أبو المنهال، أحد العلماء والأدباء والرواة الفهماء، والندامى الظرفاء والشعراء الفصحاء، وكان صاحب أخبار ونوادر، وله معرفة بأيام الناس. وكان طاهر بن الحسين ابن مصعب قد اختصه لمنادمته واختاره لمسامرته. وكان لا يخرج في سفر إلا أخرجه معه، وجعله زميله وأنيسه وعديله، وكان يعجب به.
قال محمد بن داود: ويقال إن سبب اتصاله بطاهر أنه نادى على الجسر بهذه الأبيات في أيام الفتنة ببغداد، وطاهر ينحدر في حراقة دجلة، فسمعها منه فأدخله وأنشده إياها وهي:
عجبت لحراقة بن الحسين |
|
كيف تعوم ولا تغـرق؟ |
وبحران من تحتها واحـد |
|
وآخر من فوقها مطبـق |
وأعجب من ذاك عيدانهـا |
|
وقد مسها كيف لا تورق؟ |
وأصله من حران فبقي مع طاهر ثلاثين سنة لا يفارقه، وكان يستأذنه في الانصراف إلى أهله ووطنه فلا يأذن له ولا يسمح به، فلما مات طاهر ظن أنه قد تخلص وأنه يلحق بأهله ويرجع إلى وطنه، فقربه عبد الله بن طاهر من نفسه وأنزله منزلته من أبيه، وكان عبد الله أديباً فاضلاً عالماً بأخبار الناس، فلما وقف على أدب عوف وفضله تمسك به وأفضل عليه حتى كثر ماله، وحسن حاله، وتلطف بجهده أن يأذن له عبد الله في العود إلى وطنه فلم يكن إلى ذلك سبيل، وحفزه الشوق إلى أهله وأهمه أمرهم، فاتفق أن خرج عبد الله من بغداد يريد خراسان، فصير عوفاً عديله يستمتع بمسامرته، ويرتاح إلى محادثته إلى أن دنا من الري، فلما شارفها سمع صوت عندليب يغرد بأحسن تغريد وأشجى صوت، فأعجب عبد الله بصوته، والتفت إلى عوف بن محلم فقال له: يا بن محلم، هل سمعت قط أشجى من هذا الصوت وأطرب منه؟ فقال: لا والله أيها الأمير، وإنه لحسن الصوت، شجي النغمة، مطرب التغريد، فقال عبد الله: قاتل الله أبا كبير حيث يقول:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضـر |
|
وغصنك مياد ففيم تـنـوح؟ |
أفق لا تنح من غير شيء فإنني |
|
بكيت زماناً والفؤاد صـحـيح |
ولوعاً فشطت غربة دار زينب |
|
فها أنا أبكي والفـؤاد قـريح |
فقال عوف: أحسن والله أبو كبير وأجاد ثم قال: أصلح الله أمير المؤمنين - إنه كان في الهذليين مائة وثلاثون شاعراً ما فيهم إلا مفلق، وما كان فيهم مثل أبي كبير فإنه كان يبع في شعره، ويفهم آخر قوله وأوله، وما شيء أبلغ في الشعر من الإبداع فيه.
قال عبد الله: أقسمت عليك إلا أجزت شعر أبي كبير؟ قال عوف: أصلح الله الأمير، قد كبر سني، وفني ذهني، وأنكرت كل ما كنت أعرفه. قال عبد الله: سألتك بحق طاهر إلا فعلت؟ وكان لا يسأل بحق طاهر شيئاً إلا ابتدر إليه لما كان يوجبه له، فلما سمع عوف ذلك أنشأ يقول:
أفي كـل عـام غـربة ونـزوح |
|
أما للنوى مـن ونـية فـتـريح؟ |
لقد طلح البين المشـت ركـائبـي |
|
فهل أرين البين وهـو طـلـيح؟ |
وأرقني بالـري نـوح حـمـامة |
|
فنحت وذو البث الغـريب ينـوح |
على أنها ناحت ولم تـذر دمـعة |
|
ونحت وأسراب الدموع سـفـوح |
وناحت وفرخاها بحيث تراهـمـا |
|
ومن دون أفراخي مهامـه فـيح |
ألا يا حمام الأيك إلفك حـاضـر |
|
وغصنك مياد فـفـيم تـنـوح؟ |
عسى جود عبد الله أن يعكس النوى |
|
فيلقي عصا التطواف وهي طريح |
إن الغنى يدني الفتى من صديقـه |
|
وعدم الغنى بالمقتـرين طـروح |
قال: فاستعبر عبد الله ورق له، وجرت دموعه وقال له: والله إني لضنين بمفارقتك، شحيح على الفائت من محاضرتك، ولكن والله لا أعملت معي خفاً ولا حافراً إلا راجعاً إلى أهلك، ثم أمر له بثلاثين ألف درهم. فقال يمدح عبد الله وأباه:
يا بن الذي دان له المشـرقـان |
|
وألبس الأمن به المـغـربـان |
إن الثمانـين، وبـلـغـتـهـا |
|
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان |
وأبدلتني بالشطـاط الـحـنـا |
|
وكنت كالصعدة تحت السنـان |
وعوضتني من زماع الفـتـى |
|
وهمتي هم الجبـان الـهـدان |
وقاربت مني خطىً لم تـكـن |
|
مقاربات وثنت مـن عـنـان |
وأنشأت بينـي وبـين الـورى |
|
عنانة من غير نسج العـنـان |
ولم تدع في لمـسـتـمـتـع |
|
إلا لساني وبحسبـي لـسـان |
أدعو به الـلـه وأثـنـي بـه |
|
على الأمير المصعبي الهجان |
وهمت بالأوطان وجداً بـهـا |
|
وبالغواني أين مني الغـوان؟ |
فقربانـي بـأبـي أنـتـمـا |
|
من وطني قبل اصفرار البنان |
وقبل منعـاي إلـى نـسـوة |
|
أوطانها حران والـرقـتـان |
سقى قصور الشاذياخ الـحـيا |
|
من بعد عهدي وقصور الميان |
فكم وكم من دعوة لي بـهـا |
|
بأن تخطاها صروف الزمان؟ |
وهذه قصور بخراسان بناحية نيسابور لآل طاهر، ثم ودع عبد الله وسار راجعاً إلى أهله فمات قبل أن يصل إليهم. وقد روى في خبر هذه الأبيات أن عوف بن محلم دخل على عبد الله بن طاهر فسلم عبد الله عليه فلم يسمع فأعلم بذلك فزعموا أنه أنحل هذه القصيدة، وكان قد ورد على عبد الله بن طاهر شاعر يقال له روح وعرض على عوف شعره، فمنعه من إنشاده عبد الله وقال: إن عبد الله رجل فاضل لا ينفق عليه من الشعر إلا أحسنه. فقال له قد حسدتني وتوصل حتى أنشده عبد الله فاسترذله واستبرده ورده، فبلغ ذلك عوفاً فقال:
أنشدنـي روح مـديحـاً لـه |
|
فقلت شعراً قال لـي فـيش |
فصرت لما أن بدا منـشـداً |
|
كأنني فـي قـبة الـخـيش |
وقلت: زدني وتفـهـمـتـه |
|
والثلج في الصيف من العيش |