باب العين - علي بن هارون بن علي

علي بن هارون بن علي

بن يحيى بن أبي منصور المنجم أبو الحسن. قد ذكرنا أباه هارون وأجداده في مواضعهم من الكتاب. قال محمد بن إسحاق النديم: رأيناه وسمعنا منه، وكان راوية شاعراً أديباً ظريفاً متكلماً حبراً، نادم جماعة من الخلفاء وقال لي: مولدي سنة سبع وسبعين ومائتين. وقال ثابت: مولده في صفر سنة ست وسبعين، ومات سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة عن ست وسبعين سنة، وله من الكتب: كتاب النوروز والمهرجان، كتاب الرد على الخليل في العروض، كتاب الرسالة في الفرق بين إبراهيم بن المهدي وإسحاق بن الموصلي في الغناء، كتاب ابتدأ فيه بنسب أهله عمله للمهلبي الوزير ولم يتم، كتاب اللفظ المحيط ببعض ما لفظ به اللقيط عارض به كتاب أبي الفرج الأصبهاني، كتاب الفرق والمعيار بين الأوغاد والأحرار، كتاب القوافي عمله لعضد الدولة.

وحدث أبو القاسم إسماعيل بن عباد في كتاب الروزنامجة في مجلسه، وقد أعدوا قصيدتين في مدحه فمنعهما من النشيد لأحضره، فأنشدوا وجوداً بعد تشبيب كبير وحديث طويل.قال المؤتلف: أراه المهلبي، كان لأبي الحسن رسم - أخشى تكذيب سيدنا إن شرحته، وعتابه إن طويته، ولأن أحصل عنده في صورة متزيد أحب إلي من أن أحصل عنده في رتبة مقصر - يبتدئ فيقول ببحة عجيبة بعد إرسال دموعه، وتردد الزفرات في حلقه واستدعائه من خود غلامه، منديل عبراته، والله والله وإلا فأيمان البيعة تلزمه بحلها وحرامها وطلاقها وعتاقها، وما ينقلب إليه حرام، وعبيده أحرار لوجه الله تعالى إن كان هذا الشعر في استطاعة أحد مثله، أو اتفق من عهد أبي داوود الإيادي إلى زمان ابن الرومي لأحد شكله، بل عيبه أن محاسنه تتابعت، وبدائعه ترادفت.

وقد كان في الحق أن يكون كل بيت منه في ديوان يحمله، ويسود به شاعره ثم ينشد، فإذا بلغ بيتاً يعجب به ويتعجب منه. وقال أيها الوزير: من يستطيع هذا إلا عبدك علي بن هارون ابن علي بن يحيى بن أبي منصور بن المنجم جليس الخلفاء، وأنيس الوزراء؟ ثم ينشد الابن والأب يعوذه ويهتز له، ويقول أبو عبد الله: أستودعه الله ولي عهدي، وخليفتي بعدي، ولو اشتجر اثنان من مصر وخراسان لما رضيت لفصل ما بينهما سواه، أمتعنا الله به ورعاه، وحديثه عجيب. وإن استوفيته ضاع الغرض الذي قصدته، على أنه أيد الله مولانا من سعة النفس والخلق، و وفور الأدب والفضل وتمام المروءة والظرف بحال أعجز عن وصفها، وأزل عن جملتها، إنه مع كثرة عياله واختلال أحواله، وطلب سيف الدولة جاريته المغنية بعشرين ألف درهم أحضرها صاحبه فامتنع من بيعها وأعتقها وتزوجها، ومن شعر علي بن هارون وكتب بها إلى أبي الحسن علي بن خلف بن طياب:

بيني وبين الدهر فيك عتـاب

 

سيطول إن لم يمحه الإعتاب

يا غائباً بوصالـه وكـتـابـه

 

هل يرتجى من غيبتـيك إياب

لولا التعلل بالرجاء تقطعـت

 

نفس عليك شعارها الأوصاب

لا يأس من روح الإله فربمـا

 

يصل القطوع ويحضر الغياب

وإذا دنوت مواصلاً فهو المنى

 

سعد المحب وساعد الأحبـاب

وإذا نأيت فليس لي متعـلـل

 

إلا رسول بالرضا وكـتـاب

وحدث أبو علي المحسن بن علي التنوخي القاضي في نشوار المحاضرة قال: حدثني أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون بن المنجم قال: حدثني أبي قال: كنت وأنا صبي لا أقيم الراء في كلامي وأجعلها غيناً وكانت سني إذ ذاك أربع سنين، أقل أو أكبر، فدخل أبو طالب الفضل ابن سلمة، أو أبو بكر الدمشقي - شك أبو الفتح - إلى أبي وأنا بحضرته، فتكلمت بشيء فيه راء فلثغت فيها، فقال له الرجل: يا سيدي، لم تدع أبا الحسن يتكلم هكذا؟ فقال له: ما أصنع وهو ألثغ؟ فقال له: - وأنا أسمع وأحصل ما جرى وأضبطه - إن اللثغة لا تصخ مع سلامة الجارحة، وإنما هي عادة سوء تسبق إلى الصبي أول ما يتكلم لجهله بتحقيق الألفاظ وسماعه شيئاً يحتذيه، فإن ترك على ما يستصحبه من ذلك مرن عليه، فصار له طبعاً لا يمكنه التحول عنه، وإن أخذ بتركه في أول نشوه استقام لسانه وزال عنه، وأنا أزيل هذا عن أبي الحسن ولا أرضى فيه بتركك له عليه، ثم قال لي: أخرج لسانك، فأخرجته فتأمله وقال: الجارحة صحيحة، قل يا بني را، واجعل لسانك في سقف حلقك، ففعلت ذلك فلم تستو لي، فما زال يرفق بي مرة ويخشى بي أخرى، وينقل لساني من موضع إلى موضع من فمي، ويأمرني أن أقول الراء فيه، فإن لم يستو لي نقل لساني إلى موضع آخر دفعات كثيرة في زمان طويل حتى قلت راء صحيحة في بعض تلك المواضع، وطالبني وأوصى معلمي بإلزامي ذلك حتى مرن لساني عليه، وذهبت عني اللثغة.

ومن كتاب الروزنامجة قال الصاحب: وتوفرت على عشرة فضلاء البلد، فأول من كارثني أولاد المنجم لفضل أبي احسن علي بن هارون وغزارته، واستكثاري من روايته وطيب سماعه ولذيذ عشرته. فسمعت منه أخباراً عجيبة وحكايات غريبة، ومن ستارته أصواتاً نادرة مشنفة مقرطقة يقول في كل منها:الشعر لفلان، والصنعة لفلان، أخذته هذه عن فلان، أو فلانة، حتى يتصل النسب بإسحاق أو غيره من أبناء جنسه، وكان أكثر ما يعجب به مولاها أبيات له أولها:

ضل الفراق ولا اهتدى

 

ونأت فلا دنت النوى

وهوى فلا وجد القـرا

 

ر معنف أهل الهوى

فاتفق أن سألت أول ما سمعت اللحن فيه عن قائله، فغضب واستشاط، وتنكر واستوفز، ونفر وتنمر وقال: تقول لمن هذا؟ أما يدل على قائله؟ أما يعرب عن جوهره؟ أما ترى أثر بني المنجم على صفحته؟ أما يحميه لألاؤه أو لوذعيته من أن يدال بمن؟ وممن هذا الرجل؟ وذكره المرزباني في المعجم فقال المنجم: وهو القائل:

وإني لأثني النفس عما يريبـهـا

 

وأنزل من دار الهوان بمعـزل

بهمة نبـل لا يرام مـكـانـهـا

 

تحل من العلياء أشرف منـزل

ولي منطق إن لجلج القول صائب

 

بتكشيف إلباس وتطبيق مفصـل

وله يمدح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:

وهل خصلة من سؤدد لم يكن لها

 

أبو حسن من بينهم ناهضاً قدما؟

فما فاتهم منها به سلـمـوا لـه

 

وما شاركوه كان أوفرهم قسماً

وفي كتاب أبي علي التنوخي: كان أبو أحمد الفضل ابن عبد الرحمن بن جعفر الشيرازي الكاتب خصيصاً بالوزير أبي علي بن مقلة وكان يعشق مغنية، وكان ينفق عليها جميع ما يتحصل له، وله معها أخبار، وكانت هذه الجارية صفراء واسمها لهجة فشرب معها ليلة وأصبح مخموراً فآثر الجلوس معها، وأراد الاعتذار إلى الوزير ابن مقلة من التأخر عن الخدمة وأن يخفي خبره عنه. فكتب رقعة يعتذر فيها ويقول: إن الصفراء تحركت علي فتأخرت، فوقع على ظهر الرقعة بخطه: أنت تحركت على الصفراء، وليست الصفراء تحركت عليك. قال: وهذا التوقيع يشبه ما أنشدنا علي بن هارون المنجم لنفسه في جاريته صفراء، وقد شكا إلى الطبيب مرة صفراء، ولا أدري أيهما أخذه من صاحبه:

جس الطبيب يدي وقال مخبراً

 

هذا الفتى أودت به الصفـراء

فعجبت منه إذ أصاب وما درى

 

قولاً وظاهر ما أراد خطـاء

قلت أنا: وقريب من هذا قول الوزير المهلبي:

وقالوا للطبيب أشر فـإنـا

 

نعدك للعظيم من الأمـور

فقال شفاؤه الرمان مـمـا

 

تضمنه حشاه من السعـير

فقلت: لهم أصاب بغير قصد

 

ولكن ذاك رمان الصـدور

وكان لعلي بن هارون ولد يقال له أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون المنجم، كان أديباً فاضلاً إلا أني لم أقف له على تصنيف فلم أفرده بترجمة والمقصود ذكره. وقد ذكر ها هنا، وروى عنه أبو علي التنوخي في نشواره فأكثر وقال: أنشدني أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون لنفسه:

ما أنس منها لا أنس موقفها

 

وقلبها للفراق ينـصـدع

وقولها إذ بدا الصباح لهـا

 

قول فزوع أظله الجـزع

ما أطول الليل عند فرقتنـا

 

وأقصر الليل حين نجتمع!!

قال التنوخي: وأنشدني أبو الفتح لنفسه وكتب بها إلى أبي الفرج محمد بن العباس - فسانجس - في وزارته وقد حمل على الأعداء في الأهواز:

قل للوزير سليل المجد والكرم

 

ومن له قامت الدنيا على قدم