باب الفاء - الفتح بن محمد بن عبيد الله بن خاقان

الفتح بن محمد بن عبيد الله بن خاقان

القيسي الإشبيلي، وقيل: هو من أهل الأندلس، أديب فاضل شاعر بليغ فصيح بذيء اللسان قوي الجنان في هجاء الأعيان، وكان متهم الخلوة فيما بلغني، مات في حدود سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة  وقال العماد: سألت عنه بمصر فقيل: إنه عاش بالمغرب إلى عهد شاور بمصر، فقد توفي بعد سنة خمس وخمسين وخمسمائة. وقال لي بعض المغاربة: إنه توفي قبل هذا التاريخ. له من التصانيف: كتاب قلائد العقيان، كتاب مطمح الأنفس ومسرح التأنس.

حدثني الصاحب الكبير العالم جمال الدين بن أكرم - أدام الله علوه - قال: لما عزم ابن خاقان على تصنيف كتاب قلائد العقيان جعل يرسل إلى كل واحد من ملوك الأندلس ووزرائها وأعيانها من أهل الأدب والشعر والبلاغة يعرفه عزمه ويسأله إنفاذ شيء من شعره ونظمه ونثره ليذكره في كتابه، وكانوا يعرفون شره وثلبه فكانوا يخافونه وينفذون إليه ذلك وصرر الدنانير، فكل من أرضته صلته أحسن في كتابه وصفه وصفته، وكل من تغافل عن بره هجاه وثلبه، وكان ممن تصدى له وأرسل إليه، أبو بكر بن باجة المعروف بابن الصائغ، وكان وزير ابن فلويت صاحب المرية، وهو أحد الأعيان وأركان العلم والبيان، شديد العناية بعلم الأوائل، مستول على أهل الأشعار والرسائل، وكانوا يشبهونه بالمغرب بابن سينا بالمشرق، وله تصانيف في المنطق وغيره، فلما وصلته رسالته تهاون بها ولم يعرها طرفه، ولا لوى نحوها عطفه وذكر ابن خاقان بسوء فعله، فجعله ختم كتابه، وصيره مقطع خطابه وقال: أبو بكر الصائغ: هو رمد جفن الدين وكمد نفوس المهتدين، اشتهر سخفاً وجنوناً، وهجر مفروضاً ومسنوناً، وضل فيما يتسرع، ولا يأخذ في غير الأباطيل ولا يشرع، ولا يرد سوى الغمة ولا يكرع، ناهيك من رجل ما تطهر من جنابة، ولا أظهر مخيلة إنابة، ولا استنجى من حدث، ولا أشجى فؤاده توار في جدث، ولا أقر بباريه ومصوره، ولا فر عن تباريه في ميدان تهوره، والإساءة إليه أجدى من الإحسان، والبهيمة عنده أهدى من الإنسان، نظر في تلك التعاليم، وفكر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله العلي العظيم، ونبذه وراء ظهره ثاني عطفه، وأراد إبطال ما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، واقتصر على الهيئة، وأنكر أن تكون إلى الله الفيئة، وحكم للكواكب بالتدبير، فهو يعتقد أن الزمان دور، وأن الإنسان نبات له نور، مع منشأ وخيم ولؤم أصل وخيم، وصورة شوهها الله وقبحها، وطلعة إذا أبصرها الكلب نبحها، وقذارة يوبئ البلاد نفسها، ووضارة يحكي الحداد دنسها، وله نظم أجاد فيه بعض الإجادة، وشارف الإحسان أو كاده، مع كلام طويل، وهجو وبيل، وبلغ ذلك ابن الصائغ فأنفذ له مالاً استكفه به واستصلحه. وصنف ابن خاقان كتاباً آخر سماه: مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ذيل شعراء الأندلس، وصله بقلائد العقيان، وافتتحه يذكر ابن الصائغ وأثنى عليه فيه ثناءً جميلاً فقال: الوزير أبو بكر بن الصائغ هو بدر فهم ساطع، وبرهان علم لكل حجة قاطع، تفرحت بعطره الأعصار، وتطيبت بذكره الأمصار، وقام به وزن المعارف واعتدل، ومال وتهدل، وعطل بالبرهان التقليد، وينفق بعد عدمه الاختراع والتوليد، إذا قدح زند فهمه أورى بشرر للجهل محرق، وإن طما بحر خاطره فهو لكل شيء مغرق، مع نزاهة النفس وصونها، وبعد الفساد من كونها، والتحقيق الذي هو للإيمان شقيق، والجد الذي يخلق العمر وهو مستجد، وله أدب يود عطارد أن يلتحفه، ومذهب يتمنى أن يعرفه، ونظم تتمناه اللبات والنحور، وتدعيه مع نفاسة جوهرها البحور. وقد أتيت بما تهوى الأعين النجل أن يكون إثمدها، ويزيل من النفس حزنها وكمدها، فمن ذلك قوله يتغزل:

أسكان نعمـان الأراك تـيقـنـوا

 

بأنكم في ربع قلـبـي سـكـان

ودوموا على حفظ الوداد فطالمـا

 

بلينا بأقوام إذا استحفظوا خانـوا

سلوا الليل عني مذ تناءت دياركـم

 

هل اكتحلت لي فيه بالنوم أجفان؟

وهل جردت أسياف برق دياركـم

 

فكانت لها إلا جفوني أجـفـان؟

وله:

أتأذن لي آتي العقـيق الـيمـانـيا

 

أسائله ما للمغـانـي ومـالـيا؟

وسل دارهم بالحزن أقفر إنـنـي

 

تركت الهوى يقتاد فضل زمامـيا

فيا مكرع الوادي أما فـيك شـوبة

 

لقد سال فيك الماء أزرق صافيا؟

ويا شجرات الجزع هل فيك وقفة

 

فقد فاء فيك الفيء أخضر ضافيا؟

وقد جرى في هذا الميدان فأحسن كل الإحسان.