باب العين - علي بن محمد بن أبي الفهم

علي بن محمد بن أبي الفهم، لتنوخي

داود بن ابراهيم التنوخي أبو القاسم القاضي، قد تقدم نسبه في ترجمة حفيده علي بن المحسن. قال السمعاني: ولد أبو القاسم هذا بأنطاكيه في ذي الحجة سنة ثمانٍ وسبعين ومائتين، وقدم بغداد في حداثته في سنة ستٍ وثلاثمائةٍ، وتفقه بها على مذهب أبي حنيفة، وسمع الحديث ورواه، وولى القضاة بالأهواز وكورها، وتقلد قضاء إيذج وجند حمص من قبل المطيع لله، ومات بالبصرة في ربيعٍ الأول سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائةٍ ودفن بالمربد. أعرف من التنوخيين هؤلاء الثلاثة، فينبغي أن يذكروا في هذا الكتاب وهم: أبو القاسم وابنه أبو عليٍ المحسن صاحب كتاب نشوار المحاضرة وكتب الفرج بعد الشده، وحفيده أبو القاسم على الأخير شيخ الخطيب وتلك الطبقة، وقد ذكرت كل واحدٍ منهم، وله تصانيف في الأدب منها: كتاب في العروض. قال الخالع: ما عمل في العروض أجود منه. كتاب في علم القوافي، وكان بصيراً بعلم النجوم، قرأه على البناني المنجم صاحب الزيج ويقال: إنه كان يقوم بعشرة علومٍ، وتقلد القضاء بالأهواز وكورة واسط وأعمالها والكوفة، وسقى الفرات وجند حمص وعدة نواحٍ من الثغور الشامية وأرجان وكورة سابور مجتمعاً ومفترقاً، وأول ولايته القضاء رياسةً في أيام المقتدر بالله بعهدٍ كتبه له أبو علي بن مقلة الوزير، وشهد الشهود عنده فيما حكم بين أهل عمله بالحضرة في سنة أربعين وثلاثمائةٍ وشهدوا على إنفاذه. وكان المطيع لله قد عول على صرف أبي السائب عن قضاء القضاة وتقليده إياه، فأفسد ذلك بعض أعدائه، وكان ابن مقلة قلده المظالم بالأهواز والأشراف على العيار بها، وكان أبو عبد الله البريدي قد استخلفه بواسط على بعض أمور النظر، ولم يزل نبيهاً متقدماً يمدحه الشعراء ويجيزهم، ويفضل على من قصده إفضالاً أثر في حاله، وتوفي في سنة اثنتين وأربعين، وصلى عليه الوزير أبو محمدٍ المهلبي وقضى ما كان عليه من الدين وهو خمسون ألف درهمٍ.

 قال أبو عليٍ التنوخي: كان أبي بحفظ للطائيين سبعمائة قصيدةٍ ومقطوعةٍ سوى ما يحفظ لغيرهم من المحدثين والمخضرمين والجاهليين، ولقد رأيت له دفتراً بخطه هو عندي يحتوي على رؤس ما يحفظه من القصائد مائتين وثلاثين ورقةً أثمانٍ منصوريٍ لطافٍ. وكان يحفظ من النحو واللغة شيئاً عظيماً مع ذلك، وكان عظيماً في الفقه والفرائض. والشروط والمحاضر والسجلات رأس ماله، وكان يحفظ منه ما قد اشتهر من الكلام والمنطق والهندسة، وكان في النحو وحفظ الأحكام وعلم الهيئة قدوةً وفي حفظ علم العروض. وله فيه وفي الفقه وغيرهما عدة كتبٍ مصنفة، وكان مع ذلك يحفظ ويجيب فيما يفوق عشرين ألف حديثٍ، وما رأيت أحداً أحفظ منه، ولولا أن حفظه افترق في جميع هذه العلوم لكان أمراً هائلاً. قال أبو منصور الثعالبي: هو من أعيان أهل العلم والأدب، وأفراد الكرم وحسن الشيم، وكان كما قرأته في فصل للصاحب: إن أردت فإني سبحة ناسك، أو أحببت فإني تفاحة فاتكٍ، أواقترحت فإني مدرعة راهبٍ، أو آثرت فإني تحية شاربٍ. وكان يتقلد قضاء البصرة والأهواز بضع سنين، وحين صرف عنه ورد حضرة سيقف الدولة زائراً ومادحاً، فأكرم مثواه وأحسن قراه، وكتب في معناه إلى الحضرة ببغداد حتى أعيد إلى عمله، وزيد في رزقه ورتبته. وكان المهلبي الوزير وغيره من رؤساء العراق يميلون إليه جداً ويتعصبون له، ويعدونه ريحانة الندماء، وتاريخ الظرفاء، ويعاشرون منه من تطيب عشرته، وتكرم أخلاقه، وتحسن أخباره، وتسير أشعاره، ناظماً حاشيتي البر والبحر، وناحيتي الشرق والغرب. وبلغني أنه كان له غلام يسمى نسيماً في نهاية الملاحة واللباقة، وكان يؤثره على كافة غلمانه، ويختصه بتقريبه واستخدامه، فكتب إليه بعض يأنس به:

هل على مـن لامـه مـدغـم

 

لاضطرار الشعر في ميم نسيم؟

فوقع تحته نعم، ولملا؟ قال: ويحكى إنه كان من جملة القضاة الذين ينادمون الوزير المهلبي ويجتمعون عنده في الأسبوع ليلتين على اطراح الحشمة، والتبسط في القصف والخلاعة، وهم ابن قريعة، وابن معروفٍ، والقاضي الإيذجي وغيرهم، وما منهم إلا أبيض اللحية طويلها، وكذلك كان المهلبي، فإذا تكامل الأنس وطاب المجلس، ولذ السماع وأخذ الطرب منهم مأخذه، وهبوا ثوب الوقار للعقار، وتقلبوا في أعطاف العيش بين الخفة والطيش، ووضع في يد كلٍ منهم طاس ذهب من ألف مثقالٍ مملوء شراباً قطربلياً وعكبرياً فيغمس لحيته فيه، بل ينقعها حتى تتشرب أكثره، ثم يرش بها بعضهم على بعضٍ، ويرقصون بأجمعهم وعليهم المصبغات ومخانق البرم ويقولون كلما كثر شربهم: هرهر وإياهم عن السرى بقوله:

مجالس ترقص القضاة بها

 

إذا أنتشوا في مخانق البرم

وصاحب يخلط المجون لنا

 

بشيمةٍ حلوةٍ من الـشـيم

يخضب بالراح شيبه عبثـاً

 

أنامل مثل حمرة العـنـم

حتى تخال العيون شيبتـه

 

شييبةً قد مزجتـهـا بـدم

فإذا أصبحوا عادوا إلى عاداتهم في التزمت والتوقر والتحفظ بأبهة القضاء وحشمة المشايخ الكبراء ومن شعر التنوخي هذا:

وجاء لا جـاء الـدجـى كـأنـه

 

من طلعة الواشي ووجه المرتقب

وفعل الظـلام بـالـضـياء مـا

 

يفعله الحرف بـأبـنـاء الأدب

وله:

وليلة مشتـاقٍ كـأن نـجـومـه

 

قد اغتصبت عيني الكرى فهي نوم

كأن عيون الساهرين لطـولـهـا

 

إذا شخصت للأنجم الزهر أنجـم

كأن سواد الليل والفجر ضـاحـك

 

يلوح ويخفـي أسـود يتـبـسـم

وله:

عهدي بها وضياء الصبح يطفيها

 

كالسرج تطفأ أو كالأعين العور

أعجب به حين وافى وهي نيرة

 

وظل يطمس منها النور بالنور

وله:

لم أنس دجلة والدجى متصوب

 

والبدر في أفق السماء مغرب

فكانهـا فـيه بـسـاط أزرق

 

وكأنه فيها طراز مـذهـب

وله:

كتبت وليلى بالسهـاد نـهـار

 

وصدري لوراد الهموم صدار

ولي أدمع عزر تفيض كأنهـا

 

سحائب فاضت من يديك غزار

ولم أر مثل الدمع ماءً إذا جرى

 

تلهب منه في المدامـع نـار

رحلت وزادي لـوعة ومـطـيتـي

 

جوانح من حـرالـفـراق حـرار

مسير دعاه الناس سـيراً تـوسـعـاً

 

ومعنى اسمه إن حقـقـوه إسـار

إذا رمت أن أنسى الأسى ذكرت بـه

 

ديار بهـا بـين الـضـلـوع ديار

لك الخير، عن غير اختياري ترحلي

 

وهل بي على صرف الزمان خيار؟

وهذا كتابي والجـفـون كـأنـهـا

 

تحكم في أشـفـارهـن شـفـار

         

وله:

فحم كيوم الفراق يشعـلـه

 

نار كنار الفراق في الكبد

أسود قد صار تحت حمرتها

 

مثل العيون اكتحلن بالرمد

وله في محبوب جسيم:

من أين أستر وجدي وهو منهـتـك

 

ماللمتيم في تفـك الـهـوى درك؟

قالوا: عشقت عظيم الجسم، قلت لهم:

 

كالشمس أعظم جسمٍ حازه الفـلـك

وله:

رضاك شباب لا يليه مشـيب

 

وسخطك داء ليس منه طبيب

كأنك من كل القلوب مركب

 

فأنت إلى كل القلوب حبيب

قال: ومما أنشدته له ولم أجده في ديوانه:

قلت لأصحابي وقد مـر بـي

 

منتقباً بعد الضيا بـالـظـلـم

باللـه يا أهـل ودادي قـفـوا

 

كي تبصروا كيف زوال النعم؟

وحدث السلامي قال: حدثني اللحام قال: خرج أبو أحمد بن ورقاء الشيباني في بعض الأسفار فكتب إليه أبو القاسم التنوخي الأنطاكي يتشوق إليه ويجزع على فراقه:

أسير وقلـبـي فـي ذراك أسـير

 

وحادي ركابـي لـوعة وزفـير

ولي أدمع غرز تفيض كـأنـهـا

 

جدىً فاض في العافين منك غزير

وطرف طريف بالسهـاد كـأنـه

 

نداك وجيش الجـود فـيه يغـير

أبا أحمدٍ إن المـكـارم مـنـهـل

 

لكـم أول مـن ورده وأخــير

سماح كمزن الجود فيه تـسـجـم

 

وغاب لأسد الـمـوت فـيه زئير

شباب بني شيبان شيب إذا انـتـدوا

 

وقلهـم يوم الـلـقـاء كـثـير

وجوه كأكبـاد الـمـحـبـين رقةً

 

على أنها يوم اللقـاء صـخـور

وحدث أبو سعد السمعاني ومن خطه نقلت بإسنادٍ رفعه إلى منصورٍ الخالدي قال: كنت ليلةً عند القاضي التنوخي في ضيافته فأغفى اغفاءةً فخرجت منه ريح، فضحك بعض القوم فانتبه لضحكه وقال: لعل ريحاً، فسكتنا فمكث هنيهةً ثم أنشأ يقول:

إذا نامت العينان مـن مـتـيقـظٍ

 

تراخت بلا شكٍ تشاريج فقحـتـه

فمن كان ذا عقلٍ فيعـذر نـائمـاً

 

ومن كان ذا جهلٍ ففي جوف لحيته

ومن خط السمعاني بإسناده له، وهي من مشهور شعره:

لم أنس شمس الضحى تطالعنـي

 

ونحن من رقبةٍ عـلـى فـرق

وجفن عيني بـدمـعـه شـرق

 

لما بدت في معصفـرٍ شـرق

كأنه أدمـعـي ووجـنـتـهـا

 

لما رمتنا الوشـاة بـالـحـدق

ثم تغطت بكـمـهـا خـجـلاً

 

كالشمس غابت في حمرة الشفق

وله:

تخير إذا ما كنت في الأمر مرسلاً

 

فمبلغ آراء الرجال رسـولـهـا

وروئ وفكر في الكتاب فإنـمـا

 

بأطراف أقلام الرجال عقولهـا

وحدث أبو عليٍ المحسن بن علي بن محمدٍ التنوخي: جرى في مجلس أبي - رحمه الله - يوماً ذكر رجلٍ كان صغيراً فارتفع، فقال بعض الحاضرين: من ذاك الوضيع؟ أمس كنا نراه بمرقعةٍ يشحذ، فقال أبي: وما يضعه من أن الزمان عضه ثم ساعده؟ كل كبيرٍ إنما كان صغيراً أولاً، والفقر ليس بعارٍ إذا كان الإنسان فاضلاً في نفسه، وأهل العلم خاصةً لا يعيبهم ذلك، وأنا اعتقد أن من كان صغيراً فارتفع، أو فقيراً فاستغنى، أفضل ممن ولد في الغنى أو في الجلالة، لأن من ولد في ذلك إنما يحمد على فعل غيره، فلا حمد له هو خاصةً فيه، ومن لم يكن له فكان، فكأنما بكده وصل إلى ذلك، فهو أفضل ممن وصل إليه ميراثاً أوبجد غيره وكد سواه.

حدث أبو عليٍ المحسن بن أبي القاسم علي بن محمد ابن داوود التنوخي: حدثني أبي قال: سمعت أبي - رحمه الله - يوماً ينشد وسنى إذا ذاك خمس عشرة سنةً بعض قصيدة دعبل بن عليٍ الطويلة التي يفخر فيها باليمن ويعدد مناقبهم، ويرد على الكميت فيها فخره بنزارٍ وأولها:

أفيقي من ملامك يا ظعيناً

 

كفاك اللوم مر الأربعينا

وهي نحو ستمائة بيتٍ، فاشتهيت حفظها لما فيها من مفاخراليمن لأنهم أهلي، فقلت يا سيدي: تخرجها إلي حتى أحفظهاً؟ فدافعني فألححت عليه فقال: كأني بك تأخذها فتحفظ منها خمسين بيتاً أو مائة بيتٍ، ثم ترمي بالكتاب وتخلقه على، فقلت: إدفعها إلي فأخرجها وسلمها لي وقد كان كلامه أثر في فدخلت حجرةً لي كانت برسمي من داره، فخلوت فيها ولم أتشاغل يومي وليلتي بشيء غير حفظها، فلما كان السحر كنت قد فرغت منها جميعها وأتقنتها، فخرجت إليه غدوةً على رسمي فجلست بين يديه فقال لي: كم حفظت من القصيدة؟ فقلت: قد حفظتها بأسرها، فغضب وقدر أني قد كذبته وقال: هاتها، فأخرجت الدفتر من كمي فأخذه وفتحه ونظر فيه وأنا أنشد إلى إن مضيت في أكثر من مائة بيتٍ، فصفح منها عدة أوراقٍ وقال: أنشد من هاهنا، فأنشدت مقدار مائة بيتٍ، فصفح إلى إن قارب آخرها بمائة بيتٍ وقال: أنشدني من هاهنا، فأنشدته من مائة بيتٍ فيها إلى آخرها فهاله ما رأى من حسن حفظي، فضمني إليه وقبل رأسي وعيني وقال: بالله يا ابني لا تخبر بهذا أحداً فإني أخاف عليك من العين. قال أبو عليٍ: قال لي ابي: حفظني أبي وحفظت بعده من شعر أبي تمامٍ والبحتري سوى ما كنت أحفظ لغيرهما من المحدثين من الشعراء مائتي قصيدةٍ قال: وكان أبي وشيوخنا بالشام يقولون: من حفظ للطائيين أربعين قصيدةً ولم يقل الشعر فهو حمار في مسلاخ إنسانٍ، فقلت الشعر وبدأت بمقصورتي التي أولها:

لولا التناهي لم أطع نهي النهي

 

أي مدىً يطلب من جاز المدى؟

قال علي بن المحسن: وجدت في كتب أبي كتاباً من كتب أبي محمد المهلبي إليه قبل تقلده الوزراة بسنين أوله: كتابي أطال الله بقاء سيدنا القاضي عن سلامةٍ لا زالت له ألفاً وعليه وقفاً:

وحمدٍ لمولىً أستمـد بـحـمـده

 

له الرتبة العلياء والعـز دائمـاً

وإن يسخط الأيام بالجمع بـينـنـا

 

وترضى المنى حتى يرينيك سالما

وصل كتابه أدام الله عزه فقمت معظماً له، وقعدت مشتملاً على السرور به:

وفضضته فـوجـدتـه

 

ليلاً على صفحات نور

مثل السوالف والـخـدو

 

د البيض زينت بالشعور

بنظام لفظٍ كـالـثـغـو

 

ر وكاللإلئ في النحور

أنزلته في القلب منزلة القلوب من الصدور قال أبو علي في النشوار: حدثني أبو العلاء صاعد ابن ثابتٍ قال: كتب إلى القاضي التنوخي جواب كتابٍ كتبته إليه، وصل كتابك:

فما شككت وقد جاء البشـير بـه

 

أن الشباب أتاني بعد ما ذهـبـا

وقلت: نفسي تفدي نفس مرسلـه

 

من كل سوءٍ ومن أملي ومن كتبا

وكاد قلبي وقد قلبـتـه قـرمـاً

 

إلى قراءته أن يخرق الحجـبـا

قال: والشعر له وأنشدنيه بعد ذلك لنفسه. قال أبو عليٍ: ولست أعرف له ذلك ولا وجدته في كتبه منسوباً إليه، ويجوز أن يكون مما قاله ولم يثبته، أو ضاع فيما ضاع من شعره فإنه أكثر مما حفظ، ومن شعر أبي القاسم علي بن محمدٍ التنوخي الأكبر:

يجود فيستحي الحيا عنـد جـوده

 

ويخرس صرف الدهر حين يقول

عطايا تباري الريح وهي عواصف

 

ويخجل منها المزن وهو هطول

أقام له سوقاً بضائعهـا الـنـدى

 

سماح لأرسال السمـاح رسـيل

له نسب لوكان للشمـس ضـوءه

 

لما غالها بعد الطـلـوع أفـول

وله:

يا واحد الناس لا مستثنـيا أحـداً

 

اذ كان دون الورى بالمجد منفردا

أماترى الروض قد لاقاك مبتسماً

 

ومد نحو الندامى لـلـسـلام يدا

فاخضر ناضره في أبيضٍ يقـقٍ

 

واصفر فاقعه في أحمرٍ نضـدا

مثل الرقيب بدا للعاشقين ضحـىً

 

فاحمر ذا خجلاً واصفر ذا كمداً

وله:

إلق العدو بوجهٍ لا قطوب بـه

 

يكاد يقطر من ماء البشاشـات

فاحزم الناس من يلقى أعـاديه

 

في جسم حقدٍ وثوب من مودات

ألصبر خير وخير القول أصدقه

 

وكثرة المزح مفتاح العداوات

وله في الناعورة:

باتت تئن وما بهـا وجـدي

 

وتحن من وجدٍ إلى نجـد

فدموعها تحيا الرياض بهـا

 

ودموع عيني أقرحت خدي

وله:

فديت عينيك وإن كـانـتـا

 

لم تبقيا من جسـدي شـيئاً

الأ خيالاً لـو تـأمـلـتـه

 

في الشمس لم تبصر له فيئاً

وكان عبد الله بن المعتز قد قال قصيدةً يفتخر فيها ببني العباس علي بن أبي طالبٍ أولها:

أبى الله إلا ما ترون فمـالـكـم

 

غضابى على الأقدار يا آل طالب

فأجابه أبو القاسم التنوخي بقصيدةٍ نحلها بعض العلويين وهي مثبتة في ديوانه أولها:

من ابن رسول الـلـه وابـن وصـيه

 

إلى مدغلٍ في عقدة الدين نـاصـب

نشا بين طنـبـورٍ ودفٍ ومـزهـرٍ

 

وفي حجرٍ شادٍ أو على صدر ضارب

ومن ظهر سكرانٍ إلى بـطـن قـينةٍ

 

على شبهٍ في ملـكـهـا وشـوائب

يقول فيها:

وقلت: بنو حربٍ كسو كم عـمـائمـاً

 

من الضرب في الهامات حمر الذوائب

صدقت، منايانـا الـسـيوف وإنـمـا

 

تموتون فوق الفرش موت الكواعـب

ونحن الألى لا يسـرح الـذم بـينـنـا

 

ولاتدري أعراضنـا بـالـمـعـايب

إذا ما انتدوا كانوا شـمـوس نـديهـم

 

وإن ركبوا كانـوا بـدور الـركـائب

وإن عبسوا يوم الوغى ضحك الـردى

 

وإن ضحكوا بكـواعـيون الـنـوائب

وما للغواني والوغـى؟ فـتـعـوذوا

 

بقرع المثاني من قـراع الـكـتـائب

ويوم حنينٍ قـلـت حـزنـاً فـخـاره

 

ولو كان يدري عدها في المـثـالـب

أبوه مـنـادٍ والـوصـي مـضـارب

 

فقل في منـادٍ صـيتٍ ومـضـارب

وجئتم مـع الأولاد تـبـغـون إرثـه

 

فأبعد بمحجوبٍ بحـاجـب حـاجـب

وقلتم نهضـنـا ثـائرين شـعـارنـا

 

بثارات زيد الخير عند الـتـجـارب

فهلا بإبـراهـيم كـان شـعـاركـم

 

فترجـع دعـواكـم تـعـلة خـائب

وله في معز الدولة:

لله أيام مضين قـطـعـتـهـا

 

وطوالها بالغانـيات قـصـر

حين الصبا لدن المهز قضيبـه

 

غض وإنواء السرور غـزار

أجلو النهار على النهار وأنثنـي

 

والشمس لي دون الشعار شعار

حتى إذا ما الليل أقبل ضمـنـا

 

دون الإزار من العنـاق إزار

فعلى النحور من النحور قـلائد

 

وعلى الخدود من الخدود خمار

وبدت نجوم الليل من حلل الدجى

 

تزكوا كما يتفـتـح الـنـوار

أقبلن والمريخ في أوساطـهـا

 

مثل الدراهم وسطهـا دينـار

فالجو مجلو النجوم على الدجى

 

في قمص وشيٍ ما لها أزرار

وكانما الجوز اوشـاح خـريدةٍ

 

والنجم تاج والوشاح خـمـار

ومنها في المدح:

ملك تناجيه القلوب بما جـنـت

 

وتخافه الأوهـام والأفـكـار

فيد مـؤيدة وقـلـب قـلـب

 

وشباً يشب وخاطر خـطـار

حين العيون شواخص وكأنهـا

 

للخوف لم تخلق لها أبـصـار

كل الورى أرض وأنت سماؤها

 

وجميعهم ليل وأنـت نـهـار

وله:

ما منهم إلا أمرؤ غمر النـدى

 

سمح اليدين مؤمل مرهـوب

يغريه بالخلق الرفيع وبالنـدى

 

والمكرمات العذل والتأنـيب

فله رقيب من نداه على الورى

 

وعليه من كرم الطباع رقيب

وله:

وقفنا نجيل الرأي في ساكني الغضا

 

وجمر الغضا بين الضلوع يجـول

نشيم بأرض الشام بـرقـاً كـأنـه

 

عقود نضاد ما لـهـن فـصـول

وله:

أما في جنايات النواظر ناظـر

 

ولامنصف إن جار منهن جائر؟

بنفسي من لم يبد قـط لـعـاذل

 

فيرجع إلا وهو لي فيه عـاذر

ولا لحظت عيناه ناهٍ عن الهوى

 

فأصبح إلا وهو بالحـب آمـر

يؤثر فيه ناظر الفكر بالمـنـى

 

وتجرحه باللمس منها الضمائر

حدث أبو عليٍ المحسن بن علي بن محمدٍ التنوخي في نشواره قصةً لأبي معشرٍ قد ذكرتها في مجموع الاختطاف عجيبةً. ثم قال: وهذا بعيد جداً دقيق ولكن فيما شاهدناه من صحة بعض أحكام النجوم كفايةً، هذا أبى حول مولد نفسه في السنة التي مات فيها وقال لنا: هذه سنة قطعٍ على مذهب المنجمين، وكتب بذلك إلى بغداد إلى أبي الحسن البهلول القاضي صهره ينعى نفسه ويوصيه، فلما اعتل أدنى علةٍ وقبل أن تستحكم علته أخرج التحويل ونظر فيه طويلاً وأنا حاضر فبكى ثم أطبقه واستدعى كاتبه وأملى عليه وصيته التي مات عنها وأشهد فيها من يومه، فجاء أبو القاسم غلام زحل المنجم فأخذ يطيب نفسه ويورد عليه شكوكاً، فقال له يا أبا القاسم: لست ممن تخفى عليه فأنسبك إلى غلطٍ، ولا أنا ممن يجوز عليه هذا فتستغفلني، وجلس فوافقه على الموضع الذي خافه وأنا حاضر، فقال له: دعني من هذا. بيننا شك في أنه إذا كان يوم الثلاثاء العصر لسبعٍ بقين من الشهر فهو ساعة قطعٍ عندهم؟ فأمسك أبو القاسم غلام زحل لأنه كان خادماً لأبي وبكى. طويلاً وقال: يا غلام طست فجاءوه به فغسل التحويل وقطعه وودع أبا القاسم توديع مفارق، فلما كان في ذلك اليوم العصر مات كما قال.

قال المحسن: وحدثني أبي قال: لما كنت أتقلد القضاء بالكرخ كان بوابي بها رجل من أهل الكرخ، وله ابن عمره حينئذٍ عشر سنين أو نحوها، وكان يدخل داري بلا إذنٍ ويمتزج مع غلماني، وأهب له في بعض الأوقات الدراهم والثياب كما يفعل الناس بأولاد غلمانهم، ثم خرجت عن الكرخ ورحلت عنها ولم أعرف للبواب ولا لابنه خبراً، ومضت السنون وأنفذني أبوعبد الله البريدي من واسطٍ برسالةٍ إلى ابن رائق فلقيته بدير العاقول، ثم انحدرت أريد واسطاً فقيل لي: إن في الطريق لصاً يعرف بالكرخي مستفحل الأمر، وكنت خرجت بطالعٍ اخترته على موجب تحويل مولدي لتلك السنة.

فلما عدت من دير العاقول خرج علينا اللصوص في سفنٍ عدةٍ بسلاحٍ شاكٍ في نحو مائة رجلٍ وهو كالعسكر العظيم، وكان معي غلمان يرمون بالنشاب فخلفت أن من رمى منهم سهماً ضربته إذا رجعت إلى المدينة كأني مفزعه، وذلك أنني خفت أن يقتل أحد منهم فلا يرضون إلا بقتلي، وبادرت فرميت بجميع ما كان معي ومع الغلمان من السلاح في دجلة واستسلمت طلباً لسلامة النفس، وجعلت أفكر في الطالع الذي أخرجت فإذا ليس مثله مما يوجب عندهم قطعاً، والناس قد أدبروا إلى واسطٍ وأنا في جملتهم، وجعلوا يفرغون السفن وينقلون جميع ما فيها من الأمتعة إلى الشاطئ وهم يضربون ويقطعون بالسيوف، فلما انتهى الأمر إلى جعلت أعجب من حصولي في مثل ذلك والطالع لا يوجبه، فبينا أنا كذلك وإذا بسفينة رئيسهم قد دنت وطرح علي كما صنع في سائر السفن ليشرف على ما يؤخذ، فحين رآني زجر أصحابه عني ومنعهم من أخذ شيء من سفينتي، وصعد بمفرده إلي وجعل يتأملني، ثم أكب على يدي يقبلهما وهو متلثم فارتعت وقلت: يا هذا، ما شأنك؟ فأسفر لثامه وقال: أما تعرفني يا سيدي؟ فتأملته فلجزعي لم أعرفه فقلت: لا والله فقال: بلى، أناعبدك ابن فلانٍ الكرخي بوابك هناك، وأنا الصبي الذي تربيت في دارك. قال: فتأملته فعرفته إلا أن اللحية قد غيرته في عيني، فسكن روعي قليلاً وقلت يا هذا: كيف بلغت إلى هذه الحال؟ فقال يا سيدي: نشأت فلم أتعلم غير معالجة السلاح وجئت إلى بغداد أطلب الديوان فما قبلني أحد، وانضاف إلى هؤلاء الرجال فطلبت قطع الطريق، ولوكان أنصفني السلطان وأنزلني بحيث استحق من الشجاعة وأنتفع بخدمتي ما فعلت بنفسي هذا. قال: فأقبلت أعظه وأخوفه الله ثم خشيت أن يشق ذلك عليه فيفسد رعايته لي فأقصرت، فقال لي يا سيدي: لا يكون بعض هؤلاء أخذ منك شيئاً؟ فقلت: لا، ما ذهب مني إلا سلاح رميته أنا إلى الماء وشرحت له الصورة فضحك وقال: قد والله أصاب القاضي، فمن في الكار ممن تعتني به؟ فقلت: كلهم عندي بمنزلةٍ واحدةٍ في الغم بهمن فلو أفرجت عن الجميع. فقال: والله لولا أن أصحابي قد تفرقوا ما أخذوه لفعلت ذلك، ولكنهم لا يطيعونني إلى رده، ولكني أمنعهم عن أخذ شيء آخر مما في السفن مما لم يؤخذ بعد، فجزيته الخير فصعد الى الشاطئ وأصعد جميع أصحابه ومنعهم عن أخذ شيء آخر مما في السفن مما لم يؤخذ، ورد على قومٍ أشياء كثيرة كانت أخذت منهم، وأطلق الناس وسار معي إلى حيث آمن على وودعني وانصرف راجعاً.

حدث أبو القاسم قال: حدثني أبي قال: كان أول شيءٍ قلدته القضاء بعسكر مكرمٍ وتسترٍ وجند يسابور وأعمال ذلك من قبل القاضي أبي جعفرٍ أحمد بن اسحاق بن البهلول التنوخي، وكنت في السنة الثانية والثلاثين من عمري، وذلك في شهور سنة عشرةٍ وثلاثمائةٍ، ومن شعره المشهور ما نقلته من ديوان شعره.

وراح من الشمس مخلـوقةٍ

 

بدت لك في قدحٍ من نهـار

هواء ولـكـنـه سـاكـن

 

وماء ولكنه غـير جـاري

إذا ما تأملـتـه وهـو فـيه

 

تأملت ماءً محيطـاً بـنـار

فهذا النهاية في الابيضـاض

 

وهذي النهاية في الاحمرار:

وما كان في الحكم أن يوجدا

 

لفرط التنافي وفرط النفـار

ولكن تجاور سطحاهمـا ال

 

بسيطان فاتفقا بـالـجـوار

وكان المدير لها بـالـيمـين

 

إذا مال للسقي أوبالـيسـار

تدرع ثوباً من الـياسـمـين

 

له فرد كمٍ من الجـلـنـار

قلت: وقد تنوزعت هذه الأبيات ورويت لغيره فقيل: إنها لأبي النصر الأنطاكي النحوي وغيره.