باب الفاء - الفتح بن خاقان بن أحمد القائد

الفتح بن خاقان بن أحمد القائد

وقيل: الفتح بن خاقان بن غرطوج، كذا قال المرزباني في كتاب المعجم، قال محمد بن إسحق النديم: كان في نهاية الذكاء والفطنة وحسن الأدب وكان من أولاد الملوك، واتخذه المتوكل أخاً وكان يقدمه على جميع أولاده. قتل مع المتوكل ليلة قتل بالسيوف لأربع خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين بالمتوكلية، وكانت له خزانة كتب جمعها له علي بن يحيى المنجم لم ير أعظم منها كثرة وحسناً. وكان يحضر داره فصحاء الأعراب وعلماء الكوفيين والبصريين. قال أبو هفان: ثلاثة لم أر قط ولا سمعت بأكثر محبة للكتب والعلوم من الجاحظ، والفتح بن خاقان، وإسماعيل بن إسحاق القاضي.

قال المؤلف: وباقي القصة في أخبار الجاحظ فكرهت التكرار. وللفتح من التصانيف: كتاب البستان صنفه رجل يعرف بمحمد بن عبد ربه، ويلقب برأس البغل ونسبه إليه، كتاب الصيد والجوارح. وذكره أبو القاسم في تاريخ الشام فقال: الفتح بن خاقان بن غرطوج التركي أبو محمد قدم الشام مع المتوكل معادله على جمازة، ثم نزل بالمزة فلما رحل المتوكل عن دمشق استخلف بها كلباتكين التركي. وكان على خاتم المتوكل وقتل معه. روى عنه أبو زكريا يحيى بن حكيم الأسلمي شيئاً من شعره وأبو العباس المبرد، وأحمد بن يزيد المؤدب، فلم يذكره الخطيب في تاريخه. وعن محمد بن القاسم قال: دخل المعتصم يوماً إلى خاقان بن غرطوج يعوده فرأى الفتح بن خاقان ابنه وهو صبي لم يتغد فمازحه ثم قال: أيما أحسن داري أم داركم؟ فقال الفتح بن خاقان: يا سيدي دارنا إذا كنت فيها أحسن، فقال المعتصم: لا أبرح والله حتى أنثر عليه مائة ألف درهم وفعل ذلك. وعن أبي العباس المبرد قال: أنشد الفتح بن خاقان:

لست مني ولست منك فدعني

 

وامض عني مصاحباً بسلام

وإذ ما شكوت ما بي قالـت

 

قد رأينا خلاف ذا في المنام

فزاد الفتح بن خاقان:

لم تجد علة تجنى بها الذن

 

ب فصارت تعتل بالأحلام

قال المبرد وسمعت الفتح ينشد قبل أن يقتل بساعات هذا البيت وهو:

وقد يقتل الغتمي مـولاه غـيلة

 

وقد ينبح الكلب الفتى وهو غافل

وكان الفتح يتعشق خادماً للمتوكل اسمه شاهك، وله فيه أشعار منها:

أشاهك، ليلي مذ هجرت طويل

 

وعيني دماً بعد الدموع تسـيل

وبي منك والرحمن ما لا أطيقه

 

وليس إلى شكوى إليك سبـيل

أشاهك لو يجزى المحب بـوده

 

جزيت ولكن الوفـاء قـلـيل

قال ابن حمدون: كان الفتح بن خاقان يأنس بي ويطلعني على الخاص من سره، فقال لي مرة: شعرت يا أبا عبد الله، إني انصرفت البارحة من مجلس أمير المؤمنين، فلما دخلت منزلي استقبلتني فلانة يعني جاريته فلم أتمالك أن قبلتها، فوجدت ما بين شفتيها هواء لو رقد المخمور فيه لصحا، فكان هذا من مستحسن كلام الفتح، فكأن الوأواء الدمشقي سمع هذا حين قال:

سقى الله ليلاً طاب إذ زار طيفه

 

فأفنيته حتى الصباح عـنـاقـا

يطيب نسيم منه يستجلب الكرى

 

ولو رقد المخمور فيه أفـاقـا

تملكني لما تملك مـهـجـتـي

 

وفارقني لما أمنـت فـراقـا

ووجدت في بعض المجاميع للفتح بن خاقان يصف الورد:

أما ترى الورد يدعو الشاربين إلى

 

حمراء صافية في لونها صنـب

مداهن مـن يواقـيت مـركـبة

 

على الزمرد في أجفانها ذهـب

خاف الملال إذا طالت إقامـتـه

 

فصار يظهر أحياناً ويحتـجـب

كان أديباً فاضلاً، زكي النفس حسن العشرة، لطيف الأخلاق، متودداً محبباً إلى كل من يكلمه، وكان غاية في الجود، وكان قد تنزل من المتوكل بمنزلة الروح من الجسد، وكان خدم قبله المعتصم والواثق. فذكر أبو العيناء قال: قال الفتح بن خاقان: غضب علي المعتصم ثم رضي عني وقال لي: ارفع حوائجك لتقضى، فقلت: يا أمير المؤمنين، ليس شيء من عرض الدنيا وإن جل، يفي برضا أمير المؤمنين وإن قل. قال: فأمر فحشي فمي جوهراً. أخبرني أبو عبد الله محمد بن محمود بن النجار الحافظ قال: أخبرني أبو القاسم الثعلبي، حدثنا الفضل بن سهل، حدثنا الخطيب أبو بكر، أخبرنا محمد بن محمد بن المظفر السراج، حدثنا المرزباني، أخبرني محمد بن يحيى الصولي، حدثني أحمد بن عبد الرحمن، حدثني وهب بن وهب بن وهب، حدثني البحتري قال: قال المتوكل: قل في شعراً وفي الفتح، فإني أحب أن يحيا معي ولا أفقده فيذهب عيشي، ولا يفقدني فيذل، فقل في هذا المعنى، فقلت أبياتي:

سيدي أنت كيف أخلفت وعدي

 

وتثاقلت عن وفاء بعـهـدي

فقلت فيها:

لا أرتني الأيام فقـدك يا فـت

 

ح ولا عرفتك ما عشت فقدي

أعظم الرزء أن تقدم قبـلـي

 

ومن الرزء أن تؤخر بعـدي

حسداً أن تكون إلفاً لـغـيري

 

إذ تفردت بالهوى قبل وحدي

قال البحتري: فقتلا معاً وكنت حاضراً وربحت هذه الضربة، وأومأ إلى ضربة في ظهره فقال: أحسنت والله يا بحتري وجئت بما في نفسي، وأمر لي بألف دينار. وقال غير وهب الراوي للخبر: قال البحتري: قد كنت عملت هذه الأبيات في غلام كنت أكلف به، فلما أمرني المتركل بما أمر تنحيت فقلت الأبيات، وأريته أنني عملتها في وقتي وما غيرت فيها إلا لفظة واحدة، فإنني كنت قد قلت:

لا أرتني الأيام فقدك ما عشت

فجعلته يا فتح. ويحدث الشمشاطي علي بن محمد، حدثني محمد بن عبد الله، حدثني أحمد بن الفضل الهاشمي، حدثنا علي بن الجهم القرشي قال: دخلت على المتوكل يوماً وهو جالس وحده، فسلمت عليه فرد السلام وأجلسني فحانت مني التفاتة فرأيت الفتح بن خاقان واقفاً في غير رتبته التي كان يقوم فيها متكئاً على سيفه مطرقاً، فأنكرت حاله فكنت إذا نظرت إليه نظر إلى الخليفة، فإذا صرفت وجهي نحو الخليفة أطرق، فقال: يا علي، أأنكرت شيئاً؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. فقال: ما هو؟ قلت: وقوف الفتح في غير رتبته التي كان يقوم فيها.

قال: سوء اختياره أقامه ذلك المقام. قلت: ما السبب يا أمير المؤمنين؟ قال: خرجت من عند قبيحة آنفاً فأسررت إليه سراً فما عداني السر إذ عاد إلي.

قلت: لعلك أسررته إلى غيره يا أمير المؤمنين؟ قال: ما كان هذا. قلت: فلعل مستمعاً استمع عليكما. قال: ولا هذا أيضاً. قال: فأطرقت ملياً ثم رفعت رأسي فقلت: يا أمير المؤمنين، قد وجدت له مما هو فيه مخرجاً. قال: ما هو؟ قلت: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، حدثنا المستمر بن سليمان عن أبي الجوزاء قال: طلقت امرأتي في نفسي وأنا في المسجد ثم انصرفت إلى منزلي، فقالت لي امرأتي: أطلقتني يا أبا الجوزاء؟ قلت: من أين لك هذا؟ قالت: خبرتني جارتي الأنصارية، قلت: ومن خبرها بذلك؟ قالت: ذكرت أن زوجها خبرها بذلك. فغدوت على ابن عباس فقصصت عليه القصة فقال: علمت أن وسواس الرجل يحدث وسواس الرجل، فمن ههنا يفشو السر.

قال أبو النعيم: فكان في نفسي من هذا شيء حتى حدثني حمزة الزيات قال: خرجت سنة من السنين أريد مكة، فلما جزت في بعض الطريق ضلت راحلتي، فخرجت أطلبها فإذا باثنين قد قبضا علي، أحس حسهما وأسمع كلامهما ولا أرى شخصهما، فأخذاني وجاءا بي إلى شيخ قاعد على تلعة من الأرض حسن الشيبة فسلمت عليه فرد علي السلام، فأفرخ روعي ثم قال: من أين وإلى أين؟ فقلت: من الكوفة أريد مكة. قال: ولم تخلفت عن أصحابك؟ فقلت: ضلت راحلتي فجئت أطلبها، فرفع رأسه إلى قوم على رأسه فقال: زاملة، فأنيخت بين يدي، ثم قال لي: أتقرأ القرآن؟ قلت: هاته. فقرأت حم الأحقاف حتى انتهيت إلى هذه الآية: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن)، الآية، فقال لي: على رسلك تدري كم كانوا؟قلت: اللهم لا، قال: كنت أربعة وكنت المخاطب لهم عنه صلى الله عليه وسلم. فقلت: يا قومنا أجيبوا داعي الله. ثم قال لي: أتقول الشعر؟ قلت: اللهم لا. قال: أفترويه؟ قلت: نعم. قال: هاته، فأنشدته قصيدة:

أمن أم أوفى دمنة لم تكلم

 

بحومانة الدراج فالمتثلم

فقال: لمن هذه؟ فقلت: لزهير بن أبي سلم، قال: الجني؟ قلت: بل الإنسي مراراً، فرفع رأسه إلى قوم على رأسه، فقال: زهير: فأتي بشيخ كأنه قطعة لحم فألقي بين يديه فقال له: يا زهير، قال: لبيك، قال: أمن أم أوفى، لمن؟ قال: لي. قال: هذا حمزة الزيات يذكر أنها لزهير بن أبي سلمى الإنسي، قال: صدق هو، وصدقت أنت. قال: وكيف هذا؟ قال: هو إلفي من الإنس، وأنا تابعه من الجن، أقول الشيء فألقيه في وهمه، ويقول الشيء فآخذه عنه، فأنا قائلها في الجن، وهو قائلها في الإنس. قال أبو نعيم: فصدق عندي هذا الحديث حديث أبي الجوزاء: أن وسواس الرجل يحدث وسواس الرجل، فمن ههنا يفشو السر.

قال: فاستفرغ المتوكل ضحكاً وقال: إلي يا فتح، فصب عليه خلعاً، وحمل على شيء من الظهر، وأمر له بمال وأمر لي بدون ما أمر له به، فانصرفت إلى منزلي وقد شاطرني الفتح ما أخذ، فصار الأكثر إلي والأقل عنده، قال جحظة في أماليه: حدثني المبرد قال: أنشدني الفتح بن خاقان لنفسه:

وإني وإياها لكالخمر والـفـتـى

 

متى يستطع منهـا الـزيادة يزدد

إذا ازددت منها ازددت وجداً بقربها

 

فكيف احتراس من الهوى متجدد؟

قال: فحدثني ابن حمدون قال: لما قال الفتح هذه الأبيات أنشدتها المتوكل فسألني عن قائلها، فعرفت أنه الفتح فاستحسنها وقال لي: بأبي أنت من جامع محاسن الدنيا. وبلغ هذا الشعر أبا علي البصير الفضل بن جعفر فقال في الفتح:

سمعت بأشعار الملوك فكلهـا

 

إذا عض متنيه الثقاف تـأودا

سوى ما رأينا لامرئ القيس أننا

 

نراه إذا لم يشعر الفتح أوحـدا

قال المرزباني: ومن شعر الفتح بن خاقان:

بني الحب على الجور فلو

 

أنصف المحبوب فيه لسمج

ليس يستملح في حكم الهوى

 

عاشق يحسن تأليف الحجج

قال المؤلف: وهذان البيتان يرويان لعلية بنت المهدي. قال المرزباني: وللفتح بن خاقان:

أيها العاشق المعذب صبـراً

 

فخطايا أخي الهوى مغفوره

زفرة في الهوى أحط لذنب

 

من غزاة وحجة مبـروره

وقال عمران بن موسى: سمعت الفتح بن خاقان يقول لأحمد بن أبي فنن الشاعر: يا أحمد، قال: لبيك يا سيدي، وهذا في أول سنة سبع وأربعين ومائتين، اعمل أبياتاً حساناً تمدح بها سيدي أمير المؤمنين، واذكر في آخرها أنس شفيعك حتى آخذ لك منه ما يسد خلتك، فما أسرع فقدك لي! فبكى ابن أبي فنن، قال: يا سيدي على الدنيا بعدك لعة الله. قال له: على الدنيا قبلي وبعدي لعنة الله، فما صافت منحرفاً عنها نابذاً لها، ولا وفت لمتمسك بها راغب فيها أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي: حدثنا العباس بن الفضل الربعي، حدثنا علي بن الجهم قال: إني لعند المتوكل يوماً والفتح بن خاقان حاضر إذ قيل له: فلان النخاس بالباب، فأذن له فدخل ومعه وصيفة فقال له أمير المؤمنين: ما صناعة هذه الوصيفة؟ قال: تقرأ بالألحان، فقال الفتح: اقرئي لنا خمس آيات، فاندفعت تقول:

قد جاء نصر الله والفتح

 

وشق عنا الظلمة الصبح

خدين ملك ورجـا دولة

 

وهمه الإشفاق والنصح

الليث إلا أنـه مـاجـد

 

والغيث إلا أنه سـمـح

وكل باب للندى مغلـق

 

فإنما مفتاحه الـفـتـح

قال: فوالله لقد دخل المتوكل من السرور ما قام إلى الفتح فوقع عليه يقبله ووثب الفتح فقبل رجله، فأمره أمير المؤمنين بشرائها، وأمر له بجائزة وكسوة وبعث بها إلى الفتح، فكانت أحظى جواريه عنده، فلما قتل الفتح رثته بهذه الأبيات:

قد قلت للموت حين نـازلـه

 

والموت مقدامة على البهـم

لو تبينت ما فـعـلـت إذن

 

قرعت سنا عليه مـن نـدم

فاذهب بمن شئت إذ ذهبت به

 

ما بعد فتح للموت من ألـم

ولم تزل تبكي وتنوح عليه حتى ماتت.