه ويضرب رأسه وفكه إلى إن جرى الدم من فيه وأخرجه، وجاء إلى الرئيس رحمه الله فحدقه بما جرى عليه فقال: يا هذا، الشهود يستشهدون في الخرا؟ أنت بالله أحمق. وجاءنا القاضي بعد العصر يشكو من جميلة أزه له وتوكله به، ويعتذر مما جره جنونه عليه، وما انتهى معه إليه، فضحكنا عليه ومرت لنا ساعة طيبة بما أورده عليه.
قال: وحدثني الرئيس أب والحسن - رضي الله عنه - قال: حضر عندي القاضي أبو القاسم التوخي يوماً وقد هرب الكافي أبو عبد الله إلقائي ببغداد، وخرج إلى الأنبار، ونظر أبا سعد محمد بن الحسين بن عبد الرحيم وكان التنوخي مائلاً إلى بني عبد الرحيم ونابياً عن أضدادهم. فبدأ بذكر القنائي - وكان لي صديقاً - بقبيحٍ وزاد وخشن وخبط، فغمض عيني واستلقيت على مخدتي لعله يكف ويقطع، فعلم ذاك مني فقفز إلى يحركني ويقول: والله ما أنت نائم، ولكنك ما تحب أن تسمع في القنائي قبيحاً. فقلت: ما أحب أن أسمع في القنائي ولا في غيره قبيحاً، وقد تناومت لتقطع فلم تفعل ومضى، وبلغ القنائي المجلس بعينه. وعاد القنائي إلى بغداد ناظراً، ودخل التنوخي إليه مسلماً وخادماً فقال له: يا قاضي، ما فعلت بك قبيحاً يقتضي ذكرك لي وطعنك في، فقال: يا مولانا أنا مجنون. قال: إذا كنت مجنوناً فالمارستان لمثلك عمل، وفي حملك إليه ومداواتك فيه ثواب ومصلحة وكف لك عن الناس وأذاهم بجنونك وخباطك، يا أنصاري - للعريف على باب - احمله إلى المارستان واحبسه مع إخوانه المجانين، فأخذ وحمل إلى المارستان وحبس فيه، قال الرئيس: وعرفت القصة فركبت إلى القتائي ولحقني المرتضى والرؤساء من الناس ولم نفارقه حتى أفرج عنه وأطلقه. واجتاز القاضي أبو القاسم يوماً فرأى في طريقه كلباً رابضاً فقال له: اخسأ اخسأ اخسأ فلم يبرح، فقال اخسأ، وعاد عنه ومضى. قال أبو الحسن: لقيته يوماً بنت ابن العلاف زوجة أبي منصور بن المزرع، وكانت عاهرةً إلى الحد الذي تلبس الجبة المضربة، وتتعمم بالقياد وتأخذ السيف والدرقة، وتخرج ليلاً فتمشي مع العيارين وتشرب إلى أن تسكر وتعود سحراً إلى بيتها، وربما انتهى بها السكر إلى الحد الذي لا تملك معه أمر نفسها فيحملها العيارون إلى دار زوجها على تلك الحال. فقال له يا قاضي: ما معنى هذه التاء التي تكتبها على الدراهم؟ وكان إليه العيار في دار الضرب، فقال لها: هذا شيء يعملونه كالعلامة، أن التنوخي متولي العيار فيأخذون التاء من أول نسبتي، فقالت: كذبت وأثمت أيها القاضي، تريد أن أقول لك معناها؟ فقال لها: قولي تاست النساء، فقالت: معناها يا قاضي: تنيكها يا قاضي، فضرب حماره ومضى وهو يقول لها: لحية زوجك في حجري، لحية زوجك في حجري. قال: ولقيه إنسان ومعه كتاب في الطريق فأعطاه إياه وسأله أن يشهد فيه فقال: هات دواةً ومحبرةً. فقال: ما معي، فقال ويحك ما صبرت أن أنزل إلى داري وأشهد عليك بدواتي؟ بل اعترضتني في الطريق وليس معك ما تكتب منه ويلك، من يريد أن ينيك في الدهليز يجب أن يكون أيره قائماً مثل دستك الهاون وتركه ومضى.