باب الفاء - الفضل بن الحباب

الفضل بن الحباب

بن محمد بن شعيب ابن صخر الجمحي يكنى أبا خليفة من أهل البصرة، قال أبو الطيب اللغوي: هو ابن أخت محمد بن سلام الجمحي من رواة الأخبار والأدب والأشعار والأنساب، مات في شهر ربيع الأول من سنة خمس وثلاثمائة بالبصرة، وكان قد ولي القضاء بالبصرة وكان أعمى، روى عن خاله كتبه فأكثر وعن غيره، وروى له من الكتب: كتاب طبقات شعراء الجاهلية، كتاب الفرسان، وكان شاعراً. فمن شعره ما أنشد محمد بن عمر بن عثمان البغدادي عنه.

قالوا: نراك تطيل الصمت قلت لهم:

 

ما طول صمتي من عي ولا خرس

لكنه أحـمـد الأمـرين عـاقـبة

 

عندي وأبعده من منطق شـكـس

أأنشر البز فيمـن لـيس يعـرفـه

 

أو أنثر الدر للعميان في الغـلـس

قالوا: نراك أديباً لست ذا خـطـل

 

فقلت: هاتوا أروني وجه مقتبـس

لو شئت قلت ولكـن لا أرى أحـداً

 

يروي الكلام فأعطيه مدى النفـس

وقد روى من جهة أخرى أن هذه الأبيات لابن دريد لما نول سيراف سئل أن يجلس للقراءة عليه فأبى ذلك إن لم يكن هناك من يساوي أن يجلس له، فكتب هذه الأبيات في قبلة مسجد سيراف وانصرف.

نقلت من خط أبي سعد السمعاني بإسناد له قال: ألقيت رقعة إلى أبي خليفة الفضل بن الحباب القاضي فيها:

قل للحكيم أبي خـلـيفـه

 

يا زين شيعة ابي حنيفـه

إني قـصـدتـك لـلـذي

 

كاتمت من حذر وخـيفـه

ماذا تـقـول لـطـفـلة

 

في الحسن منزلها شريف؟

تصبو إلـى زين الـورى

 

من غير ما بأس عفـيفـه

فقرأ الرقعة ثم كتب على ظهرها:

يا من تكامل ظرفـهـا

 

حال الهوى حال شريفه

إن كنت صادقة الـذي

 

كاتمت من حزن وخيفه

فلك السعادة والشـهـا

 

دة والجلالة يا شريفـه

هذا النصاح بـعـينـه

 

وبه يقول أبو حنـيفـه

نقلت من خط الإمام الحافظ حقاً صديقنا ومفيدنا أبي نصر عبد الرحيم بن النفيس بن وهبان من كتاب الإرشاد في معرفة علماء الحديث تصنيف الخليل بن عبد الله بن محمد الحافظ القاضي، أنشدني الصاحب إسماعيل بن عباد الوزير، أنشدني أبي، أنشدني أبو خليفة لنفسه:

شيبان والكبش حدثـانـي

 

شيخان بالله عـالـمـان

قالا: إذا كنت فاطـمـياً

 

فاصبر على نكبة الزمان

قال: إني سألت أبا خليفة عن الكبش من هو؟ قال: أبو الوليد الطيالسي، وشيبان هو ابن فروخ الأبلي، قال الخليل: قلت لعبد الله بن محمد: هذا يدل على أن أبا خليفة كان يميل إلى التشيع، فقال: نعم. قرأت بخط أبي سعد أيضاً بإسناد له إلى أبي سهل هارون بن أحمد بن هارون الأستراباذي قال: أنشدنا الفضل بن الحباب الجمحي القاضي لنفسه:

ومتعب السفر مرتـاح إلـى بـلـد

 

والموت يرصده في ذلك الـبـلـد

وضاحك والمنايا فـوق هـامـتـه

 

لو كان يعلم غيباً مات مـن كـمـد

آماله فوق ظهر النـجـم شـامـخة

 

والموت من تحت إطليه على الرصد

من كان لم يعط علماً في بقـاء غـد

 

ماذا تفكره في رزق بـعـد غـد؟

قرأت في كتاب هراة للفامي قال: روى عن محمد بن إبراهيم بن عبدويه بن سدوس بن علي أبي عبد الله المسندي أنه قال: كنا عند أبي خليفة القاضي بالبصرة، فدخل عليه اللص داره فصاح ابنه باللص، فخرج أبو خليفة إلى صحن الدار وقال: أيها اللص، مالك ولنا؟ إن أردت المال فعليك بفلان وفلان، إنما عندنا قمطران: قمطر فيه أحاديث، وقمطر فيه أخبار، إن أردت الحديث حدثناك عن أبي الوليد الطيالسي، وأبي عمر الجوصي وابن كثير وهو محمد وإن أردت الأخبار أخبرناك عن الرياشي عن الأصمعي ومحمد بن سلام. فصاح ابنه إنما كان كلباً. فقال: الحمد لله الذي مسخه كلباً ورد عنا حربا.

وذكر التنوخي هذه الحكاية وقال في آخرها: فقال له غلامه: يا مولاي، ليس إلا الخير، إنما هو سنور. فقال أبو خليفة: الحمد لله الذي مسخه هراً وكفانا شراً.

قال المؤلف: ومثل هذه الحكاية تحكى عن أبي حية النميري مشهورة عنه وقال في آخرها: الحمد لله الذي يمسخه كلباً وردنا حرباً.

وقرأت في كتاب أبي علي التنوخي.

حدثني أبي رضي الله عنه: أن صديقاً لأبي خليفة القاضي اجتاز عليه راكباً وهو في مسجده فسأله أن ينزل عنده فيحادثه. فقال: أمضي وأعود، فقال له أبو خليفة: إيحاشك فقد، وإيناسك وعد. قال: وكان أبو خليفة كثير الاستعمال للسجع في كلامه، وكان بالبصرة رجل يتحامق ويتشبه به يعرف بأبي الرطل، لا يتكلم إلا بالسجع هزلا كله، فقدمت هذا الرجل امرأته إلى أبي خليفة وهو يلي قضاء البصرة إذ ذاك وادعت عليه الزوجية والطلاق، فأقر لها بهما. فقال له أبو خليفة: أعطها مهرها. فقال أبو الرطل: كيف أعطيها مهرها ولم تقلع مسحاتي نهرها؟. فقال له أبو خليفة: فأعطها نصف صداقها. فقال: لا، أو أرفع بساقها وأضعه في طاقها. فأمر به أبو خليفة فصفع. قال وأخبرني غير واحد أن أبا الرطل هذا، كان إذا سمع رجلاً يقول: لا ننكر لله قدرة، قال هو: ولا للهندبا خضرة.

ولا للزردج صفرة، ولا للنخلة بسرة، ولا للعصفر حمرة، ولا للقفا نقرة.

حدث أبو علي التنوخي حدثني أبو علي الحسن بن سهل بن عبد الله الإيذجي، وكان يخلف أبا علي على القضاء بإيذج ورامهرمز ثم لم يزل على الحكم، ونادم أبا محمد المهلبي في وزارته فغلب عليه، وعلا محله عنده وتخالع وتهتك فيما لا يجوز للقضاة، وكان يدعي بالقضاء ويخاطبه أبو محمد في الوزارة في كتبه بسيدي القاضي، وكان له محل مكين من الأدب. قال: وردت البصرة وأنا حديث السن لأكتب العلم وأتأدب، فلزمني أبو عبد الله المسمعي وكنت أقتصر عليه، فكتب إلي يوماً وقد قرص الهواء:

أيهذا الفتى وأنت فـتـى ال

 

دهر إذا عز أن يقال فتـى

طوبى لمن كان في الشتاء له

 

كاس وكيس وكسوة وكسـا

 وكتب في الرقعة: وقد بقيت كاف أخرى لولا أني أحب تقليل المئونة عليك لذكرتها يعين الكس فبعث إليه بجميع ما التمسه. قال التنوخي: وحدثني قال: كان أبو خليفة القاضي صديقاً لأبي وعمي أيام وفد إلى كور الأهواز في فتنة الزنج، فلما قدمت إلى البصرة قدمتها مع أبي فأنزلنا أبو خليفة داره وأكرمنا وأمكنني من كتبه، فكنت أقرأ عليه كل ما أريد، وأسمع كيف شئت؟ وأكتب وأنسخ لنفسي، وأصوله لي مبذولة، فإذا كان الليل جلسنا وتحادثنا، فربما أحببت القراءة عليه فيجيبني فإذا أضجرته يقول: يا بني روحني فأقطع القراءة، وإذا استراح أخرج من كمه دفتراً من ورق أصفر فيقول: اقرأ علي منه فإنه خطي، وما تقرؤه علي فهو من خط غيري، فكنت أقرأ عليه منه، وكان فيه ديوان عمران بن حطان، فكان يبكي على مواضع منه، فأنشدته ليلة القصيدة التي فيها البيتان المشهوران -:

يا ضربة من تقي ما أراد بـهـا

 

إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكره يوماً فـأحـسـبـه

 

أوفى البرية عند اللـه مـيزانـا

فبكى عليهما لما انتهيت إليهما حتى كاد يغمى، فاستطرفت ذلك وعجبت منه، فلما كان من الغد اجتمعت مع المفجع فحدثته بذلك واغتررت به للأدب واستكتمته إياه فأشاعه وأذاعه وعمل:

أبو خليفة مـطـوي عـلـى دخـن

 

للهاشـمـيين فـي سـر وإعـلان

ما زلت أعرف ما يخفـى وأنـكـره

 

حتى اصطفى شعر عمران بن حطان

وأنشدنيها لنفسي أنشدها غيري، فكتبها عنه بعض أهل الأدب في رقعة لطيفة وجعلها في مقلمته وحضرنا عند أبي خليفة في مجلس عام فنفض الرجل مقلمته وقد أنسي ما فيها فسقطت الرقعة وانصرف الناس ووجدها أبو خليفة وقرأها فاستشاط. وقال ابن الإيذجي: قبحه الله وترحه أشاط بدمي؟ علي بأبي العباس الساعة، يعني والدي، فجاءه وحدثه الحديث، فوقعت في ورطة وكادت الحال أن تنفرج بيني وبين أبي، ومنعني أبو خليفة القراءة واحتشمني، فحملت إليه ثياباً لها قدر، وأهديت إليه من مأكل الجند واعتذرت إليه، فرجع إلي وقبل عذري، وداود تدريسي ومكنني من القراءة عليه، فقرأت كتاب الطبقات وغيره مما كان عنده. وقال: لا أظهر الرضا عنك أو تكذب نفسك، ففعلت ذلك وأعطيت المفجع ثوباً دبيقياً حتى كف عن إنشاد الأبيات وجحدها واعتذر إلى أبي خليفة قال: وقال أبو علي عقيب هذا: أكثر رواة العرب فيما بلغني عنهم إما خوارج وإما شعوبية كأبي عبيدة معمر بن المثنى، وأبي حاتم سهل السجستاني، وفلان وفلان وعدد جماعة. وقرأت بخط ابن مختار اللغوي المصري: أبو خليفة الفضل بن الحباب اشترى جارية فوجدها خشنة فقال: يا جارية، هل من بزاق أو بصاق أو بساق؟، العرب تنقل السين صاداً أو زاياً، فتقول: أبو الصقر والزقر والسقر، فقالت: الحمد لله الذي ما أماتني حتى رأيت حري قد صار ابن الأعرابي يقرأ عليه غرائب اللغة.