من أهل نيسابور، ذكره الثعالبي فقال: هو لسان خراسان وعينها، وواحدها في الكتابة والبلاغة، وممن لم يخرج مثله في الصناعة والبراعة، وكان تأدب بنيسابور عند مؤدبٍ بها يعرف بالحسن بن مهرجان من أعرف المؤدبين بأسرار التأديب والتدريس، وأعلمهم بطريق التدريج إلى التخريج، ثم حرر مديدةً في بعض الدواوين فخرج منقطع القرين، واسطة عقد الفضل، ونادرة الزمان، وبكر الفلك كما قال فيه الهزيمي:
سبق الناس بياناً فـغـدا |
|
وهو بالإجماع بكر الفلك |
أصبح الملك به متسـقـاً |
|
لسليل الملك عبد الملـك |
ووقع في ريعان أمره وعنفوان عمره إلى أبي علي الصاغاني واستأثر به واستخلصه لنفسه، وقلده ديوان رسائله، فحسن خبره، وسافر أثره، وكانت كتبه ترد على الحضرة في نهاية الحسن والنضرة، فتقع المنافسة فيه، ويكاتب أبوعليٍ في إيثار الحضرة به، فيتعلل ويتسلل لواذاً، ولا يخرج عنه إلى أن كان من كشف أبي علىٍ قناع العصيان، وإنهزامه في وقعة خرجيك إلى الصغانيان ما كان، وحصل أبو القاسم في جملة الأسرى من أصحاب أبي علي، فحبس في القهندز وقيدج مع حسن الرأي فيه وشدة الميل إليه. ثم إن الأمير الحميد نوح بن نصر أراد أن يستكشفه عن سره ويقف على خبيئة صدره، فأمر أن يكتب إليه رقعة على لسان بعض المشايخ ويقال له فيها: إن أبا العباس الصاغاني قد كتب إلى الحضرة يستوهبك من السلطان ويستدعيك إلى الشاس لتتولى له كتابة الكتب السلطانية، فما رأيك في ذلك؟ فوقع في الرقعة: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، فلما عرض توقيعه على الحميد حسن موقعه منه وأعجب به، وأمر بإطلاقه والخلع عليه، وإقعاده في ديوان الرسائل خليفةً لأبي عبد الله بن الحسين بن العميد الملقب بكله، وهو والد أبي الفضل بن العميد، وكان الاسم للعميد والعمل لأبي القاسم، وعند ذلك قال بعض مجان الحضرة:
تبظرم الشـيخ كـلـه |
|
ولست أرضى ذاك له |
كأنـه لـم ير مــن |
|
قعد عـنـه بـدلـه |
واللـه إن دام عـلـى |
|
هذا الجنون والبـلـه |
فإنــه أول مـــن |
|
ينتف منه الـبـسـلة |
وكان أبو القاسم يهجوه فقال فيه وكان يحضر الديوان في محفةٍ لسوء أثر النقرس على قدمه:
يا ذا الذي ركب المحف |
|
فة جامعاً فيها جهازه |
أترى الزمان يعيشنـي |
|
حتى يرينها جنـازه؟ |
فلم تطل الأيام حتى أدركت العميد منيته، وبلغ أبو القاسم أمنيته، وتولى العمل برأسه، وعلا أمره وبعد صيته، وجمعت رسائله أقسام الحسن والجودة، وازداد على الأيام تبحراً في الصناعة، ويحكي أن الحميد أمره ذات يومٍ بكتب كتابٍ إلى بعض الأطراف وركب متصيداً واشتغل أبو القاسم عن ذلك لمجلس إنسٍ عقده بين إخوانٍ جمعهم عنده، فحين رجع الحميد من متصيده استدعى أبا القاسم وأمره باستصحاب الكتاب الذي رسم له كتابته ليعرضه عليه ولم يكن كتبه، فأجاب داعيه وقد نال منه الشراب ومعه طومار بياض أو هم أنه مكتوب فيه الكتاب المرسوم له، وقعد بالبعد عنه فقرأ عليه كتاباً طويلاً سديداً بليغا أنشأه في وقته وقرأه عن ظهر قلبه، وارتضاه الحميد وهو يحسب أنه قرأه من سواد مكتوبه وأمره بختمه، فرجع إلى منزله وحرر ما قرأه وأصدره على الرسم في أمثاله.
ومن عجيب أمره: إنه كان أكتب الناس في السلطانيات، فإذا تعاطى الإخوانيات كان قصير الباع، وكان يقال: إذا استعمل ابوالقاسم نون الكبرياء تكلم من السماء، وكان في علو الرتبة في النثر وانحطاطه في النظم كالجاحظ، ورسائله كثيرة مدونة سائرة في الآفاق.
قال: ولما انتقل إلى جوار ربه أكمل ما كان شباباً وآداباً، وغدت الكتابة لفراقه شعثاء، والبلاغة غبراء أكبر فضلاء الحضرة رزيته، وأكثروا مرثيته، فمن ذلك قول الهزيمي الأبيوردي من قصيدة:
ألم تر ديوان الرسائل عطـلـت |
|
لفقدانه أقـلامـه ودفـاتـره |
كثغرٍ مضى حاميه ليس لسـده |
|
سواه وكالكسر الذي عز جابره |
ليبك علـيه خـطـه وبـيانـه |
|
فذا مات واشيه وذا مات ساحره |