باب القاف - القاسم بن الحسين بن محمد أبو محمد الخوارزمي

القاسم بن الحسين بن محمد أبو محمد الخوارزمي

صدر الأفاضل حقاً، وواحد الدهر في علم العربية صدقاً، ذو الخاطر الوقاد، والطبع النقاد، والقريحة الحاذقة، والنحيزة الصادقة، برع في علم الأدب، وفاق في نظم الشعر ونثر الخطب، فهو إنسان عين الزمان، وغرة جبهة هذا الأوان. سألته عن مولده فقال: مولدي في الليلة التاسعة من شعبان سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وحضرت في منزله بخوارزم فرأيت منه صدراً يملأ الصدر، ذا بهجة سنية وأخلاق هنية، وبشر طلق ولسان ذلق، فملأ قلبي وصدري، وأعجز وصفه نظمي ونثري، واستنشدته من قبله فأنشدني لنفسه بمنزله في خوارزم، في سلخ ذي القعدة سنة ست عشرة وستمائة:

يا زمرة الشعراء دعوة ناصح

 

لا تأملوا عند الكرام سماحـا

إن الكرام بأسرهم قد أغلقـوا

 

باب السماح وضيعوا المفتاحا

ورأيته شيخاً، بهي المنظر، حسن الشيبة، كبيرها، سميناً بديناً عاجزاً عن الحركة، وكان له في حلقه حوصلة كبيرة. وقلت له: ما مذهبك؟ فقال: حنفي ولكن لست خوارزمياً لست خوارزمياً يكررها، إنما اشتغلت ببخارى فأرى رأي أهلها، نفى عن نفسه أن يكون معتزلياً رحمه الله. قال: وسألني قاضي القضاة بخوارزم أن أنشئ له أبياتاً يكتبها على جدران دار استحدث بناءها فقلت:

من كان يفخر بالبنيان والـشـرف

 

فليس فخري بغير المجد والشرف

ما قيمة الدار لولا فضل ساكنهـا؟

 

وأي وزن بدون الدر للـصـدف؟

إن كان يعجبني خشب مـسـنـدة

 

فلست أكرم نجل من بني خلـف

قد صح لي باتفاق الناس كـلـهـم

 

رواية العدل والإنصاف عن سلفي

إني لمن معشر كانت معايشـهـم

 

بالقصد أما عطاياهم فبالـسـرف

قوم متى طلعت ليلاً مـآثـرهـم

 

رأيت بدر الدجى في زي منخسف

بدولة الملك الـمـيمـون طـائره

 

أني توجهت فالإقبال مكتنـفـي؟

وأنشدني لنفسه:

أيا سائلي عن كنه علياه إنه

 

لأعطي ما لم يعطه الثقلان

فمن يره في منزل فكأنمـا

 

رأى كل إنسان وكل مكان

وأنشدني لنفسه في أنباء شيخ الإسلام الرستاني، - ورشتان من قرى مرغينان، ومرغينان من بلاد فرغانة: -  

فديت إماماً صيغ من عزة الـنـفـس

 

أنامله والسحب نوعان مـن جـنـس

أشد ارتياحاً نحو طـلـعة مـعـتـف

 

من المفلس الخاوي اليدين إلى الفلس

وأفقه في تدريسـه مـن مـحـمـد

 

وأجود من كعب وأخطب مـن قـس

مناقـب لـو أن الـحـرابـي مـرة

 

بصرن بها استنكفن عن خدمة الشمس

ويغدو على طرف من الشقر كلـمـا

 

رأته إماء الحي وافتـه لـلـقـبـس

على سابح من خلقة الوهـم طـالـع

 

وأهون شيء عـنـده درك الأمـس

فتى ساومته خلـقـه وهـو فـاغـم

 

ولا فغمة المسك، والخرائد للعـرس

له الصفو من ودي وإخـوتـه الألـى

 

غدوا من سهام الزيغ للدين كالتـرس

لفتيان صدق ما اقتنوا طول عمرهـم

 

سوى البحث والإفتاء والوعظ والدرس

لأربعة شادوا الهدى بعـد شـيخـهـم

 

فقد بنى الإسلام منهم على خـمـس

بنور ألهـي عـلـيهـم وزهـدهـم

 

وعلمهم أضـحـوا مـلائكة الأنـس

فعاشوا لترشيح الـهـدى ويراعـهـم

 

بصائبة الأحكام يقطر في الـطـرس

وقال بعض الفضلاء الخراسانية في الإمام صدر الأفاضل يمدحه:

إن للعالمين فـخـراً وزينـاً

 

وجمالاً يجل عن كـل شـين

بفتىً وافر العلـوم نـقـاب

 

مثله ما رأيت قط بعـينـي

ليس ذاك الفتى المـبـرز إلا

 

أفضل الناس قاسم بن الحسين

وحدثني صدر الأفاضل: قال بعض الفضلاء العراقية في وهو من أصحابي:

يقولون إن الأصمـعـي لـبـارع

 

وبالنحو والآداب والشعر عـالـم

كذا ابن دريد والخلـيل وجـاحـظ

 

وكل لدر العلم والفضل نـاظـم

فقلت أجل، قد جل في الناس شأنهم

 

وأفضل منهم صدر خورزم قاسم

وأنشدني صدر الأفاضل لنفسه:

أتحمل مني نحـو ذيالـك الـرشـا

 

سلاماً كصدغيه وحالي مشـوشـا؟

وإني لوجدي أستضيء لذي الحمـى

 

بشعلة أنفاسي إذا الليل أغـطـشـا

ويرحمني العذال حتى يقـول لـي

 

أموقد نار بين جنبـيك أم حـشـا؟

وهل ترد الجرعاء مـنـي بـحـنة

 

على طرفيها رونق العهد قد مشى؟

وإني قد كتـمـت سـري وإنـمـا

 

برغمي صوب المدمعين به فـشـا

كما أن صدر الشرق أخفى سخـاءه

 

ولكنه بشر الجـبـين بـه وشـى

متى جحدت نعماه أنهـض جـوده

 

شهوداً من الإحسان لا تقبل الرشـا

وإن هزه الإطراء ثم تـبـجـسـت

 

أياديه لم يسكر له فقـد انـتـشـا

أيلحقه الوهم القطوف، إذا سـعـى

 

لإدراك غايات العلا متكـمـشـا؟

لك المنهل المسكي ما زال نقـعـه

 

يعلل صلا في يمـينـك أرقـشـا

فيلفظ في منسابـه مـن لـعـابـه

 

حتوفاً وأرزاقاً على حسب ما تشـا

وهو أطول من هذا وحدثني الإمام صدر الأفاضل قال: كتب إلي الصوفي المعروف بالصواف يسألني عن بيت حسان بن ثابت وهو:

فمن يهجو رسول الله منكم

 

ويمدحه وينصره سـواء

وقولهم بأن فيه ثلاثة عشر مرفوعاً فأجبته:

أفدي إماماً وميض البرق منـصـرع

 

من خلف خاطره الوقاد حين خطـا

يبغي الصواب لدينا من مـبـاحـتـه

 

أما درى أن ما يعدو والصواب خطا؟

الذي يحضرني في هذا البيت من المرفوعات اثنا عشر،فمنها قوله: فمن يهجو، فيه ثلاثة مرفوعات، المبتدأ، والفعل، المضارع، والضمير المستكن، ومنها المبتدأ المقدر في قوله ويمدحه، المعنى: ومن يمدحه، فيكون هاههنا على حسب المثال الأول ثلاثة مرفوعات أيضاً، ومنها المرفوعان في قوله وينصره، أحدهما الفعل المضارع، والثاني الضمير المستكن، ومنها المرفوعات الأربعة في قوله سواء، إثنان من حيث إنه في مقام الخبرين للمبتدأين، واثنان آخران من حيث إن في كل واحد ضميراً راجعاً إلى المبتدإ، فهذا يا سيدي جهد المقل وغير مرجو قطع المدى من الكل، فليعذرني سيدي قبل الله معاذيره من المرفوع الثالث عشر، فإنه لعمري قد استكن واستتر حتى لا أعرف عنه عيناً، وكيف يعرف له وجار وقد صار أعزب من العنقاء، وأشد عوزاً من الوفاء.

وأنشدني صدر الأفاضل لنفسه:

سرى ناشداً أنسي قضيب من الآس

 

فناولني الصهباء والشهد في كاس

وأرشدني وهناً لتقـبـيل خـالـه

 

وميض ثناياه وشعلة أنـفـاسـي

ولو لم يكن يلقي على جمر خـده

 

من الطرة السوداء ظلة أنقـاس

إذاً لأضاء الليل حتى انجلت لـنـا

 

هواجس تخفيهن أفـئدة الـنـاس

وكتب الإمام صدر الأفاضل إلى بعض أصدقائه: كتابي إلى المجلس الرفيع جمال الحرمين، إمام الفريقين يديم الله رفعته ثم يديم، وينيم عنه طوارق الحدثان ثم ينيم، وأنا إليه كالصادي إلى قعقعة الجمد، وبجماله كهو بجمال المجد، لا أروي إلا عن فضله وإفضاله ولا أرتوي إلا من ورده وزلاله، ولا أتحسر إلا على ليال وشيتها بجواره، ثم طرزتها بحواره:

إذا ذكرتها النفس باتت كـأنـهـا

 

على حد السيف بين جنبي ينتضى

تولى الصبا والمالكية أعـرضـت

 

وزال التصابي والشباب قد انقضى

رفع الله البين من البين، حتى أرى نضاره في قميص من اللجين.

ومن إنشائه إلى الدار العزيزة ببغداد حرسها الله تعالى: رايات مولانا الصوام القوام أمير المؤمنين وإمام المتقين، وخليفة رب العالمين، الإمام الذي ليس للتابعين غيره إمام، ولا دون عتبته متمسك واعتصام، هي التي لم أزل أدعو الله أن يعقد بعذباتها النصر، ويجعل من أشياعها الذئب والنسر، تسايرها الآمال، وتحل حيثما رفعت الآجال، ويحتف بها الجدود، ويرفرف عليها السعود، وهذا دعاء لو سكت كفيته، وأمل إن لم أسأله فقد أوتيته، مني العبد أن يسعى إلى المواقف المقدسة مسعى القلم، يحبو على رأسه لا على القدم، ليشم بثراها الثرى لخلخة المسك الذكي، ويعفر بها جبينه وأنفه، ويجيل في مسارح الحمد طرفه، ويستلم عتبة بها التف الثقلان، ودانت لها الأيام بعد حران، لكن الحوادث قلما توافقه، والأيام تماكسه في ذلك وتضايقه، وظني بأن الله سوف يريك. ولما ورد الرسم - أعلى نور الله به مشارق الأرض ومغاربها -، تلقاه العبد بالتعظيم والإجلال، ووضعه على قمة الامتثال، وفض ختامه عن الدر المكنون، بل أناسي العيون، وعن مشمول من الرض مجنوب، وكلم على صفحات الدهر مكتوب، فما زالت أعضاؤه تود أن تكون شفاهاً تقبله، وخواطر تتأمله، تمنياً يلذ به المستهام، ويحلو له الغرام، ثم استدعى الأرامل والأيامى فأعطاهم، واستحضر المساكين واليتامى فأغناهم، وأنحى على ما ملكت يمينه من العبيد والأسرى فأعتقهم وأطلقهم شكراً، وسأل الله تعالى أن يديم أكناف العرصة الفيحاء مرتعاً للعزة القعساء، إن شاء الله تعالى.

سنا جبينك مهما لاح في الظـلـم

 

بتنا نطالع منه نسـخة الـكـرم

إن يزرع الناس في أخلافهم كرماً

 

فالبذر من جودك الطنان بالـديم

تبدو على أشقر خظر حـوافـره

 

بحراً يلاطم أمواجاً على ضـرم

تشم عندك صيد العجم لخـلـخة

 

من الرغام بآناف من الـقـمـم

كادت لحبك تأتي وهي سـاعـية

 

على الرءوس بدون الساق كالقلم

من ظن غير نظام الملك ذا كـرم

 

نادى به لؤمه استسمنـت ذا ورم

لما أنشدني هذا البيت قال لي: من نظام الملك؟. قلت: أنت - حرسك الله - قائل الشعر تسألني عن ممدوحك. فقال لي متبسماً: لست تعرفه؟ قلت: لا والله. قال: ولا أنا شهد الله أعرفه، لأني ما تعرضت لمدح أحد قط، ولا رغبت في جداه، ولا أعرف أحداً أفضل علي إلا مرة واحدة، فإن الغربة أحوجتني إليه فلعن الله الغربة. قلت له: وكيف ذلك؟ قال: إني مضيت إلى بخارى طالباً للعلم وقاصداً للقراءة على الرضى، فاجتمع إلي أولا صدر جيهان وغيره فقد أنسيت القصة، فلما حذفوا الأدب برني بسبعين ديناراً ركنية، ووعدني بوعود جميلة، ولولا الحاجة والغربة ما قبلتها منه، ولقد عرض علي الشهاب الحوفي، وهو أحد صدور خوارزم المتقربين من السلطان على أن ينصب لي منصباً ومجلساً بطراحة سوداء إلى جانبه، ويعطيني كل شهر عشرة دنانير لأقرأ الأدب فلم أفعل. قلت: فمن أين مادة الحياة؟ قال لي: خلف لي والدي قدراً يسيراً لا يقنع بمثله إلا أصحاب الزوايا، فأنا أنفقه بالميسور، وأتلذذ بالغنى عن الجمهور، وأنا أقول الشعر والنثر تطرباً لا تكسباً، وأستعير اسماً لا اعرفه:

أفديك ذا منظر بالبشر ملـتـحـف

 

عن اليمين وللإقبال مـبـتـسـم

يد الجلال وشت في لوح جبهتـه:

 

الناس من خولي والدهر من خدمي

ولو أناف على هام السها وطـنـي

 

لما لوت نحوه أجيادها هـمـمـي

على النجى وقفت أيامـه وعـلـى

 

نشر المحامد منه ألـسـن الأمـم

ما جئت أخدمه إلا وقد سـحـقـت

 

يدا تلطفه عطـراً مـن الـشـيم

زف الندى نحوه بكـراً مـخـدرةً

 

لولاه زفت إلى كفن من الـعـدم

يريه شعري نجوم اللـيل طـالـعة

 

والنيرين معاً من مشرق الكـلـم

لا زال مثل هلال العيد حضـرتـه

 

في الحسن واليمن والإقبال والشمم

وعاش للملك يحيمـه وينـصـره

 

فالملك من دونه لحم على وضـم

ودام كاليم للعافين مـلـتـطـمـاً

 

بنانه وهو مرشـوف بـكـل فـم

وله من التصانيف: كتاب المجمرة في شرح المفصل صغير، وكتاب السبيكة في شرحه أيضاً وسط، وكتاب التجمير في شرح المفصل أيضاً بسيط، كتاب شرح سقط الزند كتاب التوضيح في شرح المقامات، كتاب لهجة الشرع في شرح ألفاظ الفقه، كتاب شرح المفرد والمؤلف، كتاب شرح النموذج، كتاب شرح الأحاجي لجار الله، كتاب خلوة الرياحين في المحاضرات، كتاب عجائب النحو، كتاب السر في الإعراب، كتاب شرح الأبنية، كتاب الزوايا والخبايا في النحو، كتاب المحصل للمحصلة في البيان، كتاب عجالة السفر في الشعر، كتاب بدائع الملح، كتاب شرح اليميني للعتبي.