باب العين - علي بن محمد بن العباس أبو حيان

علي بن محمد بن العباس أبو حيان

التوحيدي، شيرازي الأصل وقيل نيسابوري، ووجدت بعض الفضلاء يقول له الواسطي، صوفي السمت والهيئة، وكان يتأله والناس على ثقة من دينه، قدم بغداد فأقام بها مدة ومضى إلى الري، وصحب الصاحب أبا القاسم إسماعيل بن عباد وقبله أبا الفضل بن العميد فلم يحمدهما وعمل في مثالبهما كتاباً، وكان متفنناً في جميع العلوم من النحو واللغة والشعر والأدب والفقه والكلام على رأي المعتزلة، وكان جاحظياً يسلك في تصانيفه مسلكه ويشتهي أن ينتظم في سلكه، فهو شيخ في الصوفية وفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام ومتكلم المحققين، وإمام البلغاء، وعمدة لبني ساسان، سخيف اللسان، قليل الرضا عند الإساءة إليه والإحسان، الذم شانه، والثلب دكانه، وهو مع ذلك فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة، وفصاحة ومكنة، كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والرواية، وكان مع ذلك محدوداً محارفاً يشتكي صرف زمانه، ويبكي في تصانيفه على حرمانه.

ولم أر أحداً من أهل العلم ذكره في كتاب، ولا دمجه في ضمن خطاب، وهذا من العجب العجاب، غير أن أبا حيان ذكر نفسه في كتاب الصديق والصداقة وهو كتاب حسن نفيس بما قال فيه: كان سبب إنشاء هذا الكتاب الرسالة في الصديق والصداقة: أنّى ذكرت منها شيئاً لزيد بن رفاعة أبي الجبر، فنماه إلى ابن سعدان أبي عبد الله سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة قبل تحمله أعباء الدولة وتدبيره أمر الوزارة فقال لي ابن سعدان: قال لي عنك زيد كذا وكذا، قلت: قد كان ذاك. فقال لي: دون هذا الكلام وصله بصلاته مما يصح عندك لمن تقدم، فإن حديث الصديق حلو، ووصف الصاحب المساعد مطرب، فجمعت ما في هذه الرسالة وشغل عن رد القول فيها، وبطؤت أنا عن تحريرها إلى أن كان من أمره ما كان، فلما كان هذا الوقت وهو رجب سنة أربعمائة، عثرت على المسودة وبيضتها، - وهذا دليل على بقائه إلى ما بعد الأربعمائة -.

وفي كتاب الهفوات لابن الصابئ: وحكى أبو حيان قال: حضرت مائدة الصاحب بن عباد فقدمت مضيرة فأمعنت فيها فقال لي: يا أبا حيان، إنها تضر بالمشايخ. فقلت: إن رأى الصاحب أن يدع التطبب على طعامه فعل، فكأني ألقمته حجراً وخجل واستحيا ولم ينطق إلى أن فرغنا، ولأبي حيان تصانيف كثيرة منها: كتاب رسالة الصديق والصداقة، كتاب الرد على ابن جني في شعر المتنبي، كتاب الامتناع والمؤانسة جزءان، كتاب الإشارات الإلهية جزءان، كتاب الزلفة جزء، كتاب المقابسة، كتاب رياض العارفين، كتاب تقريظ الجاحظ، كتاب ذم الوزيرين، كتاب الحج العقلي إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعي، كتاب الرسالة في صلات الفقهاء في المناظرة، كتاب الرسالة البغدادية، كتاب الرسالة الصوفية أيضاً، كتاب الرسالة في الحنين إلى الأوطان، كتاب البصائر وهو عشر مجلدات كل مجلد له فاتحة وخاتمة، كتاب المحاضرات والمناظرات.

قال أبو حيان في كتاب المحاضرات: كنت بحضرة أبي سعيد السيرافي فوجدت بخطه على ظهر كتاب اللمع في شواذ التفسير - وكان بين يديه فأخذته ونظرت - قال: ذم أعرابي رجلاً فقال: ليس له أول يحمل عليه، ولا آخر يرجع إليه، ولا عقل يزكو به عاقل لديه، وأنشد:

حسبتك إنساناً على غير خـبـرة

 

فكشفت عن كلب أكب على عظم

لحى الله رأياً قاد نحوك همـتـي

 

فأعقبني طول المقام على الـذم

فقال لي: يا أبا حيان، ما الذي كنت تكتب؟ قلت: الحكاية التي على ظهر هذا الكتاب، فأخذها وتأملها وقال: تأبى إلا الاشتغال بالقدح والذم وثلب الناس. فقلت: أدام الله الإمتاع، شغل كل ناس بما هو مبتلى به مدفوع إليه.
قال أبو حيان: وقصدت مع أبي زيد المروزي دار أبي الفتح ذي الكفايتين فمنعنا من الدخول عليه أشد منع، وذكر حاجبه أنه يأكل الخبز فرجعنا بعد أن قال أبو زيد للحاجب: أجلسنا في الدهليز إلى أن يفرغ من الأكل فلم يفعل، فلما انصرفنا خزايا أنشأ يقول متمثلاً:

على خبز إسماعيل واقية البـخـل

 

فقد حل في دار الأمان من الأكـل

وما خبزه إلا كـآوى يرى ابـنـه

 

ولم ير آوى في الحزون ولا السهل

وما خبزه إلا كعنـقـاء مـغـرب

 

تصور في بسط الملوك وفي المثل

يحدث عنها الناس من غـير رؤية

 

سوى صورة ما إن تمر ولا تحلى

قال أبو حيان: وأنشدنا أبو بكر القومسي الفيلسوف وكان بحراً عجاجاً، وسراجاً وهاجاً، وكان من الضر والفاقة، ومقاساة الشدة الإضاقة بمنزلة عظيمة، عظيم القدر عند ذوي الأخطار، منحوس الحظ منهم، متهماً في دينه عند العوام مقصوداً من جهتهم. فقال لي يوماً: ما ظننت أن الدنيا ونكدها تبلغ من إنسان نا بلغ مني، إن قصدت دجلة لأغتسل منها نضب ماؤها، وإن خرجت إلى القفار لأتيمم بالصعيد عاد صلداً أملس، وكأن العطوى ما أراد بقصيدته غيري، وما عنى بها سواي، ثم أنشدنا للعطوى:

من رمـاه الإلـه بـالإقـتـار

 

وطلاب الغنى من الأسـفـار

هو في حيرة وضنـك وإفـلا

 

س وبؤس ومحنة وصـغـار

يا أبا القاسم الذي أوضح الجـو

 

د إليه مـقـاصـد الأحـرار

خذ حديثي فإن وجهي مـذ بـا

 

رز هذا الأنام في ثـوب قـار

وهو للسامعين أطيب من نـف

 

ح نسيم الرياض غب القطـار

هجم البرد مسرعاً ويدي صف

 

ر وجسمي عار بغـير دثـار

فتسترت منه طول التـشـاري

 

ن إلى أن تهتكـت أسـتـاري

ونسجت الأطمار بالخيط والإب

 

رة حتى عريت من أطمـاري

وسعى القمل من دروز قميصي

 

من صغار ما بينهم وكـبـار

يتساعون في ثـيابـي إلـى رأ

 

سي قطاراً تجول بعد قطـار

ثم وافى كانون واسود وجهـي

 

وأتاني ما كان منـه حـذاري

لو تأملت صورتي ورجوعـي

 

حين أمسي إلى ربوع قـفـار

أنا وحدي فيه وهل فيه فضـل

 

لحلـوس الأنـيس والـروار؟

والخلا لا يراد فيه فـمـالـي

 

أبداً حـاجة إلـى الـحـفـار

بل يراد الخلا لمنحـدر الـنـج

 

و وما ذقت لقمة فـي الـدار

وإذا لم تدر على المطعـم الأف

 

وه سدت متاعـب الأحـجـار

وقلت له يوماً: لو قصدت ابن العميد وابن عباد عسى تكون من جملة من ينفق عليهما وتحظى لديهما، فأجابني بكلام منه: معاناة الضر والبؤس أولى من مقاساة الجهال والتيوس، والصبر على الوخم الوبيل أولى من النظر إلى محيا كل ثقيل، ثم أنشأ يقول:

بيني وبين لئام الناس مـعـتـبة

 

ما تنقضي وكرام الناس إخواني

إذا لقيت لئيم القوم عنـفـنـي

 

وإن لقيت كريم القوم حـيانـي

وقلت له: هل تعرف في معنى قصيدة العطوى أخرى؟ قال نعم، قصيدة الحراني صاحب المأمون. فقلت: لو تفضلت بإنشادها، فقال: خذ في حديث من أقبلت عليه دنياه وتمكن فيها من مناه، ودع حديث الحرف والعسر والشؤم والخسر تطيراً إن لم ترفضه تأدباً. فقلت له: ما أعرف لك شريكاً فيما أنت عليه وتتقلب فيه وتقاسيه سواي، ولقد استولى على الحرف وتمكن مني نكد الزمان إلى الحد الذي لا أسترزق مع صحة نقلي وتقييد خطي وتزويق نسخي وسلامته من التصحيف والتحريف بمثل ما يسترزق البليد الذي ينسخ النسخ، ويمسخ الأصل والفرع، وقصدت ابن عباد بأمل فسيح وصدر رحيب، فقدم إلى رسائله في ثلاثين مجلدة على أن أنسخها له، فقلت: نسخ مثله يأتي على العمر والبصر، - والوراقة كانت موجودة ببغداد - فأخذ على نفسه على من ذلك، وما فزت بطائل من جهته. فقال: بلغني ذلك فقلت له: ولو كان شيئاً يرتفع من اليد بمدة قريبة لكنت لا أتعطل وأتوفر عليه، ولو قرر معي أجرة مثله لكنت أصبر عليه، فليس لمن وقع في شر الشباك وعين الهلاك إلا الصبر.

قال أبو حيان: ودخلت على الدلجى بشيراز وكنت قد تأخرت عنه أياماً، وهذا الكتاب يعني كتاب المحاضرات جمعه له بعد ذلك، ولأجله أتعبت نفسي، فقال لي: يا أبا حيان، من أين؟ فقلت:

إذا شئت أن تقلى فزر متواتـراً

 

وإن شئت أن تزداد حباً فزر غياً

وهذا لملاك ظهر لي منه، وقليل إعراض عني في يوم. فقال لي: ما هذا البيت إلا بيت جيد يعرفه الخاص والعام، وهو موافق لما يذكر من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (زر غباً تزدد حباً). فلو كان لهذا البيت أخوات كان أحسن من أن يكون فرداً. قلت فله أخوات. قال: فأنشدني. قلت لا أحفظها، قال: فأخرجها، قلت: لا أهتدي إليها. قال: فمن أين عرفتها؟ قلت:مرت بي في جملة تعليقات. قال: فاطلبها لأقدم رسمك. قلت: فقدمه الآن على شريطة أنه إذا جاء الوقت المعتاد إطلاقه فيه كل سنة أطلقت أيضاً. قال: أفعل. قلت: فخذها الآن.

سمعت العروضي أبا محمد يقول: دخل بعض الشعراء على عيسى بن موسى الرافقى وبين يديه جارية يقال لها خلوب فقال لها اقترحي عليه، فقالت:

إذا شئت أن تقلى فزر متوتـراً

 

وإن شئت أن تزداد حباً فزر غباً

أجزه بأبيات تليق به فأنشد:

بقيت بلا قـلـب فـإنـي هـائم

 

فهل من معير يا خلوب لكم قلباً؟

حلفت برب البيت أنك منـيتـي

 

فكوني لعيني ما نظرت لها نصباً

عسى الله يوماً أن يرينيك خالـياً

 

فيزداد لحظي من محاسنكم عجباً

إذا شئت أن تقلى فزر متـوتـراً

 

وإن شئت أن تزداد حباً فزر غباً

فأنجز لي ما وعد، و وفى بما شرط، وكان ينفق عليه سوق العلم مع جنون كان يعتريه، ويتخبط في أكثر أوقاته فيه، وليت مع هذه الحالة خلف لنفسه شكلاً، أو نرى له في وقتنا هذا مثلاً، بارت البضائع، وغارت البدائع، وكسد سوق العلم، وخمد ذكر الكرم، وصار الناس عبيد الدرهم بعد الدرهم. وكان أبو حيان قد أحرق كتبه في آخره عمره لقلة جدواها، وضنا بها على من لا يعرف قدرها بعد موته.

وكتب إليه القاضي أبو سهل علي بن محمد يعذله على صنيعه، ويعرفه قبح ما اعتمد من الفعل وشنيعه.

فكتب إليه أبو حيان يعتذر من ذلك: حرسك الله أيها الشيخ من سوء ظني بمودتك وطول جفائك، وأعاذني من مكافأتك على ذلك، وأجارنا جميعاً مما سود وجه عهد إن رعيناه كنا مستأنسين به، وإن أهملناه كنا مستوحشين من أجله، وأدام الله نعمته عندك، وجعلني على الحالات كلها فداك. وأفاني كتابك غير محتسب ولا متوقع على ظمأ برح بي إليه، وشكرت الله تعالى على النعمة به علي، وسألته المزيد من أمثاله، الذي وصفت فيه بعد ذكر الشوق إلي، والصبابة نحوي ما نال قلبك والتهب في صدرك من الخبر الذي نمى إليك فيما كان مني من إحراق كتبي النفيسة بالنار وغسلها بالماء، فعجبت من انزواء وجه العذر عنك في ذلك، كأنك لم تقرأ قوله جل وعز: (كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون)، وكأنك لم تأبه لقوله تعالى: (كل من عليها فان). وكأنك لم تعلم أنه لا ثبات لشيء من الدنيا وإن كان شريف الجوهر كريم العنصر، ما دام مقلباً بيد الليل والنهار، معروضاً على أحداث الدهر وتعاود الأيام، ثم إني أقول: إن كان - أيدك الله - قد نقب خفك ما سمعت، فقد أدمى أظلي ما فعلت، فليهن عليك ذلك، فما انبريت له ولا اجترأت عليه حتى استخرت الله عز وجل فيه أياماً وليالي، وحتى أوحى إلي في المنام بما بعث راقد العزم، وأجد فاتر النية، وأحيا ميت الرأي، وحث على تنفيذ ما وقع في الروع وتريع في الخاطر، وأنا أجود عليك الآن بالحجة في ذلك إن طالبت، أو بالعذر إن استوضحت، لتثق بي فيما كان مني، وتعرف صنع الله تعالى في ثنيه لي: إن العلم - خاطك الله - يراد للعمل، كما أن العمل يراد للنجاة، فإذا كان العمل قاصراً عن العلم كلاً على العالم، وأنا أعوذ بالله من علم عاد كلاً وأورث ذلاً، وصار في رقبة صاحبه علاً - وهذا ضرب من الاحتجاج المخلوط بالاعتذار - ثم اعلم علمك الله الخير أن هذه الكتب حوت من أصناف العلم سره وعلانيته، فأما ما كان سراً فلم أجد له من يتحلى بحقيقته راغباً، وأما ما كان علانية فلم أصب من يحرص عليه طالباً، على أني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم ولعقد الرياسة بينهم ولمد الجاه عندهم فحرمت ذلك كله، - ولا شك في حسن ما اختاره الله لي وناطه بناصيتي، وربطه بأمري -، وكرهت مع هذا وغيره أن تكون حجة علي لا لي، ومما شحذ العزم على ذلك ورقع الحجاب عنه، أني فقدت ولداً نجيباً، وصديقاً حبيباً، وصاحباً قريباً، وتابعاً أديباً، ورئيساً منيباً، فشق علي أن أدعها لقوم يتلاعبون بها، ويدنسون عرضي إذا نظروا فيها، ويشتمون بسهوي وغلطي إذا تصفحوها، ويتراءون نقصي وعيبي من أجلها، فإن قلت ولم تسمهم بسوء الظن، ونقرع جماعتهم بهذا العيب؟ فجوابي لك أن عياني منهم في الحياة هو الذي يحقق ظني بهم بعد الممات، وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة فما صح لي من أحدهم وداد؟ ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ، ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم، ويطرح في قلب صاحبه الألم، وأحوال الزمان بادية لعينك، بارزة بين مسائك وصباحك، وليس ما قلته بخاف عليك مع معرفتك وفطنتك، وشدة تتبعك وتفرغك، وما كان يجب أن ترتاب في صواب ما فعلته وأتيته بما قدمته ووصفته، وبما أمسكت عنه وطويته إما هرباً من التطويل، وإما خوفاً من القال والقيل.وبعد فقد أصبحت هامة اليوم أو غد فإني في عشر التسعين، وهل لي بعد الكبرة والعجز أمل في حياة لذيذة؟ أو رجاء لحال جديدة، ألست زمرة من قال القائل فيهم:

نروح ونغدو كل يوم ولـيلة

 

وعما قليل لا نروح ولا نغدو

وكما قال الآخر:

تفوقت درات الصبا في ظلاله

 

إلى أن أتاني بالفطام مشـيب

وهذا البيت للورد الجعدي وتمامه يضيق عنه هذا المكان، والله يا سيدي لو لم أتعظ إلا بمن فقدته من الإخوان والأخدان في هذا الصقع من الغرباء والأدباء والأحباء لكفى، فكيف بمن كانت العين تقربهم، والنفس تستنير بقربهم، فقدتهم بالعراق والحجاز والجبل والري، وما والى هذه المواضع، وتواتر إلى نعيهم، واستدت الواعية بهم، فهل أنا إلا من عنصرهم؟ وهل لي محيد عن مصيرهم؟ أسأل الله تعالى رب الأولين أن يجعل اعترافي بما أعرفه موصولاً بنزوعي عما أقترفه، إنه قريب مجيب.

وبعد، فلي في إحراق هذه الكتب أسوة بأئمة يقتدى بهم، ويؤخذ بهديهم، ويعشى إلى نارهم، منهم: أبو عمرو بن العلاء، وكان من كبار العلماء مع زهد ظاهر وورع معروف، دفن كتبه في بطن الأرض فلم يوجد لها أثر. وهذا داود الطائي، وكان من خيار عباد الله زهداً وفقهاً وعبادة، ويقال له تاج الأمة، طرح كتبه في البحر وقال يناجيها: نعم الدليل كنت، والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول، وبلاء وخمول.
وهذا يوسف بن أسباط: حمل كتبه إلى غار في جبل وطرحه فيه وسد بابه، فلما عوتب على ذلك قال: دلنا العلم في الأول ثم كاد يضلنا في الثاني، فهجرناه لوجه من وصلناه، وكرهناه من أجل ما أردناه.

وهذا أبو سليمان الداراني جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار ثم قال: والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك.

وهذا سفيان الثوري: مزق ألف جزء وطيرها في الريح وقال: ليت يدي قطعت من ها هنا ولم أكتب حرفاً.

وهذا شيخنا أبو سعيد السيرافي سيد العلماء قال لولده محمد: قد تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الأجل، فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار. وماذا أقول وسامعي يصدق أن زماناً أحوج مثلي إلى ما بلغك، لزمان تدمغ له العين حزناً وأسى، ويتقطع عليه القلب غيظاً وجوىً وضنىً وشجىً، وما يصنع بما كان وحدث وبان، إن احتجت إلى العلم في خاصة نفسي فقليل، والله تعالى شافٍ كافٍ، وإن احتجت إليه للناس ففي الصدر منه ما يملأ القرطاس بعد القرطاس، إلى أن تفى الأنفاس بعد الأنفاس، (ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يعلمون). فلم تعنّى عيني أيدك الله بعد هذا بالحبر والورق والجلد والقراءة والمقابلة والتصحيح وبالسواد والبياض، وهل أدرك السلف الصالح في الدين الدرجات العلى إلا بالعمل الصالح، وإخلاص المعتقد والزهد الغالب في كل ما راق من الدنيا وخدع بالزبرج، وهوى بصاحبه إلى الهبوط؟ وهل وصل الحكماء القدماء إلى السعادة العظمى إلا بالاقتصاد في السعي، وإلا بالرضا بالميسور، وإلا ببذل ما فضل عن الحاجة للسائل والمحروم، فأين يذهب بنا وعلى أي باب نحط رحالنا؟؟ وهل جامع الكتب إلا كجامع الفضة والذهب؟ وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليهما؟ وهل المغرم بحبها إلا كمكاثرهما؟ هيهات، الرحيل والله قريب، والثواء قليل، والمضجع مقض والمقام ممض، والطريق مخوف والمعين ضعيف، والاغترار غالب، والله من وراء هذا كله طالب، نسأل الله تعالى رحمة يظلنا جناحها، ويسهل علينا في هذه العاجلة غدوها ورواحها، فالويل كل الويل لمن بعد عن رحمته بعد أن حصل تحت قدره، فهذا هذا، ثم إني - أيدك الله - ما أردت أن أجيبك عن كتابك لطول جفائك، وشدة التوائك عمن لم يزل على رأيك مجتهداً وفي محبتك على قربك ونأيك، مع ما أجده من انكسار النشاط وانطواء الانبساط لتعاود العلل علي وتخاذل الأعضاء مني، فقد كل البصر وانعقد اللسان وجمد الخاطر وذهب البيان، وملك الوسواس وغلب اليأس من جميع الناس، ولكني حرست منك ما أضعته مني، ووفيت لك بما لم تف به لي، ويعز علي أن يكون لي الفضل عليك، أو أحرز المزية دونك، وما حداني على مكاتبتك إلا ما أتمثله من تشوقك إلي وتحرقك علي، وأن الحديث الذي بلغك قد بدد فكرك، وأعظم تعجبك، وحشد عليك جزعك، والأول يقول:

وقد يجزع المرء الجليد ويبتـلـى

 

عزيمة رأى المرء نائبة الـدهـر

تعـاوده الأيام فـيمـا ينـوبــه

 

فيقوى على أمرٍ ويضعف عن أمر

على أني لو علمت في أي حال غلب علي ما فعلته، وعند أي مرض وعلى أية عسرة وفاقةٍ لعرفت من عذري أضعاف ما أبديته، واحتججت لي بأكثر مما نشرته وطويته، وإذا أنعمت النظر تيقنت أن لله جل وعز في خلقه أحكاماً لا يعاز عليها ولا يغالب فيها، لأنه لا يبلغ كنهها ولا ينال غيبها، ولا يعرف قابها ولا يقرع بابها، وهو تعالى أملك لنواصينا، وأطلع على أدانينا وأفاصينا، له الخلق والأمر، وبيده الكسر والجبر، وعلينا الصمت والصبر إلى أن يوارينا اللحد والقبر، والسلام. إن سرك جعلني الله فداك أن تواصلني بخبرك، وتعرفني مقر خطابي هذا من نفسك فافعل، فإني لا أدع جوابك إلى أن يقضي الله تعالى تلاقياً يسر النفس، ويذكر حديثنا بالأمس، أو بفراق نصير به إلى الرمس، ونفقد معه رؤية هذه الشمس، والسلام عليك خاصاً بحق الصفاء الذي بيني وبينك، وعلى جميع إخوانك، عاماً بحق الوفاء الذي يجب علي وعليك، والسلام.

وكتب هذا الكتاب في شهر رمضان سنة أربعمائة. قال أبو حيان في كتاب أخلاق الوزيرين في تصنيفه: طلع ابن عباد علي يوماً في داره وأنا قاعد في كسر إيوان أكتب شيئاً قد كان كأدني به، فلما أبصرته قمت قائماً فصاح بحلق مشقوق: اقعد فالوراقون أخس من أن يقوموا لنا، فهممت بكلام فقال لي الزعفراني الشاعر: اسكت فالرجل رفيع، فغلب علي الضحك واستحال الغيظ تعجباً من خفته وسخفه، لأنه كان قد قال هذا وقد لوى شدقه، وشنج أنفه وأمال عنقه، واعترض على انتصابه وانتصب في اعتراضه، وخرج في تفكك مجنون قد أفلت من دير جنون، والوصف لا يأتى على كنه هذه الحال، لأن حقائقها لا تدرك إلا باللحظ، ولا يؤتى عليها باللفظ، فهذا كله من شمائل الرؤساء وكلام الكبراء، وسيرة أهل العقل والرزانة لا والله، وترباً لمن يقول غير هذا.

وحدث أبو حيان قال: قال الصاحب يوماً فعل وأفعال قليل، وزعم النحويون أنته ما جاء إلا زند وأزناد، وفرخ وأفراخ، وفرد وأفراد.. فقلت له: أنا أحفظ ثلاثين حرفاً كلها فقل وأفعال، فقال: هات يا مدعي، فسردت الحروف ودللت على مواضعها من الكتب ثم قلت: ليس للنحوي أن يلزم مثل هذا الحكم إلا بعد التبحر والسماع الواسع، وليس للتقليد وجه إذا كانت الرواية شائعة والقياس مطرداً وهذا كقولهم: فعيل على عشرة أوجه، وقد وجدته أنا يزيد على أكثر من عشرين وجهاً وما انتهيت في التتبع إلى أقصاه. فقال: خروجك من دعواك في فعل يدلنا على قيامك في فعيل ولكن لا نأذن لك في اقتصاصك، ولا نهب آذاننا لكلامك، ولم يف ما أتيت به بجرأتك في مجلسنا، وتبسطك في حضرتنا فهذا كما ترى.

قال أبو حيان: وأما حديثي معه يعني مع ابن عباد، فإنني حين وصلت إليه. قال لي: أبو من؟ قلت: أبو حيان. فقال: بلغني أنك تتأدب، فقلت: تأدب أهل الزمان. فقال: أبو حيان ينصرف أو لا ينصرف؟ قلت: إن قبله مولانا لا ينصرف، فلما سمع هذا تنمر وكأنه لم يعجبه، وأقبل على واحد إلى جانبه وقال له بالفارسية سفهاً على ما قيل لي ثم قال: الزم دارنا وانسخ هذا الكتاب. فقلت: أنا سامع مطيع، ثم إني قلت لبعض الناس في الدار مسترسلاً: إنما توجهت من العراق إلى هذا الباب وزاحمت منتجعي هذا الربيع لأتخلص من حرفة الشؤم، فإن الوراقة لم تكن ببغداد كاسدة، فنمى إليه هذا أو بعضه أو على غير وجهه فزاده تنكراً.

قال أبو حيان:وقال لي ابن عباد يوماً يا أبا حيان: من كناك بأبي حيان؟ قلت: أجل الناس في زمانه، وأكرمهم في وقته، قال: ومن هو ويلك؟ قلت: أنت، قال: ومتى كان ذلك؟ قلت: حين قلت يا أبا حيان من كناك أبا حيان، فأضرب عن هذا الحديث وأخذ في غيره على كراهة ظهرت عليه.

قال: وقال لي يوماً آخر - وهو قائم في صحن داره والجماعة قيام منهم الزعفراني وكان شيخاً كثير الفضل جيد الشعر ممتع الحديث، والتميمي المعروف بسطل وكان من مصر، والأقطع وصالح الوراق وابن ثابت وغيرهم من الكتاب والندماء -: يا أبا حيان: هل تعرف فيمن تقدم من يكنى بهذه الكنية؟ قلت: نعم من أقرب ذلك أبو حيان الدارمي.

حدثنا أبو بكر محمد بن محمد القاضي الدقاق قال: حدثنا ابن الأنباري قال: حدثنا أبي حدثنا ابن ناصح قال: دخل أبو الهذيل العلاف على الواثق فقال له الواثق: لمن تعرف هذا الشعر؟:

سباك مـن هـذشـم سـلـيل

 

ليس إلى وصـلـه سـبـيل

من يتعاط الـصـفـات فـيه

 

فالقول في صفـه فـضـول

للحسن فـي وجـهـه هـلال

 

لأعـين الـخـلـق لا يزول

وطـرة مـا يزال فـيهـــا

 

لنور بدر الـدجـى مـقـيل

ما اختال في صحن قصر أوس

 

إلا لـيسـجـى لـه قـتـيل

فإن يقف فالعـيون نـصـب

 

وإن تـولـى فـهـن حـول

فقال أبو الهذيل: يا أمير المؤمنين، هذا لرجل من أهل البصرة يعرف بأبي حيان الدارمي، وكان يقول بإمامة المفضول، وله من كلمة يقول فيها:

أفضله والله قدمه علـى

 

صحابته بعد النبي المكرم

بلا بغضة والله مني لغيره

 

ولكنه أولاهم بالتـقـدم

وجماعة من أصحابنا قالوا: أنشد أبو قلابة عبد الله ابن محمد الرقاشي لأبي حيان البصري:

يا صاحبي دعا الملام وأقصرا

 

ترك الهوى يا صاحبي خساره

كم لمت قلبي كي يفيق فقال لي

 

لجت يمين ما لهـا كـفـاره

ألا أفيق ولا أفتـر لـحـظة

 

إن أنت لم تعشق فأنت حجاره

ألحب أول ما يكون بنـظـرة

 

وكذا الحريق بداؤه بشـراره

يا من أحب ولا أسمى باسمها

 

إياك أعنى فاسمعي يا جـاره

فلما وفيت الشعر ورويت الإسناد وريقي بليل ولساني طلق ووجهي متهلل، وقد تكلفت هذا وأنا في بقية من غرب الشباب وبعض ريعانه، وملأت الدار صياحاً بالرواية والقافية، فحين انتهيت أنكرت طرفه، وعلمت سوء موقع ما رويت عنده، قال: ومن تعرف أيضاً، قلت ابن الجعابي الحافظ، يكنى بأبي حيان، رجل صدق وهو يروي عن التابعين. قال: ومن تعرف أيضاً؟ قلت: روى الصولي فيما حدثنا عنه المرزباني أن معاوية لما احتضر أنشد يزيد عند رأسه متمثلاً:

لو أن حيا نجا لفـات أبـو

 

حيان لا عاجز ولا وكـل

الحول القلب الأريب وهل

 

يدفع صرف المنية الحيل؟

قال الصولي: وهذا كان من المعمرين المغفلين، وانتهى الحديث من غير هشاشة ولا هزة ولا أريحية، بل على اكفهرار وجه ونبو طرف وقلة تقبل، وجرت أشياء أخر كان عقباها أني فارقت بابه سنة سبعين وثلاثمائةٍ راجعاً إلى مدينة السلام بغير زاد ولا راحلة، ولم يعطني في مدة ثلاث سنين درهماً واحداً ولا ما قيمته درهم واحد، احمل هذا على ما أردت، ولما نال مني هذا الحرمان الذي قصدني به وأحفظني عليه، وجعلني من جميع غاشيته فرداً أخذت أملي في ذلك بصدق القول عنه وسوء الثناء عليه، والبادئ أظلم، وللأمور أسباب، والأسباب أسرار، والغيب لا يطلع عليه ولا قارع لبابه.

قال أبو حيان: قال لي الصاحب يوماً - وهو يحدث عن رحلٍ أعطاه شيئاً فتلكأ في قبوله -: ولا بد من شيء يعين على الدهر ثم قال: سألت جماعةً عن صدر هذا البيت فما كان عندهم ذلك. فقلت: أنا أحفظ ذاك، فنظر بغضب فقال: ما هو؟ قلت: نسيت، فقال: ما أسرع ذكرك من نسيانك! قلت: ذكرته والحال سليمة، فلما استحالت عن السلامة نسيت. قال: وما حيلولتها؟ قلت: نظر الصاحب بغضب فوجب في حسن الأدب ألا يقال ما يثير الغضب. قال: ومن تكون حتى نغضب عليك؟ دع هذا وهات، قلت قول الشاعر:

ألام على أخذ القـلـيل وإنـمـا

 

أصادف أقواماً أقل مـن الـذر

فإن أنا لم آخذ قليلاً حـرمـتـه

 

ولا بد من شيء يعين على الدهر

فسكت. قال أبو حيان عند قربه من فراغ كتابه في ثلب الوزرين وقد حكى عن ابن عباد حكايات وأسندها إلى من أخبره بها عنه ثم قال: فما ذنبي أكرمك الله إذا سألت عنه مشايخ الوقت وأعلام العصر؟ فوصفوه بما جمعت لك في هذا المكان، على أني قد سترت شيئاً كثيراً من مخازيه إما هرباً من الإطالة، أو صيانةً للقلم عن رسم الفواحش وبث الفضائح، وذكر ما يسمج مسموعه. ويكره التحدث به، وهذا سوى ما فاتني من حديثه فإني فارقته سنة سبعين وثلاثمائة. وما ذنبي أن ذكرت عنه ما جرعنيه من مرارة الخيبة بعد الأمل، وحملني عليه من الإخفاق بعد الطمع، مع الخدمة الطويلة والوعد المتصل والظن الحسن، حتى كأني خصصت بخساسته وحدي، أو وجب أن أعامل به دون غيري، قدم إلي نجاح الخادم وكان ينظر في خزانة كتبه ثلاثين مجلدة من رسائله وقال: يقول لك مولانا: انسخ هذا فإنه قد طلب منه بخراسان. فقلت بعد ارتياءٍ: هذا طويل، ولكن لو أذن لي لخرجت منه فقراً كالغرر، وشذوراً كالدرر، تدور في المجالس كالشمامات والدستنبوبهات، لو رقي بها مجنون لأفاق، أو نفث على ذي عاهة لبرأ، لا تمل ولا تستغث، ولا تعاب ولا تسترك، فرفع ذلك إليه وأنا لا أعلم فقال: طعن في رسائلي وعابها، ورغب عن نسخها وأزرى بها، والله لينكرن مني ما عرف، وليعرفن حظه إذا انصرف، حتى كأني طعنت في القرآن، أو رميت الكعبة بخرق الحيض، أو عقرت ناقة صالح، أو سلحت في بئر زمزم، أو قلت كان النظام مأبوناً، أو مات أبو هاشم في بيت خمار، أو كان عباد معلم صبيان. وما ذنبي يا قوم إذا لم أستطع أن أنسخ ثلاثين مجلدة من هذا الذي يستحسن هذا الكلب؟ حتى أعذره في لومي على الامتناع، أينسخ إنسان هذا القدر وهو يرجو بعدها أن يمتعه الله ببصره؟ أو ينفعه ببدنه؟. وما ذنبي إذا قال لي: من أين لك هذا الكلام المفوف المشوف الذي تكتب به إلي في الوقت بعد الوقت؟ فقلت: وكيف لا يكون كما وصف مولانا؟ وأنا أقطف ثمار رسائله، وأستقي من قليب علمه، وأشيم بارقة أدبه، وأرد ساحل بحره، وأستوكف قطر مزنه، فيقول: كذبت وفجرت لا أم لك، ومن أين في كلامي الكدية والشحذ والتضرع والاسترحام؟ كلامي في السماء، وكلامك في السماد، هذا - أيدك الله - وإن كان دليلاً على سوء جدي، فإنه دليل أيضاً على انخلاعه وخرقه، وتسرعه ولؤمه، وانظر كيف تستحيل معي عن مذهبه الذي كان هو عرقه النابض، وسوسه الثابت، وديدنه المألوف، وهذا أجراني مجرى التاجر المصري والشاذباشي وفلان وفلان، بل ما ذنبي إذا قال لي: هل وصلت إلى ابن العميد أبي الفتح؟ فأقول: نعم، رأيته وحضرت مجلسه وشاهدت ما جرى له، وكان من حديثه فيما مدح به كذا وكذا، وفيما تقدم منه كذا وكذا، وفيما تكلفه من تقديم أهل العلم واختصاص أرباب الأدب كذا وكذا، ووصل أبا سعيدٍ السيرافي بكذا وكذا، ووهب لأبي سليمان المنطقي كذا وكذا فينزوي وجهه، وينكر حديثه، وينجذب إلى شيء آخر ليس مما شرع فيه ولا مما حرك له ثم يقول: أعلم أنك إنما انتجعته من العراق، فاقرأ علي رسالتك التي توسلت إليه بها وأسهبت مقرظاً له فيها، فأتمانع فيأمر ويشدد فأقرأها فيتغير ويذهل وأنا أكتبها لك ليكون زيادة في الفائدة: بسم الله الرحمن الرحيم: اللهم هيئ لي من أمري رشداً، ووفقني لمرضاتك أبداً، ولا تجعل الحرمان علي رصداً، أقول وخير القول ما انعقد بالصواب، وخير الصواب ما تضمن الصدق، وخير الصدق ما جلب النفع، وخير النفع، ما تعلق بالمزيد، وخير المزيد ما بدا عن الشكر، وخير الشكر، ما بدا عن إخلاص، وخير الإخلاص ما نشأ عن اتفاق، وخير الاتفاق ما صدر عن توفيق، لما رأيت شبابي هرماً بالفقر، وفقري غنياً بالقناعة، وقناعتي عجزاً عند أهل التحصيل، عدلت إلى الزمان أطلب إليه مكاني فيه وموضعي منه، فرأيت طرفه نابياً، وعنانه عن رضاي منثنياً، وجانبه في مرادي خشناً، وارتقائي في أسبابه نائياً، والشامت بي على الحدثان متمادياً، طمعت في السكوت تجلداً، وانتحلت القناعة رياضةً، وتألفت شارد حرصي متوقفاً، وطويت منشور أملي متنزهاً، وجمعت شتيت رجائي سالياً، وادعيت الصبر مستمراً، ولبست العفاف ضناً، واتخذت الانقباض صناعة، وقمت بالعلاء مجتهداً، هذا بعد أن تصفحت الناس فوجدتهم أحد رجلين: رجل إن نطق عن غيظ ودمنةٍ وإن سكت سكت عن ضغن وإحنةٍ، ورجل إن بذل كدر بامتنانه بذله، وإن منع حسن باحتياله بخله، فلم يطل دهري في أثنائه، متبرحاً بطول الغربة وشظف العيش، وكلب الزمان وعجف المال، وجفاء الأهل وسوء الحال، وعادية العدو وكسوف البال، متحرقاً من الحنق على لئيم لا أجد مصرفاً عنه، متقطعاً من الشوق إلى كريم لا أجد سبيلاً إليه، حتى لاحت لي غرة الأستاذ فقلت: حل بي الويل، وسال بي السيل، أين أنا عن ملك الدنيا، والفلك الدائر بالنعمى؟ أين أنا من مشرق الخير ومغرب الجميل؟ أين أنا من بدر البدور وسعد السعود؟ أين أنا عمن يرى البخل كفراً صريحاً، والإفضال ديناً صحيحاً؟ أين أنا عن سماء لا تفتر عن الهطلان، وعن بحر لا يقذف إلا باللؤلؤ والمرجان؟ أين أنا من فضاء لا يشق غباره، وعن حرم لا يضام جاره؟ أين أنا عن منهل لا صدر لفراطه، ولا منع لوراده؟ أين أنا عن ذوب لا شوب فيه، وعن صوب لا جدد دونه؟ بل أين أنا عمن أتى بنبوة الكرم، وإمامة الإفضال، وشريعة الجود، وخلافة البذل، وسياسة المجد، بشيمةٍ مشيمة البوارق، ونفس نفيسة الخلائق؟ أين أنا عن الباع الطويل، والأنف الأشم، والمشرب العذب، والطريق الأمم؟ لم لا أقصد بلاده؟ لم لا أقتدح زناده؟ لم لا أنتجع جنابه وأرعى مزاده؟ لم لا أسكن ربعه؟ لم لا أستدعي نفعه؟ لم لا أخطب جوده وأهتصر عوده؟ لم لا أستمطر سحابه؟ لم لا أستسقي ربابه؟ لم لا أستميح نيله وأستسحب ذيله؟ ولا أحج كعبته، وأستلم ركنه؟ لم لا أصلي إلى مقامه مؤتماً بإمامه؟ لم لا أسبح ببنانه متقدساً؟

فتىً صيغ من ماء الشبيبة وجهه

 

فألفاظه جود وأنفاسه مـجـد

لم لا أقصد فتىً للجود في كفه من البحر عينان نضاختان؟ لم لا أمتري معروف

فتىً لا يبالي أن يكون بجسمه

 

إذا نال خلات الكرام شحوب

لم لا أمدح

فتىً يشتري حسن المقال بروحه

 

ويعلم أعقاب الأحاديث في غد؟

نعم لم لا أنتهي من تقريظ فتىً لو كان من الملائكة لكان من المقربين، ولو كان من الأنبياء لكان من المرسلين، ولو كان من الخلفاء لكان نعته اللائذ بالله، أو المنصف في الله، أو المعتضد بالله، أو المنتصب لله، أو الغاضب لله أو الغالب بالله، أو المرضي لله، أو الكافي بالله، أو الطالب بحق الله، أو المحيي لدين الله. أيها المنتجع قرن كلئه، المختبط ورق نعمته، ارع عريض البطان، متفيئاً بظله ناعم البال، متعوذاً بعزه، وعش رخي لحال، معتصماً بحبله، ولذ بداره آمن السرب، وامحض وده بآنية القلب، وق نفسك من سطوته بحسن الحفاظ، وتخير له ألطف المدح، تفز منه بأيمن قدح، ولا تحرم نفسك بقولك: إني غريب المثوى نازح الدار، بعيد النسب منسي المكان، فإنك قريب الدار بالأمل، داني النجح بالقصد، رحيب الساحة بالمنى، ملحوظ الحال بالجد، مشهور الحديث بالدرك. واعلم علماً يلتحم باليقين، وتدرأ من الشك أنه معروف الفخر بالمفاخر، مأثور الأثر بالمآثر، قد أصبح واحد الأنام تاريخ الأيام، أسد الغياض يوم الوغى، نور الرياض يوم الرضا، إن حرك عند مكرمة تحرك غصناً تحت بارحٍ، وإن دعي إلى اللقاء دعي ليثاً فوق سابح، وقل إذا أتيته بلسان التحكم: أصلح أديمي فقد حلم، وجدد شبابي فقد هرم، وأنطق لساني في اصطناعي، فقد شردت صحائف النجح عند انتجاعي، ورش عظمي فقد براه الزمان، واكس جلدي فقد عراه الحدثان، وإياك أن تقول: يا مالك الدنيا جد لي ببعض الدنيا فإنه يحرمك، ولكن قل: يا مالك هب لي الدنيا، اللهم فأحي به بلادك، وأنعش برحمته عبادك، وبلغه مرضاتك، وأسكنه فردوسك، وأدم له العز النامي، والكعب العالي، والمجد التليد والجد السعيد، والحق الموروث، والخير المبثوث، والولي المنصور، والشانئ المبتور، والدعوة الشاملة والسجية الفاضلة، والسرب المحروس، والربع المأنوس، والجناب الخصيب، والعدو الحريب، والمنهل القريب، واجعل أولياءه بازلين لطاعته، ناصرين لأعزته، ذابين عن حرمه، والقمر المنير بالجمال، والنجم الثاقب بالعلم، والكوكب الوقاد بالجود، والبحر الفياض بالمواهب، سقط العشاء بعبدك على سرحك، فاقره من نعمتك بما يضاهي قدرك وقدرتك، وزوج هبة ربها من الغنى، فطالما خطب كفؤها من المنى. ثم يقال لي من بعد: جنيت على نفسك حين ذكرت عدوه عنده بخير، وأثنيت عليه وجعلته سيد الناس. فأقول: كرهت أن تراني متذرباً على عرض رجل عظيم الخطب، غير مكترث بالوقيعة فيه والإنحاء عليه، وقد كان يجوز أن أشعث من ذلك شيئاً، وأبرى من أثلته جانباً، وأطير إلى جنبه شرارة، فيقال أيضاً: جنيت على نفسك، تركت الاحتياط في أمرك، فإنه مقتك وعافك، ورأى أنك في قولك عدوت طورك، وجهلت قدرك، ونسيت وزرك، وليس مثلك من هجم على ثلب من بلغ رتبة ذلك الرجل، وإنك متى جسرت على هذا وزنت به، وجعلت غيره في قرنه، فإذا كانت هذه الحالات ملتبسة، وهذه العواقب مجهولةً، فهل يدور العمل بعدها إلا على الإحسان الذي هو علة المحبة؟ والمحبة التي هي علة الحمد، والإساءة التي هي علة البغض، والبغض الذي هو علة الذم، فهذا هذا.

وقال: كان ابن عباد شديد الحسد لمن أحسن القول وأجاد اللفظ، وكان الصواب غالباً عليه، وله رفق في سرد حديث، ونيقة في رواية، وله شمائل مخلوطة بالدماثة بين الإشارة والعبارة، وهذا شيء عام في البغداديين، وكالخاص في غيرهم.

حدثت ليلة بحديث فلم يملك نفسه حتى ضحك واستعاده ثم قيل لي بعده إنه كان يقول: قاتل الله ابن حيان فإنه نكد، وإنه وإنه وإنه - وأكره أن أروي ذمي بقلمي - وكان ذلك كله حسداً وغيظاً بحتاً، وأنا أروي لك الحديث فإنه في نهاية الطيب، وفيه فكاهة ظاهرة وعي عجيب، في معرض بلاغة ظريفة في ملبس فهاهة. حدثني القاضي أبو الحسن الجراحي قال: لحقني مرة علة صعبة فمن طريف ما مر على رأسي، ودخل في جملة من عادني، شيخ الشونيزية، ودوارة الحمار، والتوثة، وفقيهها أبو الجعد الأنباري، وكان من كبار أصحاب الزنهاري فقال أول ما قعد: يقع لي فيما لا يقع لغيري، أو لمثلي فيمن كان كأنه مني، أو كأنه كان على سني، أو كان معروفاً بما لا يعرف به إلاي، إلا أني أنك لا تحتمي إلا حمية فوق ما يجب، ودون ما لا يجب، وبين فوق ما لا يجب، وبين دون ما لا يجب، فرق، الله يعلم أنه لا يعلم أحد ممن يعلم، أو لا يعلم الطب كله أن يحتمي حمية، بين حميتين، حمية كلا حمية، ولا حمية كحمية، وهذا هو الاعتدال والتعديل، والتعادل والمعادلة، قال الله تعالى: (وكان بين ذلك قواما) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الأمور أوسطها، وشرها إطرافها)، والعلة في الجملة والتفصيل إذا أدبرت لم تقبل، وإذا أقبلت لم تدبر، وأنت من إقبالها في خوف ومن إدبارها في التعجب، وما يصنع هذا كله؟ لا تنظر إلى اضطراب الحمية عليك، ولكن انظر إلى جهل هؤلاء الأطباء الألباء الذين يشقون الشعر شقاً، ويدقون البعر دقاً، ويقولون ما يدرون وما لا يدرون زرقاً وحمقاً، وإلى قلة نصحهم مع جهلهم، ولو لم يجهلوا إذا لم ينصحوا كان أحسن عند الله والملائكة، ولو نصحوا إذا جهلوا كان أولى عند الناس وأشباه الناس والله المستعان، وأنت في عافية ولكن عدوك ينظر إليك بعين الاست فيقول: وجهه وجه من قد رجع من القبر بعد عدو على كل حال، فالرجوع من القبر خير من الرجوع إلى القبر، لعن الله القبر، لا خباز ولا بزاز ولا رزاز ولا كواز (إنا لله وإنا إليه راجعون) عن قريب إن شاء الله. (وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت)، وقال جل شأنه: (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، وهو على جمعهم إذا يشاء قدير، ومن الجبال جدد بيض وحمر). تأمر بشيءٍ السنة في العيادة خاصة، عيادة الكبار والسادة التخفيف والتطفيف، وإنا إن شاء الله عندك بالعشي والحق، والحق أقوام ما يجب على مثلك لمثلي، كان ليس لك مثل ولا مثلي أيضاً مثل هكذا إلى باب الشام إلى قنطرة الشوك وإلى المندفة أقول لك المستوي، لا أنا ولا أنت اليوم كمثل كمثراتين إذا علقتا على رأس شجرة، وكدلوين إذا خلقا على رأس بئر، ودع ذا القارورة، اليوم لا إله إلا الله، وأمس كان سبحان الله، وغداً يكون شيئاً آخر، وبعد غد ترى من ربك العجب، والموت والحياة بعون الله، ليس هذا مما يباع في السوق، أو يوجد مطروحاً في الطريق، وذاك أن الإنسان - ولا قوة إلا بالله - طريف أعمى كأنه ما صح له منام قط، ولا خرج من السمارية إلى الشط، وكأنه ما رأى قدرة الله في البط، إذا لفظ كيف يقول قط قط، والكلام في الإنسان وعمى قلبه وسخنة عينه قل غفر له، ولا يسلم في هذه الدار إلا من عصر نفسه عصرة ينشق منها فيموت كأنه شهيد، وهذا صعب لا يكون إلا بتوفيق الله وبعض خذلانه الغريب، على الله توكلنا وإليه التفتنا ورضينا، وبه استجرنا، إن شاء أخذ لنا، وإن شاء أطعمنا.

قال القاضي: فكدت أموت من الضحك على ضعفي وما زال كلامه بهذا إلى أن خرجت على الناس وكان مع هذا لا يعيا ولا يقف ولا يكل وكان من عجائب الزمان. وختم أبو حيان كتابه في أخلاق الوزيرين بعد أن اعتذر عن فعله ثم قال: وإني لأحسد الذي يقول:

أعد خمسين حولاً ما علـى يد

 

لأجنبيٍ ولا فضل لذي رحـم

ألحمد لله شكراً قد قنعت فـلا

 

أشكو لئيماً ولا أطري أخا كرم

لأني كنت أتمنى أن أكونه، ولكن العجز غالب لأنه مبذور في الطينة، ولقد أحسن الآخر حين قال:

ضيق العذر في الضراعة إنا

 

لو قنعنا بقسمنا لكـفـانـا

ما لنا نعبد العـبـاد إذا كـا

 

ن إلى الله فقرنا وغنـانـا؟

وأدعو ههنا بما دعا به بعض النساك: اللهم صن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالإقتار، فنسترزق أهل رزقك، ونسأل شر خلقك، ونبتلى بحمد من أعطى، وذم من منع، وأنت من دونهم ولي الإعطاء، وبيدك خزائن الأرض والسماء يا ذا الجلال والإكرام. ومن كتاب المحاضرات لأبي حيان قال: قصدت أنا والنصيبي رجلاً من أبناء لنعم والموصوفين بالكرم، ولا يرد سائليه، ولا يخيب آمليه، والألسن متفقة على جوده وتطوله، والعيون شاخصة إلى عطاياه وفضله، له في السنة مبار كثيرة على أهل العلم وأهل البيوتات، ومن قعد به الزمان وجفاه الإخوان، فلم نصادفه في منزله، وقصدناه ثانياً فمنعنا من الدخول إليه، وقصدناه ثالثاً فذكر أنه ركب، وقصدناه رابعاً فقيل هو في الحمام، وقصدناه خامساً فقيل هو نائم، وقصدناه سادساً فقيل عنده صاحب البريد وهو مشغول معه بمهم، وقصدناه سابعاً فذكر أنه رسم ألا يؤذن لأحد، وقصدناه ثامناً فذكر أنه يأكل ولا يجوز الدخول إليه بوجه ولا سبب، وقصدناه تاسعاً فذكر أن أحد أولاده سقط من الدرجة وهو مشغول به عند رأسه وما يفارقه، وقصدناه العاشر فذكر أنه مستعد لشرب الدواء، وقصدناه الحادي عشر فذكر أنه تناول الدواء من يومين، وما عمل عملاً وقد قواه اليوم بما يحرك الطبيعة، وقصدناه الثاني عشر فقيل إلى الآن كان جالساً ونهض في هذه الساعة ودخل إلى الحجرة، وقصدناه الثالث عشر فقيل دعي إلى الدار لمهم، وقصدناه الرابع عشر فألفيناه في الطريق يمضي إلى دار الإمارة، وقصدناه الخامس عشر فسهل لنا الإذن ودخلنا في غمار الناس، والناس على طبقاتهم جلوس وجماعة قيام يرتبون الناس ويخدمونهم وقد اتفق له عزاء، وشغل بغيرنا وبقينا في صورة من احتقان البول والجوع والعطش وما أقمنا في جملة من يقام، فقال لي النصيبي: هذا اليوم الذي قد ظفرنا به وتمكنا من دخول داره صار عظيم المصيبة علينا، ليس لنا إلا مهاجرة بابه والإعراض عنه، وقمع النفس الدنية بالطمع في غيره، فقلت له: قد تعبنا وتبذلنا على بابه، والأسباب التي قد اتفقت فمنعت من رؤيته كانت عذراً واضحاً ويتفق مثل هذا، فإذا انقضت أيام التعزية قصدناه، وربما نلنا من جهته ما نأمله، فقصدناه بعد ذلك أكثر من عشرين مرة، وقلما اتفق فيها رؤيته وخطابه حتى مل النصيبي فقال: لو علمت أن داره الفردوس، والحصول عنده الخلود فيها، وكلامه رضا الله تعالى وفوز الأبد لما قصدته بعد ذلك، وأنشأ يقول:

طلب الكريم ندى يد المنكود

 

كالغيث يستسقى من الجلمود

فافزع إلى عز الفراغ ولذ به

 

إن السؤال يريد وجه حـديد

فأجبته أنا وعيناي بالدموع تترقرق لما بان لي من حرقتي، ونبو الدهر بي وضياع سعيي، وخيبة أملي في كل من أرتجيه لملم أو مهم، أو حادثة أو نائبة:

دنيا دنت من عاجز وتباعدت

 

عن كل ذي لب له خطـر

سلمت على أربابها حتى إذا

 

وصلت إلي أصابها الحصر

قال أبو حيان في كتاب الوزيرين: جرى بيني وبين أبي علي مسكويه شيء، قال مرة: أما ترى إلى خطأ صاحبنا - وهو يعني ابن العميد في إعطائه فلاناً ألف دينار ضربة واحدة - لقد أضاع هذا المال الخطير فيمن لا يستحق، فقلت بعد ما أطال الحديث وتقطع بالأسف. أيها الشيخ، أسألك عن شيء واحد، فاصدق فإنه لا مدب للكذب بيني وبينك: لو غلط صاحبك فيك بهذا العطاء وبأضعافه وأضعاف أضعافه، أكنت تخيله في نفسك مخطئاً ومبذراً ومفسداً، أو جاهلاً بحق المال؟ أو كنت تقول ما أحسن ما فعل وليته أربى عليه؟ فإن كان الذي تسمع على حقيقة، فاعلم أن الذي يرد ورد مقالك إنما هو الحسد أو شيء آخر من جنسه، وأنت تدعي الحكمة وتتكلف الأخلاق، وتزيف الزائف، وتختار منها المختار، فافطن لأمرك، واطلع على سرك وشرك.