باب العين - عمر بن أحمد يعرف بابن العديم

عمر بن أحمد يعرف بابن العديم

بن أبي جرادة، يعرف بابن العديم العقيلي يكنى أبا القاسم، ويلقب كمال الدين، من أعيان أهل حلب وأفاضلهم، وهو عمر بن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. واسم أبي جرادة عامر بن ربيعة بن خويلد بن عوف بن عامر بن عقيل أبي القبيلة ابن كعب بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وبيت أبي جرادة بيت مشهور من أهل حلب، أدباء شعراء فقهاء، عباد زهاد قضاة، يتوارثون الفضل كابراً عن كابر وتالياً عن غابر، وأنا أذكر قبل شروعي في ذكره شيئاً من مآثر هذا البيت، وجماعة من مشاهيرهم،ثم أتبعه بذكره ناقلاً ذلك كله من كتاب ألفه كمال الدين - أطال الله بقاءه -، وسماه الأخبار المستفادة في ذكر بني أبي جرادة، وقرأته عليه فأقر به. سألته أولاً: لم سميتم ببني العديم؟ فقال: سألت جماعة من أهلي عن ذلك فلم يعرفوه وقال: هو اسم محدث لم يكن آبائي القدماء يعرفون بهذا ولا أحسب إلا أن جد جدي القاضي أبا الفضل هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن أبي جرادة - مع ثروة واسعة، ونعمة شاملة - كان يكثر في شعره من ذكر العدم، وشكوى الزمان فسمي بذلك، فإن لم يكن ذلك سببه فلا أدري ما سببه؟.

حدثني كمال الدين أبو القاسم قال: حدثني جمال الدين أبو غانم محمد بن هبة الله بن محمد بن أبي جرادة عمي قال: لما ختمت القرآن قبل والدي - رحمه الله - بين عيني وبكى وقال: الحمد لله يا ولدي، هذا الذي كنت أرجوه فيك.

حدثني جدك عن أبيه عن سلفه: أنه ما منا أحد إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من ختم القرآن.

قال المؤلف: وهذا منقبة جليلة لا أعرف لأحد من خلق الله شرواها، وسألت عنها قوماً من أهل حلب فصدقوها، وقال لي زين الدين محمد بن عبد القاهر بن النصيبي: دع الماضي واستدل بالحاضر، فإنني أعد لك كل من هو موجود في وقتنا هذا، وهم خلق ليس فيهم أحد إلا وقد ختم القرآن، وجعل يتذكرهم واحداً واحداً فلم يخرم بواحد.

حدثني كمال الدين - أطال الله بقاءه - قال: وكان عقب بني أبي جرادة من ساكني البصرة في محلة بني عقيل بها، فكان أول من انتقل منهم عنها موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عامر بن أبي جرادة إلى حلب بعد المائتين للهجرة، وكان وردها تاجراً وحدثني قال: حدثني عمي أبو غانم محمد بن هبة الله بن محمد بن أبي جرادة قال: سمعت والدي يذكر فيما تأثره عن سلفه: أن جدنا قدم إلى البصرة في تجارة إلى الشام فاستوطن حلب قال: وسمعت والدي يذكر أنه بلغه أنه وقع طاعون بالبصرة فخرج منها جماعة من بني عقيل وقدموا الشام فاستوطن جدنا حلب قال: وكان لموسى من الولد محمد وهارون وعبد الله. فأما محمد فله ولد اسمه عبد الله، ولا أدري أعقب أم لا؟ وأما العقب الموجود الآن فلهارون وهو جدنا، ولعبد الله وهم أعمامنا. فمن ولد عبد الله: القاضي أبو طاهر عبد القاهر بن علي بن عبد الباقي بن محمد بن عبد الله بن موسى بن أبي جرادة، وهو من سادات هذا البيت وأعيانهم، ومات في جمادى الأولى من سنة ثلاث وستين وأربعمائة، فقال القاضي أبو الفضل هبة الله بن أحمد بن أبي جرادة يرثيه - وكانت قد توفيت قبل وفاة القاضي أبي الفضل أخته بأيام قلائل، فتوجع للماضين -:

صبرت لا عن رضى منـي وإيثـار

 

وهل يرد بكـائي حـتـم أقـدار؟

أروم كف دموعي وهي في صبـب

 

وأبتغي برد قلبي وهـو فـي نـار

ما لليالي تعـري جـانـبـي أبـداً

 

من أسـرتـي وأخـلائي وأوزاري

تلذ طعم مصيباتي فـأحـسـبـهـا

 

تظمأ فيروي صداها ماء أشفـاري

محاسن جدت الأرض الفضاء بـهـا

 

وطالما صنتها عن لحظ أبصـاري

وواضح كسنا الإصبـاح أنـقـلـه

 

من رأي عيني إلى سري وإضماري

إن الردى أقصدتنـي غـير طـائشة

 

سهامها في فتى كالكوكب الـواري

رمته صائبة الأقـدار مـن كـثـب

 

وما رعت عذر أقـدار وأخـطـار

وهي قصيدة غراء طويلة. ومنهم أبو المجد عبد الله بن محمد بن عبد الباقي بن محمد، شيخ فاضل أديب شاعر، له معرفة باللغة والعربية، سمع بحلب أستاذه أبا عبد الله الحسين بن عبد الواحد بن محمد بن عبد القادر القنسريني المقرئ مؤلف كتاب التهذيب في اختلاف القراء السبعة، وسمعه ولده الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله، وله أشعار حسان منها:

توسوس عن علي الزمان

 

ففي كل يوم له معضلة

فلو جعلوا أمـره لـيلة

 

إلي لأصبح في سلسـلة

ومات الشيخ أبو المجد بحلب في حدود سنة ثمانين وأربعمائة. ومنهم ولده الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة صدر زمانه، وفرد أوانه، ذو فنون من العلوم، وخطه مليح جداً، على غاية من الرطوبة والحلاوة والصحة، وله شعر يكاد يختلط بالقلب، ويسلب اللب لطافة ورقة، تصدر بحلب لإفادة العلوم الدينية والأدبية متفرداً بذلك كله، ورتب غريب الحديث لأبي عبيد على حروف المعجم رأيته بخطه، وشرع في شرح أبياته شروعاً لم يقصر فيه، ظفرت منه بكراريس من مسوداته لأنه لم يتم. سمع بحلب والده أبا المجد وأبا الفتح عبد الله بن إسماعيل الحلي وأبا الفتيان محمد بن سلطان بن حيوس الشاعر وغيرهم. ورحل عن حلب قاصداً للحج في ثالث شعبان سنة ست عشرة وخمسمائة، ووصل إلى بغداد وسمع بها أبا محمد بن عبد الله بن علي المقرئ وغيره، ولم يتيسر للناس في هذا العام حج، فعاد من بغداد إلى حلب، ثم سافر إلى الموصل بعد ذلك في سنة إحدى وثلاثين وسمع بها، وأدركه تاج الإسلام أبو سعد عبد الكريم بن محمد السمعاني فسمع منه بحلب هو وجماعة وافرة، وذكره السمعاني في المذيل لتاريخ بغداد. قال المؤلف: وقد ذكرته في هذا الكتاب في موضعه بما ذكره السمعاني به.

حدثني كمال الدين قال: سمعت والدي - رحمه الله - يقول: كتب الشيخ أبو الحسن بن أبي جرادة بخطه ثلاث خزائن من الكتب لنفسه، وخزانة لابنه أبي البركات، وخزانة لابنه أبي عبد الله. ومن شعره - أنبأنا به تاج الدين زيد بن الحسن الكندي من قصيدة يصف فيها طول الليل -:

فؤاد بالأحبة مستـطـار

 

وقلب لا يقر لـه قـرار

وما أنفك من هجر وصد

 

وعتب لا يقوم له اعتذار

وعين دمعها جـم غـزير

 

ولكن نومها نزر غـرار

كأن جفونها عند التلاقـي

 

تلاقيها الأسنة والشفـار

وهذا حالها وهم حـلـول

 

فكيف بها إذا خات الديار

أبيت الليل مرتقباً كـئيبـاً

 

لهم في الضلوع له أوار

كأن كواكب الفلك اعتراها

 

فتور أو تخونها المـدار

ومنها:

فيا لك ليلة طالت ودامـت

 

فليس لصبحها عنها انسفار

أسائلها لأبلغ منتـهـاهـا

 

لعل الهم يذهبه النـهـار

ومات الشيخ أبو الحسن في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة عن ثمان وثمانين سنة. ومنهم ولده أبو علي الحسن بن علي بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة، وكان فاضلاً كاتباً شاعراً أديباً، يكتب النسخ على طريقة أبي عبد الله بن مقلة، والرقاع على طريقة علي بن هلال، وخطه حلو جيد جداً خال من التكلف والتعسف. سمع أباه بحلب. وكتب عنه السمعاني عند قدومه حلب. وسار في حياة أبيه إلى الديار المصرية، واتصل بالعادل أمير الجيوش وزير المصريين وأنس به، ثم نفق بعده على الصالح بن رزيك وخدمه في ديوان الجيش، ولم يزل بمصر إلى أن مات بها في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. ومن شعره في صدر كتاب كتبه إلى أخيه عبد القاهر في سنة ست وأربعين وخمسمائة:

سرى من أقاصي الشام يسألني عني

 

خيال إذا ما راد يسلبـنـي مـنـي

تركت له قلبي وجسمي كلـيهـمـا

 

ولم يرض إلا أن يعرس في جفني

وإني ليدنيني اشـتـياقـي إلـيكـم

 

ووجدي بكم لو أن وجد الفتى يدني

وأبعث آمالي فتـرجـع حـسـراً

 

وقوفاً على ضن من الوصل أو ظن

فليت الصبا تسري بمكنون سـرنـا

 

فتخبرني عنكم وتخبركـم عـنـي

وليت الليالي الـخـالـيات عـوائد

 

علينا فتعتاض السرور من الحـزن

ومن شعره:

ما ضرهم يوم جد البين لو وقفوا

 

وزودوا كلفاً أودى به الكـلـف

تخلفوا عن وداعي ثمت ارتحلـوا

 

وأخلفوني وعوداً ما لها خلـف

واوصلوني بهجر بعد ما وصلـوا

 

حبلي وما أنصفوني لكن انتصفوا

فليتهم عدلوا في الحكم إذ ملكـوا

 

وليتهم أسعفوا بالطيف من شعفوا

ما للمحب وللعـذال ويحـهـم؟

 

خانوا ومانوا ولما عنفوا عنفـوا

أستودع الله أحبابـاً ألـفـتـهـم

 

لكن على تلفي يوم النوى ائتلفوا

عمري لئن نزحت بالـبـين دارهـم

 

عني فما نزحوا دمعي وما نزفـوا

يا حبذا نظرة منهم علـى عـجـل

 

تكاد تنكرني طـوراً وتـعـتـرف

سقت عـهـودهـم غـداء واكـفة

 

تهمي ولو أنها من أدمعي تـكـف

أحبابنا ذهلت ألـبـابـنـا ومـحـا

 

عتابنا لكـم الإشـفـاق والأسـف

بعدتم فـكـأن الـشـمـس واجـبة

 

من بعدكم وكأن البدر منـخـسـف

يا ليت شعري هلى يحظى برؤيتكـم

 

طرفي وهل يجمعن ما بيننا طرف؟

ومضمر في حشاه من محاسنـكـم

 

لفظاً هو الدر لا ما يضمر الصدف

كنا كغصنين حال الدهر بينـهـمـا

 

أو لفظتين لمعنى ليس يخـتـلـف

فأقصدتنا صروف الدهـر نـابـلة

 

حتى كأن فـؤادينـا لـهـا هـدف

فهل تعود ليالي الـوصـل ثـانـية

 

ويصبح الشمل منا وهو مؤتـلـف؟

ونلتقي بعد يأس مـن أحـبـتـنـا

 

كمثل ما يتلاقـى الـلام والألـف

وما كتبت على مقدار ما ضمـنـت

 

مني الضلوع ولا ما يقتضي اللهف

فإن أتيت بمكنوني فمـن عـجـب

 

وإن عجزت فإن العذر منصـرف

       

ومنهم: أخوه أبو البركات عبد القاهر بن علي بن عبد الله بن أبي جرادة، كان ظريفاً لطيفاً أديباً شاعراً كاتباً، وله الخط الرائق، والشعر الفائق، والتهذيب الذي تبحر في جودته ويلتحق بالنسبة إلى ابن البواب، والتأنق في الخط المحرر الذي يشهد بالتقدم في الفضل وإن تأخر. سمع بحلب أباه أبا الحسن وغيره، وكتب عنه جماعة من العلماء، وكان أميناً على خزائن الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي وذا منزلة لطيفة منه، ومن شعره - وكتبه بليقة ذهب -:

ما اخترت إلا أشرف الرتب

 

خطا أخلد منه في الكتـب

والخط كالمرآة ننظـرهـا

 

فنرى محاسن صورة الأدب

هو وحده حسب يطـال بـه

 

إن لم يكن إلاه من حسـب

ما زلت أنفق فيه من ذهب

 

حتى جرى فكتبت بالذهـب

وقال أيضاً وهو بدمشق في سنة تسع وأربعين وخمسمائة:

أمـت بـبـذلـي خـالـصـــاً مـــن مـــودتـــي

 

إلـى مـن سـواء عـنـده الـمـنـــع والـــبـــذل

وتحسب نفسي والأماني ضلة  

 

 بأني من شغل الذي هو لي شغل

ألا إن هذا الحب داء موافق

 

وإن شـفـاء الـداء مـمــتـــنـــع ســـهـــل

عفـى الـلـه عـمـن إن حـنـى فـاحـتـمـلــتـــه

 

تجـنـى فـعـاد الـذنـب لـي ولـه الــفـــضـــل

ومـن كـلـمـا أجـمـعـت عـنـه تـــســـلـــياً

 

تبـينـت أن الــرأي فـــي غـــيره جـــهـــل

سأعـــرض إلا عـــن هـــواه فـــإنـــــــه

 

جمـيل بـمـثـلـي حـب مـن مـالـــه مـــثـــل

وألـقـى مـقـال الـنـاصـحـين بـمـــســـمـــع

 

ضربـت عـلـيه بـالـغـــواية مـــن قـــبـــل

فعـنـدي وإن أخـفـــيت ذاك عـــن الـــعـــدى

 

عزيمة هـــم لا تـــكـــل ولا تـــألـــــــو

ولـي فـي حـواشـي كـل عـــذل تـــلـــفـــت

 

إلـى حـب مـن فـي حـبـه قـبـــح الـــعـــذل

وإنـي لأدنـى مـــا أكـــون مـــن الـــهـــوى

 

إذا أرجـف الـواشـون بـي أنــنـــي أســـلـــو

هذا لعمري والله الغاية في الحسن والطلاوة، والرونق والحلاوة. وقال أيضاً:

عاد قلبي إلى الهوى من قريب

 

ما محب بمنته عـن حـبـيب

طال يا همتي تماديك في الرش

 

د خذي من غواية بـنـصـيب

وإذا ما رأيت حسنـاً غـريبـاً

 

فاستعدي له بـوجـد غـريب

يا غزالاً مالت له نشوة الـعـج

 

ب فهزت عطفيه هز القضيب

بين ألحاظك المراض وبـينـي

 

نسب لو رعيت حق النـسـيب

أنت أجريت أعين الدمع من عي

 

ني وأوريت زند قلبي الكـئيب

لا تقل ليس لي بـذلـك عـلـم

 

فعلى مقلتيك سـيمـا مـريب

ما تعديك في الذي أنـت فـيه

 

إن حظـي لـديك حـظ أديب

ومات في سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة. ومنهم ابن أخيه أبو الفتح عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي جرادة، وكان يجيد الكتابة وجمع مجاميع حسنة، وجمع شعر والده أبي عبد الله الحسن، وشعر عمه أبي البركات عبد القاهر، وله شعر لا بأس به منه:  

من ذا مجيري من يدي شادن

 

مهفهف القد مليح العـذار

قد كتب الشعر على وجهـه

 

أسطر مسك طرسها جلنار

فهؤلاء من بني عبد الله بن موسى بن عيسى. وأما أخوه هارون بن موسى، فهو أول من اشترى بحلب ملكاً في قرية تعرف بأورم الكبرى، وكان له ولدان: زهير وأحمد،والعقب لزهير وهو الذي اشترى أكثر أملاك بني أبي جرادة، مثل أورم الكبرى، ويحمول، وأقذار ولؤلؤة والسين وهي قرى، ووقف وقفاً على شرا فرس يجاهد به في سبيل الله. وتوفي في حدود سنة أربعين وثلاثمائة. فمن ولد زهير: أبو الفضل وهو أبو الفضل عبد الصمد بن زهير بن هارون بن موسى، ولادته في حدود سنة عشرين وثلاثمائة. سمع بحلب أبا بكر محمد بن الحسين الشيعي وغيره، وروى عنه ابن أخيه القاضي أبو الحسن أحمد، ومشرق العابد وجماعة، ولعله مات في حدود سنة تسعين وثلاثمائة وليس له عقب. ومنهم أبو جعفر يحيى بن زهير بن هارون بن موسى وهو العديم، إليه ينسبون. وقد ذكرنا أنهم لا يعرفون لم سموا ذلك؟ ومنهم: ولده القاضي أبو الحسن أحمد بن يحيى بن زهير، وهو أول من ولي القضاء بمدينة حلب من هذا البيت، وقد سمع الحديث ورواه، وقرأ الفقه على القاضي أبي جعفر محمد بن أحمد السمعاني، وكان السمعاني إذ ذاك قاضي حلب. أنشدني كمال الدين أبو القاسم عمر بن أحمد بن أبي جرادة، أنشدني والدي لجد أبيه القاضي هبة الله بن أحمد بن يحيى يذكر أباب ويفتخر به:

أنا ابن مستنبط القضـايا

 

وموضح المشكلات حلا

وابن المحازيب لم تعطل

 

من الكتاب العزيز تتلى

وفارس المنبر استكانـت

 

عيدانه من حجاه ثقـلا

توفي بعد سنة تسع وعشرين وأربعمائة. ومنهم ابنه القاضي أبو الفضل هبة الله بن أحمد، كان كبير القدر جميل الأمر، مبجلاً عند آل مرداس، له شعر جزل فصيح ذو معان دقاق، يترفع قدره عنه، وإنما يقول ببلاغته وبراعته. سمع الحديث من أبيه، ولعله لقي أبا العلاء المعري وقرأ عليه شيئاً، وولي القضاء بحلب وأعمالها في سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة وبقي على ذلك إلى أن مات، وكانت ولايته للقضاء في أوائل دولة شرف الدولة أبي المكارم مسلم بن قريش بعد وفاة حميه القاضي كسرى بن عبد الكريم بن كسرى، وكتب تقليده من بغداد عن المقتدي بالله. ومن شعره:

لي بالغوير لبانات ظفـرت بـهـا

 

قد سد من دونها لي أوضح الطرق

وبالثنية بـدر لاح فـي غـصـن

 

أصمى فؤادي لها سهم من الملـق

سراقة لقلوب النـاظـرين لـهـا

 

وما يقام عليها واجـب الـسـرق

لا يفلت المرء من أشراك مقلتهـا

 

وإن تخلص لم يفلت من العـقـق

وأبرزت من خلال السجف ذا شعل

 

لولا بقا الليل قلنا غرة الـفـلـق

ولائم ودمـوع الـعـين واكــفة

 

لا يستبين لها جفن من الـغـرق

يقول: أفنيته والشمل مـجـتـمـع

 

ولم تصنه لتـوديع ومـفـتـرق

وله:

ربع لهند بالـلـوى مـصـروم

 

أقوى فمـا آو بـه مـنـهـوم

أخفاه إلحاح البلى فضللت فـي

 

إنشاده لولا الـنـسـيم تـهـوم

تضياف طرفي فيه دمع ساجـم

 

وقرى فؤادي في ذراه همـوم

هل عاذر في الربع رائي عيسهم

 

تحدى لها وخد بهـم ورسـيم؟

وهوى تبعده الليلـي والـنـوى

 

إن قربته خـواطـر ورسـوم

يا صاحبي خذا المطايا وحدهـا

 

بدمي فما اغتالتـه إلا الـكـوم

أمضين أحكام الهـوى وأعـنـه

 

ومساعد المرء الظلوم ظـلـوم

وله:

وما عسى يطلب الرجال من رجـل

 

كاس من الفضل إن عري من المال

كالبارد العذب يوم الورد من ظـمـأ

 

والصارم العضب في روع وأوجال

همومه في جسيمات الأمور فـمـا

 

يلفى مصاحب أطـمـاح وآمـال

ألـذ مـن ثـروة تـأتـي بـإذلال

 

عز القناعة مـع صـون وإقـلال

وما يضر امرأً أثرت مـنـاقـبـه

 

أن اكسبته اللـيالـي رقة الـحـال

وقال أيضاً يمدح أبا الفضائل سابق بن محمود بن نصر بن صالح بن مرداس صاحب حلب ويشكره، إذ لم يسمع فيه قول حساد وشوا به إليه:

خلها إن ظمئت تشكـو الأوامـا

 

لا تقلها الأين إن طـال ودامـا

واجعل السرج إذا ما سـغـبـت

 

كلا والمورد العذب اللـجـامـا

أو تراها كالحنـايا بـالـسـرى

 

وبإسراع إلى المرمى سهـامـا

قصرت ظهراً وؤسغاً وعسـيبـاً

 

مثل ما طالت عناناً وحـزامـا

تنصب الأذنين حـتـى خـيلـت

 

بهما تبصر مـا كـان أمـامـا

وإذا ما بارت الـريح اغـتـدت

 

خلفها النكباء حسرى والنعامـى

كم مقامي بين أحكـام الـعـدى

 

أتبع القائد لا أعصى الزمـامـا

أكلة الطاعم لا يرهـب إنـمـا

 

أو أسير المن إن كف احتشامـا

تعـتـلـي أرؤسـه أذنـابــه

 

فترى الأرجل تعلو فيه هـامـا

وإلام الحـظ لا ينـصـفـنـي

 

من زمان جار في قصدي إلاما؟

أتـمـنـى راحة تـنـقـذنـي

 

منهم عزت ولو كانت لمـامـا

ومنها:

كم رموني عامداً فـي هـوة

 

نارها تعلو اشتعالاً واضطراما

قاصدي حتفي فكانت بك لـي

 

نار إبراهيم بـرداً وسـلامـا

وله في المعنى من قصيدة:

هنئت يا أرض الـعـواجـم دولة

 

روى ثـراك بـهـا أشـم أروع

قد عاد في الأيام ماء شبـابـهـا

 

وتسالمت حرق الأسى والأضلـع

أشكو إليك عصابة نبـذوا الـحـيا

 

حسداً وشدوا في أذاي وأوضعـوا

راموا ابتزازي مورثي عن أسرتي

 

وتآزروا في قبضه وتجمـعـوا

يتطلبون لي الذنـوب كـأنـنـي

 

ممن عليه بالشنـان يقـعـقـع

لم أخش قهرهم ونصلك مصلـت

 

دوني ولي من حسن رأيك مرجع

وله:

وما الذل إلا أن تـبـيت مـؤمـلاً

 

وقد سهرت عيناك وسنان هاجعـا

أأخشى أمرأً أو أشتكي منه جفـوة

 

إذا كنت بالميسور في الدهر قانعا؟

إذا ما رآني طالبـاً مـنـه حـاجة

 

ففي حرج إن لم يكن لي مانـعـا

وكان المنجمون قد حكموا له أنه يموت في صدور الرجال فاتفق أنه اعتقل بالقلعة. مدةً لتهمة اتهم بها بالممالأة لبعض الملوك، ثم أطلق بعد مدة فنزل راكباً وأصحابه حوله، فبينا هو سائر إذ وجد ألماً فقال لأصحابه: أمسكوني أمسكوني، فأخذوه في صدورهم من على فرسه، فلما وصل إلى منزله بقي على صدورهم إلى أن مات بحلب في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. ومنهم ولده القاضي أبو غانم محمد بن القاضي أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي الحسن أحمد، وكان فقيهاً فاضلاً زاهداً عفيفاً، سمع أباه وغيره، وولي قضاء حلب وأعمالها وخطابتها بعد موت أبيه في أيام تاج الدولة دبيس في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، ولم يزل قاضياً بها إلى أن عزله رضوان لما خطب للمصريين، وولي القضاء القاضي الزوزني العجمي في شوال من سنة تسعين وأربعمائة. ثم عاود الملك رضوان الخطبة لبني العباس، فأعاد القاضي أبا غانم إلى ولايته وجاءه التقليد من بغداد بالقضاء والحسبة عن القاضي علي بن الدامغاني بأمر المستظهر في صفر سنة ست وتسعين وأربعمائة.

وكان مولد القاضي أبي غانم في رجب سنة ست وأربعين وأربعمائة، وهو الذي شرع في عمارة المسجد الذي بحلب يعرف ببني العديم، وأتمه ابنه القاضي أبو الفضل عبد الله، وكان يتولى الخطابة في المسجد الجامع والإمامة بحب، وكان حنفي المذهب وكان يؤم بالناس ثلاثين سنة، وهو متكتف تحت ثيابه، ويسبل أكمامه فارغة خوفاً من الولاة في أيامه لأنهم كانوا إسماعيليين يرون رأي المصريين، وكانوا يفطرون قبل العيد بيوم ويجتمع أكابر حلب في يوم عيدهم يهنئونهم، فصعد القاضي أبو غانم للهناء فيمن صعد، وقدم للناس سكر ولوز وأخذ القاضي أبو غانم لوزة ووضعها في فيه، فقال له صاحب حلب: أيها القاضي، لم لا تأكل من السكر؟ فقال: لأنه يذوب وتبسم، فضحك الوالي وأعفاه من ذلك. حدثني كمال الدين قال: حدثني عمي حدثني أبي قال: نزل جدك القاضي أبو غانم في بعض الأيام يصلي بالجامع وخلع نعليه قرب المنبر وكانا جديدين، فلما قضى صلاته قام للبسهما فوجد نعله العتيق مكانهما فقال لغلامه: ألم أنزل إلى الجامع بالمداس الجديد؟ فأين هو؟ فقال الغلام: بلى ولكن جاءنا الساعة رجل وطرق الباب وقال: القاضي يقول لكم: أنفذوا إليه مداسه العتيق إلى الجامع، فقد سرق مداسه الجديد فضحك وقال: هذا والله لص شفيق جزاه الله خيراً وهو في حل منه. والقاضي أبو غانم هذا هو الذي نهض من حلب في سنة ثماني عشرة وخمسمائة، وقد حصرها الفرنج ودبيس بعد قتل بلك على منبج، حتى أقدم البرسقي من الموصل فاستنقذها من الحصار، وهربوا لما سمعوا بقدومه. وكان أهل حلب لقوا شدة وأكلوا الميتة ولم يكن عندهم أمير، وإنما تولوا حفظ البلد بأنفسهم، وأبلوا بلاء حسناً حسنت به العاقبة ومنهم ابنه القاضي أبو الفضل هبة الله سمي باسم جده وكني بكنيته، واكن فقيهاً مرضياً ورعاً زاهداً سمع الحديث ورواه، وولي القضاء بحلب وأعمالها بعد موت أبيه القاضي أبي غانم، وكتب له عهده من أتابك زنكي بن آقسنقر في سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، ثم جاء له العهد من بغداد من قاضي القضاة الزينبي بأمر المقتفي. وكان مولده في ذي القعدة سنة تسع وتسعين وأربعمائة.

فلما قتل أتابك زنكي وولي ابنه نور الدين، وولي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوني قضاء الشام - ورزق البسطة والتحكم في الدولة، وقاوم الوزراء بل الملوك - التمس من القاضي أبي الفضل هذا أن يكتب في كتب سجلاته ذكر النيابة عنه، فامتنع القاضي أبو الفضل ولج ابن الشهرزوني وساعده مجد الدين بن الداية، وهو والي حلب لشيء كان في نفسه على القاضي أبي الفضل لأمور كان يخالفه فيها في أقضية يؤثر فيها جانب الحق على أغراضه، وترددت المراسلات بين نور الدين وبينه في قبول النيابة وهو يأبى إلى أن قال ابن الداية: هذا تحكم منه في الدولة وفيك، إذ تأمره بشيء ولا يمتثله فاعزله، وول محيي الدين بن كمال الدين: فقال نور الدين - بياض في الأصل - يستناب له قاض حنفي فعزل القاضي أبو الفضل وولى محي الدين قضاء حلب، واستنيب له الكوردي وذلك في سنة سبع وخمسين وخمسمائة وحج في تلك السنة.

وكتب أبو الحسين أحمد بن منير الطرابلسي للقاضي أبي الفضل هبة الله يلتمس منه كتاب للوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني، وكان قد وعده بها ودافعه:

يا حائزاً غاي كل فضل

 

تضل في كنهه الإحاطة

ومن ترقى إلى مـحـل

 

أحكم فوق السها مناطة

إلى متى أسعط التـنـي

 

ولا ترى المن بالوساطة

ومات القاضي أبو الفضل لعشر بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وستين وخمسمائة. ومنهم ابن أخته أبو المكارم محمد بن عبد الملك بن أحمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن أبي جرادة، سمع بحلب ورحل إلى بغداد وسمع بها محمد بن ناصر السلامي وغيره وحدثني كمال الدين أيده الله قال: قال لي شيخنا أبو اليمن زيد الكندي: كان أبو المكارم محمد بن عبد الملك بن أبي جرادة سمع ببغداد الحديث معنا على مشايخنا فسمعت بقراءته وورد إلينا إلى دمشق بعد ذلك، وكنا نلقبه: القاضي بسعادتك، وذلك أن القلانسي دعاه في وليمة وكنت حاضرها، فجعل لا يسأله عن شيء فيخبر عنه بما سر أو ساء إلا وقال في عقبه بسعادتك، فإن قال له: ما فعل فلان؟ قال: مات بسعادتك، وإن قال له: ما خبر الدار الفلانية؟ يقول: خربت بسعادتك، فسميناه القاضي بسعادتك، وكان يقولها لاعتياده إياها لا لجهل كان فيه. وكان له أدب وفضل وفقه وشعر جيد، وقد روى الحديث. ولأبي المكارم شعر منه:

لئن تناءيتم عنـي ولـم تـركـم

 

عيني فأنتم بقلبي بعد سـكـان

لم أخل منكم ولم أسعد بقربـكـم

 

فهل سمعتم بوصل فيه هجران؟

 وله أشعار كثيرة، ومات بحلب في سنة خمس وستين وخمسمائة، أو سنة ست وستين. ومنهم جمال الدين أبو غانم محمد بن القاضي أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي غانم محمد بن القاضي أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي الحسين يحيى وهو عم جمال الدين، أحد الأولياء العباد، وأرباب الرياضة والاجتهاد، عامل كثير الصوم والصلاة وهو حي يرزق إلى وقتنا هذا. وكان قد تولى الخطابة بجامع حلب، وعرض عليه القضاء في أيام الملك الصالح إسماعيل بن محمود بن زنكي بعد القاضي ابن الشهرزوري فامتنع منه، فقلد القضاء أخوه القاضي أبو الحسن والد كمال الدين أيده الله، وكتب جمال الدين هذا بخطه الكثير وشغف بتصانيف أبي عبد الله محمد بن علي بن الحكيم الترمذي فجمع معظم تصانيفه عنده وكتب بعضها بخطه، وكتب من كتب الزهد والرقائق والمصاحف كثيراً، وكان خطه في صباه على طريقة ابن البواب القديمة، ووهب لأهله مصاحف كثيرة بخطه، وكان إذا اعتكف في شهر رمضان كتب مصحفاً أو مصحفين، وجمع براوات الأقلام فيكتب بها تعاويذ للحمى وعسر الولادة فيعرف بركتها. قال: وسألت عمي عن مولده فقال: في سنة أربعين وخمسمائة، وقد سمع أباه وعمه أبا المجد عبد الله وغيرهما، وروى الحديث وتفقه على العلاء الغزنوي، واجتمع بجماعة من الأولياء، وكوشف بأشياء مشهورة، وهو الآن يحيا في محرم سنة عشرين وستمائة. ومنهم القاضي أبو الحسن أحمد بن القاضي أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي غانم محمد بن أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي الحسن أحمد بن أبي جرادة، كل هؤلاء ولوا قضاء حلب، وهذا هو والد كمال الدين صاحب أصل هذه الترجمة، كان يخطب بالقلعة بحلب على أيام نور الدين محمود بن زنكي، ثم ولي الخزانة في أيام ولده الملك الصالح إسماعيل إلى أن عرض القضاء على أخيه كما ذكرنا، فامتنع منه فقلده القاضي هذا بحلب وأعمالها في سنة خمس وسبعين وخمسمائة، ولم يزل والياً للقضاء في أيام الملك الصالح ومن بعده في دولة عز الدين، ثم عماد الدين بن قطب الدين مودود بن زنكي، وصدراً من دولة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى أن عزل عن منزلي الخطابة والقضاء ونقل إلى مذهب الشافعي، وكان عزله عن القضاء في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، ووليه القاضي محيي الدين محمد بن علي الزكي قاضي دمشق الشافعي، وكان صرف أخوه الأصغر أبو المعالي عبد الصمد عن الخطابة قبله، فعلم أن الأمر يئول إلى عزله عن القضاء لأن الدولة شافعية، فاستأذن في الحج والإعفاء من القضاء فصرف عن ذلك بعد مراجعات. وسمع الحديث من أبيه وأبي المظفر سعيد بن سهل الفلكي وغيرهما، ومولده سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، ومات رحمه الله ليلة الجمعة لسبعة وعشرين من شعبان سنة ثلاث عشرة وستمائة، هذا ما كتبته من الكتاب الذي ذكرته آنفاً على سبيل الاختصار والإيجاز، وهو قليل من كثير من فضائلهم. وأنا الآن أذكر من أنا بصدده وهو كمال الدين أبو القاسم عمر بن القاضي أبي الحسن أحمد بن القاضي أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي غانم محمد بن القاضي أبي سعيد هبة الله بن القاضي أبي الحسن أحمد بن أبي جرادة - وهو الذي نحن بصدده وإلى معرفة حاله ركبنا سنن المقال وجدده، فإنه من شروط هذا الكتاب، لكتابته التي فاقت ابن هلال، وبلغت الغاية في الجودة والإتقان، ولتصانيفه في الأدب التي تذكر آنفاً إن شاء الله تعالى.

فأما أوصافه بالفضل فكثيرة، وسماته بحسن الأثر أثيرة، وإذا كان هذا الكتاب لا يتسع لأوصافه جميعاً، وكان الوقت يذهب بحلاوة ذكر محاسنه سريعاً، ورأيت من المشقة والإتعاب التصدي لجميع فضائله والاستيعاب، فاعتمدت على القول مجملاً لا مفصلاً، وضربةً لا مبوباً فأقول: إن الله عز وجل عني بخلقته، فأحسن خلقه وخلقه وعقله وذهنه وذكاءه، وجعل همته في العلوم ومعالي الأمور، فقرأ الأدب وأتقنه، ثم درس الفقه فأحسنه، ونظم القريض فجوده، وأنشأ النثر فزينه، وقرأ حديث الرسول وعرف علله ورجاله، وتأويله وفروعه وأصوله، وهو مع ذلك قلق البنان جواد بما تحوي اليدان، وهو كاسمه كمال في كل فضيلة، لم يعتن بشيء إلا وكان فيه بارزاً، ولا تعاطى أمراً إلا وجاء فيه مبرزاً، مشهور ذلك عنه لا يخالف فيه صديق، ولا يستطيع دفاعه عدو. وأما قراءته للحديث في سرعته وصحة إبراده، وطيب صوته وفصاحته، فهو الغاية التي أقر له بها كل من سمعها، فإنه يقرأ الخط العقد كأنه يقرأ من حفظه. وأما خطه في التجويد والتحرير والضبط والتقييد فسواد مقلة لأبي عبد الله بن مقلة، وبدر ذو كمال عند علي بن هلال:

خلال الفضل في الأمجاد فوضى

 

ولكن الكمـال لـهـا كـمـال

وإذا كان التمام من خصائص عالم الغيب، وكان الإنسان لابد له من عيب، فعيبه لطالب العنت والشين، أنه يخاف عليه من إصابته العين، هذا مع العفاف والزمت، والوقار وحسن السمت، والجلال المشهور، عند الخاص والجمهور، قاد الجيوش لسبع عشرة حجة ولداته عن ذاك في إشغال سألته - أدام الله علوه - عن مولده فقال لي: ولدت في ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. قال: فلما بلغت سبعة أعوام حملت إلى المكتب فأقعدت بين يدي المعلم فأخذ يمثل لي كما يمثل للأطفال، ويمد خطاً ويرتب عليه ثلاث سينات، فأخذت القلم وكنت قد رأيته وقد كتب بسم، ومد مدته ففعلت كما فعل، وجاء ما كتبته قريباً من خطه، فتعجب المعلم وقال لمن حوله: لئن عاش هذا الطفل لا يكون في العالم أكتب منه. وصحت لعمري فراسة المعلم فيه، فهو أكتب من كل من تقدمه بعد ابن البواب بلا شك.

وقال: وختمت القرآن، ولي تسع سنين، وقرأت بالعشر ولي عشر سنين، وحبب إلى الخط وجعل والدي يحضني عليه، فحدثني الشيخ يوسف بن علي بن زيد الزهري المغربي الأديب معلم والده بحضرة كمال الدين قال: حدثني والد هذا - وأشار إليه - قال: ولد لي عدة بنات وكبرن ولم يولد لي ولد غير ولد واحد ذكر، وكان غاية في الحسن والجمال والفطنة والذكاء، وحفظ القرآن قدراً صالحاً وعمره خمس سنين، واتفق أن كنت يوماً جالساً في غرفة لنا مشرفة على الطريق فمرت بنا جنازة فاطلع ذلك الطفل ببصره نحوها ثم رفع رأسه إلي وقال: يا أبت إذا أنا مت بم تغشي تابوتي؟ فزجرته وأدركني في الوقت استشعار شديد عليه، فلم يمض إلا أيام حتى مرض ودرج إلى رحمة الله ولحق بربه، فأصابني عليه ما لم يصب والداً على ولد، وامتنعت من الطعام والشراب، وجلست في بيت مظلم وتصبرت فلم أعط عليه صبراً، فحملني شدة الوله على قصد قبره وتوليت حفره بنفسي، وأردت استخراجه والتشفي برؤيته، فلمشيئة الله ولطفه بالطفل أو بي لئلا أرى به ما أكره صادفت حجراً ضخماً، وعالجته فامتنع علي قلعه مع قوة وأيد كنت معروفاً بهما، فلما رأيت امتناع الحجر علي علمت أنه شفقة من الله على الطفل أو علي، فزجرت نفسي ورجعت ولهان بعد أن أعدت قبره إلى حاله التي كان عليها، فرأيت بعد ذلك في النوم ذلك الطفل وهو يقول: يا أباه عرف والدتي: أني أريد أجيء إليكم فانتبهت مرعوباً، وعرفت والدته ذلك فبكينا وترحمنا واسترجعنا، ثم إني رأيت في النوم كأن نوراً خرج من ذكري حتى أشرف على جميع دورنا ومحلتنا وعلا علواً كبيراً، فانتبهت وأولت ذلك فقيل لي: أبشر بمولود يعلو قدره، ويعظم أمره، ويشيع بين الأنام ذكره بمقدار ما رأيت من ذلك النور، فابتهلت إلى الله عز وجل ودعوته وشكرته، وقويت نفسي بعد الإياس لأني كنت قد جاوزت الأربعين، فلم تمض إلا هنيهة حتى اشتملت والدة ولدي هذا وأشار إلى كمال الدين - أيده الله - على حمل، وجاءت به في التاريخ المقدم ذكره، فلم يكن بقلبي بحلاوة ذلك الأول، لأنه كان نحيفاً جداً، فجعل كلما كبر نبل جسماً وقدراً، ودعوت عدة دعوات، وسألت الله له عدة سؤالات، ورأيت فيه والحمد لله أكثرها.

ولقد قال له رجل يوماً بحضرتي كما يقول الناس: أراكه الله قاضياً كما كان آباؤه. فقال: ما أريد له ذلك، ولكني اشتهيته أن يكون مدرساً، فبلغه الله ذلك بعد موته، وسمع الحديث على جماعة من أهل حلب والواردين إليها، وأكثر السماع على الشيخ الشريف افتخار الدين عبد المطلب الهاشمي. ورحل به أبوه إلى البيت المقدس مرتين في سنة ثلاث وستمائة، وفي سنة ثمان وستمائة، ولقي بها مشايخ وبدمشق أيضاً، وقرأ على تاج الدين أبي اليمن في النوبتين كثيراً من مسموعاته. حدثني كمال الدين - أدام الله معاليه - قال: قال لي والدي: احفظ اللمع حتى أعطيك كذا وكذا، فحفظته وقرأته على شيخ حلب يومئذ، وهو الضياء بن دهن الحصا، ثم قال لي: احفظ القدوري حتى أهب لك كذا وكذا من الدراهم كثيرة أيضاّ، فحفظته في مدة يسيرة وأنا في خلال ذلك أجود، وكان والدي رحمه الله يحرضني على ذلك، ويتولى صقل الكاغد لي بنفسه، فإني لأذكر مرة وقد خرجنا إلى ضيعة لنا فأمرني بالتجويد. فقلت: ليس ههنا كاغد جيد، فأخذ بنفسه كاغداً كان معنا ردياً، وتناول شربة اسفيذر وكانت معنا، فجعل يصقل بها الكاغد بيده ويقول لي: اكتب ولم يكن خطه بالجيد، وإنما كان يعرف أصول الخط، فكان يقول لي: هذا جيد وهذا رديء، وكان عنده خط ابن البواب، فكان يريني أصوله إلى أن أتقنت منه ما أردت، ولم أكتب على أحد مشهور إلا أن تاج الدين محمد بن أحمد بن البرفطي البغدادي، ورد إلينا إلى حلب فكتبت عليه أياماً قلائل لم يحصل منه فيها طائل: ثم إن الوالد رحمه الله خطب لي وزوجني بقوم من أعيان حلب وساق إليهم ما جرت العادة بتقدمته في مثل ذلك، ثم جرى بيننا وبينهم ما كرهته وضيق صدري منهم، فوهب لهم الوالد جميع ما كان ساقه إليهم وطلقتهم، ثم إنه وصلني بابنة الشيخ الأجل بهاء الدين أبي القاسم عبد المجيد بن الحسن بن عبد الله المعروف بابن العجمي وهو شيخ أصحاب الشافعي، وأعظم أهل حلب منزلة وقدراً ومالاً وحالاً وجاهاً. وساق إليهم المهر وبالغ في الإحسان، وكان والدي رحمه الله باراً بي، لم يكن يلتذ بشيء من الدنيا التذاذه بالنظر في مصالحي وكان يقول: أشتهي أرى لك ولداً ذكراً يمشي فولد أحمد ولدي ورآه، وبقي إلى أن كبر ومرض مرضة الموت، فيوم مات مشى الطفل حتى وقع في صدره، ثم مات والدي رحمه الله في الوقت الذي تقدم ذكره، وكان الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب رحمه الله كثير الإكرام لي، وما حضرت مجلسه قط فأقبل على أحد إقباله علي مع صغر السن، واتفق أن مرضت في شهور سنة ثماني عشرة وستمائة مرضاً أيس مني فيه، فكان يخطر ببالي وأنا مريض أن الله تعالى لابد وأن يمن بالعافية لثقتي بصحة رؤيا الوالد وكنت أقول: ما بلغت بعد مبلغاً يكون تفسيراً لتلك الرؤيا إلى أن من الله بالعافية وله الحمد والمنة، فذهب عني ذلك الخيال، وليس يخطر منه في هذا الوقت ببالي شيء، لأن نعم الله علي سابغة، وأياديه في حقي شائعة. قلت: ولما مات والده بقي بعده مدة، ومات مدرس مدرسة شادبخت، وهي من أجل مدارس حلب وأعيانها، فولي التدريس بها في ذي الحجة سنة ست عشرة وستمائة، وعمره يومئذ ثمان وعشرون سنة. هذا، وحلب أعمر ما كانت بالعلماء والمشايخ والفضلاء الواسخ، إلا أنه رئي أهلاً لذلك دون غيره، وتصدر وألقى الدرس بجنان قوى ولسان لوذعي فأبهر العالم، وأعجب الناس.

وصنف مع هذا السن كتباً منها: كتاب الدراري في ذكر الذراري جمعه للملك الظاهر، وقدمه إليه يوم ولد ولده الملك العزيز الذي هو اليوم سلطان حلب. كتاب ضوء الصباح في الحث على السماح صنفه للملك الأشرف، - وكان قد سير من حران يطلبه، فإنه لما وقف على خطه اشتهى أن يراه، فقدم عليه فأحسن إليه وأكرمه، وخلع عليه وشرفه -. كتاب الأخبار المستفادة في ذكر بني أبي جرادة -، وأنا سألته جمعه فجمعه لي، وكتبه في نحو أسبوع وهو عشر كراريس -. كتاب في الخط وعلومه، ووصف آدابه وأقلامه وطروسه، وما جاء فيه من الحديث والحكم، وهو إلى وقتي هذا لم يتم. كتاب تاريخ حلب في أخبار ملوكها وابتداء عمارتها ومن كان بها من العلماء، ومن دخلها من أهل الحديث والرواية والدراية، والملوك والأمراء والكتاب. وشاع ذكره في البلاد، وعرف خطه بين الحاضر والباد، فتهاداه الملوك، وجعل مع اللآلئ في السلوك، وضربت به في حياته الأمثال، وجعل للناس في زمانه حذواً ومثالاً، فمما رغب في خطه أنه اشترى وجهةً واحدةً بخط ابن البواب بأربعين درهماً، ونقلها إلى ورقة عتيقة ووهبها من حي  در الكتبي، فذهب بها وادعى أنها بخط ابن البواب وباعها بستين درهماً زيادة على التي بخط ابن البواب بعشرين درهماً، ونسخ لي هذه الرقعة بخطه فدفع فيها كتاب الوقت على أنها بخطه ديناراً مصرياً ولم يطب قلبي ببيعها، وكتب لي أيضاً جزءاً فيه ثلاث عشرة قائمه نقلها من خط ابن البواب فأعطيت فيها أربعين درهماً ناصرية، قيمتها أربعة دنانير ذهباً فلم أفعل، وأنا أعرف أن ابن البواب لم يكن خطه في أيامه بهذا النفاق، ولا بلغ هذا المقدار من الثمن، وقد ذكرت ما يدل على ذلك في ترجمة ابن البواب. فممن كتب إليه يسترفده شيئاً من خطه سعد الدين منوجهر الموصلي، ولقد سمعته مراراً يزعم أنه أكتب من ابن البواب، ويدعي أنه لا يقوم له أحد في الكتابة ويقر لهذا - كمال الدين - بالكمال، فوجه إليه على لسان القاضي أبي علي القيلوي وهو المشهور بصحبة السلطان الأشرف يسأله سؤاله في سيئ من خطه ولو قائمة أو وجهة، وكان اعتماده على أن ينقل له الموجهة المقدم ذكرها، وممن كتب إليه يسترفده خطه أمين الدين ياقوت المعروف بالعالم، وهو صهر أمين الدين ياقوت الكاتب الذي يضرب به المثل في جودة الخط، وتخرج به ألوف وتتلمذ له من لا يحصى. كتب إلى كمال الدين رقعة وحموه حي يرزق نسختها: الذي حض الخادم على عمل هذه الأبيات وإن لم يكن من أرباب الصناعات: أن الصدر الكبير الفاضل عز الدين حرس الله مجده، لما وصل إلى الموصل خلد الله ملك مالكها، نشر من فضائل المجلس العالي العالمي الفاضلي كمال الدين كمل الله سعادته كما كمل الله سيادته، وبلغه في الدارين مناه وإرادته: ما يعجز البليغ عن فهمه فضلاً عن ان يورده، لكن فضائل المجلس كانت تملى على لسانه وتشغله، فطرب الخادم من استنشاق رياها. واشتاق إلى رؤية حاويها عند اجتلاء محياها، فسمح عند ذلك الخاطر مع تبلده بأبيات تخبر المجلس محبة الخادم له وتعبده وهي:

حيا نداك كمـال الـدين أحـيانـا

 

ونشر فضلك عن محياك حـيانـا

وحسن أخلاقك اللائي خصصت بها

 

أهدت على البعد لي روحاً وريحانا

حويت يا عمر المحمود سـيرتـه

 

خلقاً وخلقاً وأفضالاً وإحـسـانـاً

إن كان نجل هلال في صناعـتـه

 

ونجل مقلة عينا الدهر قد كـانـا

فأنت مولاي إنسان الزمـان وقـد

 

غدوت في الخط للعينين إنسـانـا

قد بث فضلك عز الدين مقتـصـداً

 

ونث شكرك إسـراراً وإعـلانـا

فضاع نشرك في الحدباء واشتهرت

 

آيات فضلك أرسـالاً ووحـدانـا

أثني عليك وآمـالـي مـعـلـقة

 

بحسن عفوك ترجو منك غفرانـا

وإن تطفلت في صدق الوداد ولـم

 

يقض التلاقي لنا عفواً ولا حـانـا

فما ألام علـى شـيء أتـيت بـه

 

فالأذن تعشق قبل العين أحـيانـا

يا أفضل الناس في علم وفـي أدب

 

وأرجح الخلق عند اللـه مـيزانـا

قد شرف الله أرضاً أنت ساكنـهـا

 

وشرف الناس إذ سواك إنسـانـا

وقد هجم الكلام على المجلس الأعلى بوجه وقاح، ولم يخش مع عفو المولى وصمة الافتضاح. فليلق عليه المولى ستر المعروف، فهو أليق بكرمه المألوف، والسلام. فكتب إليه كمال الدين بخطه الدري، ولفظه السحري، أنشدنيها لنفسه:

يا من أبحت حمى قلبـي مـودتـه

 

ومن جعلت له أحشـاي أوطـانـا

أرسلت نحوي أبياتاً طربـت بـهـا

 

والفضل للمبتدي بالفضل إحسـانـا

فرحت أختال عجباً من محاسنـهـا

 

كشارب ظل بالصهباء نـشـوانـا!

رقت وراقت فجاءت وهـي لابـسة

 

من اللاغة والتـرصـيع ألـوانـا

حكت بمنثورها والنظم إذ جـمـعـا

 

بأحرف حسنت، روضاً وبسـتـانـا

جرت على جرول أثواب زينتـهـا

 

إذ أصبحت وهي تكسو الحسن حسانا

أضحت تغبر وجه العنبـري فـمـا

 

بنو اللقيطة من ذهل بن شـيبـانـا

يمسي لها ابن هلال حين ينظـرهـا

 

يحكي أباه بما عانـاه نـقـصـانـا

كذاك أيضاً لها عبد الحـمـيد غـدا

 

عبداً يجر من التـقـصـير أردانـا

أتت وعبدك مغـمـور بـعـلـتـه

 

فغادرته صحيحاً خـير مـا كـانـا

وكيف لا تدفع الأسقام عن جسـدي

 

وهي الصبا حملت روحاً وريحانا؟

فما على طيفها لو عاد يطرقـنـا؟

 

فربمـا زار أحـيانـاً وأحـيانـا

فاسلم وأنت أمين الدين أحسن مـن

 

وشى الطروس بمنظوم ومن زانا

ولا تخطت إليك الـحـادثـات ولا

 

حلت بربعك يا أعلى الورى شانـا

       

وأنشدني كمال الدين أدام الله علاءه لنفسه في الغزل فاعتمد فيه معنى غريباً:

وأهيف معسول المراشف خلتـه

 

وفي وجنتيه للمـدامة عـاصـر

يسيل إلى فـيه الـلـذيذ مـدامة

 

رحيقاً وقد مرت عليه الأعاصـر

فيسكر منه عـنـد ذاك قـوامـه

 

فيهتز تيهاً والـعـيون فـواتـر

كأن أمير النوم يهوى جـفـونـه

 

إذا هم رفعاً خالفته المحـاجـر

خلوت به من بعد ما نـام أهـلـه

 

وقد غارت الجوزاء والليل ساتر

فوسدته كفي وبات مـعـانـقـي

 

إلى أن بدا ضوء من الصبح سافر

فقام يجر البرد منه علـى تـقـىً

 

وقمت ولم تحلـل لإثـم مـآزر

كذلك أحلى الحب ما كان فرجـه

 

عفيفاً ووصل لم تشنه الـجـرائر

وأنشدني لنفسه بمنزله بحلب في ذي الحجة سنة تسع عشرة وستمائة وإملائه:

وساحرة الأجفان معسولة اللمـى

 

مراشفها تهدي الشفاء من الظمـا

حنت لي قوسي حاجبيها وفوقـت

 

إلى كبدي من مقلة العين أسهمـا

فوا عجباً من ريقها وهو طاهـر

 

حلال وقد أضحى علي محرمـا!

فإن كان خمراً أين للخمر لـونـه

 

ولذته مع أنني لـم أذقـهـمـا؟

لها منزل في ربع قلبي محـلـه

 

مصون به مذ أوطنته لها حمـى

جرى حبها مجرى حياتي فخالطت

 

محبتها روحي ولحمي والـدمـا

تقول: إلى كم ترتضي العيش أنكداً

 

وتقنع أن تضحي صحيحاً مسلما؟

سر في بلاد الله واطلب الغـنـى

 

تفز منجداً إن شئت أو شئت متهما

فقلت لها: إن الذي خلق الـورى

 

تكفل لي بالرزق منا وأنـعـمـا

وما ضرني أن كنت رب فضـائل

 

وعلم عزيز النفس حراً معظمـاً

إذا عدمت كفـاي مـالاً وثـروةً

 

وقد صنت نفسي أن أذل وأحرما

ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتـي

 

لأخدم من لاقيت لكن لأخـدمـا

لا يظنن الناظر في هذه الأبيات أن قائلها فقير وقير فإن الأمر بعكس ذلك، لأنه - والله يحوطه - رب ضياع واسعة وأملاك جمة، ونعمة كبيرة، وعبيد كثيرة، وإماء وخيل ودواب، وملابس فاخرة وثياب. ومن ذلك: أنه بعد موت أبيه اشترى داراً كانت لأجداده قديماً بثلاثين ألف درهم، ولكن نفسه واسعة، وهمته عالية، والرغبات في الدنيا بالنسبة إلى الراغبين، والشهوة لها على قدر الطالبين. وأنشدني لنفسه بمنزله في التاريخ:

سألزم نفسي الصفح عن كل من جنى

 

علي وأعفو حـسـبة وتـكـرمـا

وأجعل مالي دون عرضـي وقـاية

 

ولو لم يغادر ذاك عندي درهـمـا

وأسلك آثار الألى اكتسبـوا الـعـلا

 

وحازوا خلال الخير ممن تقـدمـا

أولئك قومي المنعمون ذوو النـهـى

 

بنو عامر فاسأل بهم كي تعـلـمـا

إذا ما دعوا عند النـوائب إن دجـت

 

أناروا بكشف الخطب ما كان أظلما

وإن جلسوا في مجلس الحكم خلتهـم

 

بدور ظلام والخـلائق أنـجـمـا

وإن هم ترقوا منبـراً لـخـطـابة

 

فأفصح من يوماً بوعظ تـكـلـمـا

وإن أخذوا أقـلامـهـم لـكـتـابة

 

فأحسن من وشى الطروس ونمنمـا

بأقوالهم قد أوضح الـدر واغـتـدى

 

بأحكامهم علم الشريعة محـكـمـا

دعاؤهم يجلو الـشـدائد إن عـرت

 

وينرل قطر الماء من أفق السـمـا

وقائلة يا ابن العـديم إلـى مـتـى

 

نجود بما تحوي ستصبح معـدمـا؟

فقلت لها: عنـي إلـيك فـإنـنـي

 

رأيت خيار الناس من كان منعـمـا

أبى اللؤم لي أصل كريم وأسرة

 

عقيلية سنوا الندى والتكرمـا

         

وأنشدني لنفسه وقد رأى في عارضه شعرة بيضاء وعمره إحدى وثلاثون سنة:

أليس بياض الأفق في الليل مؤذناً

 

بآخر عمر الليل إذ هو أسفرا؟

كذاك سواد النبت يقرب يبـسـه

 

إذا ما بدا وسط الرياض منوراً

ودخلت إلى كمال الدين المذكور يوماً فقال لي: ألا ترى، أنا في السنة الحادية والثلاثين من عمري، وقد وجدت في لحيتي شعرات بيضاً فقلت أنا فيه:

هنيئاً كمال الدين فضلاً حـبـيتـه

 

ونعماء لم يخصص بها أحد قـبـل

لداتك في شغل بداعـية الـصـبـا

 

وأنت بتحصيل المعالي لك الشغـل

بلغت لعشر من سـنـينـك رتـبة

 

من المجد لا يسطيعها الكامل الكهل

ولما اتاك الحكم والفـهـم نـاشـئاً

 

أشابك طفلاً كي يتم لك الفـضـل