ابن الدهان أبو بكر الضرير النحوي المعروف بالوجيه من أهل واسط، قدم بغداد مع أبيه في صباه فأقام بها إلى أن مات في السادس عشر من شعبان سنة اثنتي عشرة وستمائة - رحمه الله - دفن بالوردية، ومولده في سنة اثنتين وخمسمائة، وهو شيخي الذي به تخرجت وعليه قرأت، وهو قرأ بواسط علي أبي سعيد نصر ابن محمد بن سلم المؤدب وغيره، وأدرك ببغداد ابن الخشاب فأخذ عنه، ولازم الكمال أبا البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري النحوي، وقرأ عليه وتتلمذ له، فهو أشهر شيوخه وسمع منه تصانيفه، وسمع الحديث من طاهر بن محمد المقدسي، وتولى تدريس النحو بالنظامية سنين، فتخرج عليه جماعة كثيرة منهم: حسن بن الباقلاوي الحلي، والموفق عبد اللطيف بن يوسف البغدادي، والمنتخب سالم ابن أبي الصقر العروضي وغيرهم. وكان - رحمه الله - قليل الحظ من التلامذة يتخرجون عليه ولا ينسبون إليه، ولم يكن فيه عيب إلا أنه كان فيه كيس ولين، وكان إذا جلس للدرس يقطع أكثر وقته بالأخبار والحكايات وإنشاد الأشعار حتى يسأم الطالب وينصرف عنه وهو ضجر وينقم ذلك عليه، وكان يحسن بكل لغة من الفارسية والتركية، والحبشية، والرومية، والأرمنية، والزنجية، فكان إذا قرا عليه عجمي واستغلق عليه المعنى بالعربية فهمه إياه بالعجمية على لسانه، وكان حسن التعليم طويل الروح كثير الاحتمال للتلامذة، وكان شاعراً مجيداً، أنشدني لنفسه كثيراً من شعره. منه في التجنيس:
ولو وقعت في لجة البحر قـطـرة |
|
من المزن يوماً ثم شاء لمـا زهـا |
ولو ملك الدنيا فأضحى ملـوكـهـا |
|
عبيداً له في الشرق والغرب ما زها |
وكان قد فوض إلى عضد الدولة أبي الفتوح بن الوزير عضد الدين بن رئيس الرؤساء أمر المخزن المعمور والأعمال التي كانت مفوضة قبله إلى ابن ناصر في عاشر شعبان سنة خمس وستمائة، وخلع عليه في باب الحجرة الشريفة وهو موضع لا يخلع فيه إلا على الوزراء، وركب منه والعالم بين يديه ليمضي إلى منزله، فعثرت به فرسه وسقط من عليها ثم ركبها سالماً من ساعته، فأكثر الناس القول في الطيرة من هذا، فقال الوجيه وأنشدنيه لنفسه:
لا تعذل الفرس التي عـثـرت |
|
بك أمس قبل سماعك العـذرا |
قالت مقالاً لو عـلـمـت بـه |
|
لم تولها هجراً ولا هـجـرا |
لما رأى الأمـلاك أن عـلـى |
|
سرجي فتى أعلى الورى قدرا |
رفعت يدي حتى تقـبـلـهـا |
|
شغفاً بها فوهت يدي الأخرى |
ثم لم يلبث
المذكور إلا يسيراً حتى عزل وألزم بيته.
وأنشدني الوجيه أيضاً لنفسه:
لست أستقبح اقتضاءك بالوع |
|
د وإن كنت سيد الكرمـاء |
فاآله السماء قد ضمن الرز |
|
ق عليه ويقتضي بالدعـاء |
وأنشدني الوجيه أيضاً لنفسه في التجنيس:
لا راح مسترفدي جذلان من صفدي |
|
يوماً ولا عز بي في مشهد جاري |
إن لم تكب على الأذقان أوجهـهـم |
|
سيوف قومي بسيل من دم جـاري |
وحدثني الوجيه - رحمه الله - قال: دخلت يوماً إلى فخر الدين أبي على الحسن بن هبة الله بن الدوامي وهو من علمت أدباً وفضلاً وحسن بشر وكرم سجية، فجلسنا نتذاكر الشعراء إلى أن انتهى بنا الكلام إلى البحتري فأنشد قوله في الفتح بن خاقان:
هب الدار ردت رجع ما أنت قائلة |
|
وأبدى الجواب الربع عما تسائلـه |
إلى قوله:
ولما حضرنا سدة الإذن أخـرت |
|
رجال عن الباب الذي أنا داخله |
بدا لي محمود السجية شـمـرت |
|
سرابيله عنه وطالت حمـائلـه |
كما انتصب الرمح الرديني ثقفت |
|
أنابيبه للطعن واهتز عـامـلـه |
فكالبدر وافته لوقـت سـعـوده |
|
وتم سناه واستهلت مـنـازلـه |
فسلمت واعتاقت جنانـي هـيبة |
|
تنازعني القول الذي أنا قـائلـه |
فلما تأملت الطلاقة وانـثـنـى |
|
إلي ببشر آنستنـى مـخـايلـه |
دنوت فقبلت الندى من يد امـرئ |
|
جميل محياه سبـاط أنـامـلـه |
صفت مثل ما يصفو المدام خلاله |
|
ورقت كما رق النسيم شمائلـه |
فهش الجميع وأخذ كل منهم يصف حسن ألفاظها ورشاقة معانيها وجودو مقاصدها، وجعلوا يقولون: هذا هو السهل الممتنع، والفضل المتسع، والديباج الخسرواني، والزهر الأنيق، وأطنبوا في ذلك وحق لهم فقلت ارتجالاً:
لمن تنظم الأشعار والناس كلـهـم |
|
سواسية إلا امرؤ أنا جاهـلـه؟ |
ولو علموا أن اللهي تفتح اللـهـا |
|
دروا أن ذا الشعر ابن خاقان قائله |
وكان الوجيه قد التزم سماحة الأخلاق وسعة الصدر، فكان لا يغضب من شيء ولم يره أحد قط حردان وشاع ذلك عنه، وبلغ ذلك بعض الحرفاء فقال: ليس له من يغضبه ولو أغضب لما غضب وخاطروه على أن يغضبه، فجاءه فسلم عليه، ثم سأله عن مسألة نحوية، فأجابه الشيخ بأحسن جواب ودله على محجة الصواب فقال له: أخطأت، فأعاد الشيخ الجواب بألطف من ذلك الخطاب، وسهل طريقته وبين له حقيقته فقال له: أخطأت أيها الشيخ، والعجب ممن يزعم أنك تعرف النحو ويهتدي بك في العلوم، وهذا مبلغ معرفتك؟ فلاطفه وقال له: يا بني لعلك لم تفهم الجواب، وإن أحببت أن أعيد القول عليك بأبين من الأول فعلت، قال له: كذبت، لقد فهمت ما قلت، ولكن لجهلك تحسب أنني لم أفهم، فقال له الشيخ وهو يضحك: قد عرفت مرادك ووقفت على مقصودك، وما أراك إلا وقد غلبت، فأد ما بايعت عليه، فلست بالذي تغضبني أبداً. وبعد يا بني فقد قيل: إن بقة جلست ظهر فيل فلما أرادت أن تطير قالت له: استمسك فإني أريد الطيران، فقال لها الفيل: والله يا هذه ما أحسست بك لما جلست، فكيف استمسك إذا أنت طرت؟ والله يا ولدي ما تحسن أن تسأل، ولا تفهم الجواب، فكيف أستفيد منك؟ وحدثني محب الدين محمد بن النجار قال: حضر الوجيه النحوي بدار الكتب التي برباط المأمونية، وخازنها يومئذ أبو المعالي أحمد بن هبة الله، فجرى حديث المعري فذمه الخازن وقال: كان عندي في الخزانة كتاب من تصانيفه فغسلته، فقال له الوجيه: وأي شيء كان هذا الكتاب؟ قال: كان كتاب نقض القرآن. فقال له: أخطأت في غسله، فعجب الجماعة منه وتغامزوا عليه واستشاط ابن هبة الله وقال له: مثلك ينهي عن مثل هذا؟ قال نعم، لا يخلو أن يكون هذا الكتاب مثل القرآن أو خيراً منه أو دونه، فإن كان مثله أو خيراً منه وحاش لله أن يكون ذلك، فلا يجب أن يفرط في مثله، وإن كان دونه وذلك ما لا شك فيه فتركه معجزة للقرآن فلا يجب التفريط فيه. فاستحسن الجماعة قوله ووافقه ابن هبة الله على الحق وسكت.
وكان الوجيه - رحمه الله - حنبلياً ثم صار حنفياً فلما درس النحو بالنظامية صار شافعياً، فقال فيه المؤيد أبو البركات محمد بن أبي الفرج التكريتي ثم البغدادي وكان أحد تلامذته، وسمعته من لفظه غير مرة:
ألا مبلغ عني الوجـيه رسـالة |
|
وإن كان لا تجدي إليه الرسائل |
تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبـل |
|
وذلك لما أعوزتك المـآكـل |
وما اخترت دين الشافعي تدينـاً |
|
ولكنما تهوى الذي هو حاصل |
وعما قليل أنت لا شك صـائر |
|
إلى مالك فافطن لما أنا قـائل |
وأنشدني الوجيه لنفسه في التجنيس
أطلت ملامي في اجتنابي لمعـشـر |
|
طغام لئام جودهم غير مـرتـجـى |
ترى بابهم لا بـارك الـلـه فـيهـم |
|
على طالب المعروف إن جاء مرتجا |
حموا ما لهم والدين والعرض منهـم |
|
مباح فيما يخشون من هجو من هجا |
إذا شرع الأجواد في الجود منهـجـاً |
|
لهم شرعوا في البخل سبعين منهجا |
وأنشدني الوجيه النحوي لنفسه يمدح أبا الفضل مسعود ابن جابر صاحب المخزن
ما مـر يوم ولا شـهـر ولا عـيد |
|
فاخضر فيه لنا من وصلكـم عـود |
عودوا تعد بـكـم الأيام مـشـرقة |
|
وإن أبيتم ففي الأسقام لـي عـودوا |
كم ذا التجني وكم هذا الصدود صلوا؟ |
|
من حظه منكم هـم وتـسـهـيد؟ |
لو تسألوا كيف حالي بعد بعـدكـم؟ |
|
فالحال شاهدة والسقـم مـشـهـود |
لولا التعلل بـالآمـال مـت أسـى |
|
يغنى الزمان وما تفنى المـواعـيد |
ولو شكوت الذي ألقى بـحـبـكـم |
|
إلى الجلاميد رفت لي الجـلامـيد |
يا هذه ما أنام اللـيل مـن ولـهـي |
|
كأنما حاجبي بالجفـن مـعـقـود |
قل اصطباري وزاد الوجد بي فأنـا |
|
بك الشقي وغيري منك مسـعـود |
تلذ في حبك الأيام لـي وأرى الـت |
|
تعذيب عذباً به والقلب مـجـهـود |
كأنك المجد أو بـذل الـنـدى وأنـا |
|
في فرط حبك فخر الدين مسعـود |
مولي إذا السحب ضنت بالحيا فـلـه |
|
في الخلق بحر عظيم الري مورود |
وله مطلع قصيدة في ابن جابر أيضاً:
يا من أقام قيامتي بـقـوامـه |
|
وأطال تعذيبي بطول مطالـه |
أمط اللثام عن العذار تقم بـه |
|
عند العذول عليك عذر الواله |
وارفق ببال في هواك معذب |
|
بجفاك ما خطر السلو ببالـه |
طبع الحبيب على الملال وليته |
|
يوماً يميل إلى ملال ملالـه |
لو كنت تسمع ما أقول وقوله |
|
لعجبت من ذلي لـه ودلالـه |
شدا الرحال عقد تصـبـري |
|
لما سرت أجماله بجمـالـه |
أنشدني الحافظ أبو عبد الله محمد بن النجار صديقنا - حرسه الله - قال: أنشدني شيخنا الوجيه النحوي لنفسه:
أرفع الصوت إن مررت بدار |
|
أنت فيها إذ ما إليك وصـول |
وأحيي من ليس عندي بأهـل |
|
أن يحيا كي تسمعي ما أقول |
وكان ملازماً لدار الوزير عضد الدين أبي الفرج بن رئيس الرؤساء ويبيت ويصبح يقرئ أهله ونال من جهته ثروة، فحدثني عز الدين أبو الحسن علي بن محمود بن محمد المعروف بالسرخسي النحوي قال: حدثني الوجيه قال: اقترحت على بعض حظايا الوزير أن أعمل أبياتاً تكتبها على قميص أصفر فعلمت:
انظر إلى لابسي وانظر إلـى وكـن |
|
من مثل ما حل بي منه على خطـر |
هذا اصفراري يراه الناظرون ومـا |
|
في القلب من حبه يخفي على البصر |
أموت في خلعه بالليل لـي كـمـداً |
|
لولا انتظار وصال منه في السحـر |
أقول عجباً إذا ما رام يلـبـسـنـي |
|
ما كنت أطمع أن أعلو على القمـر |
ونقشتها على القميص ورآه الوزير عليها، فنلت منه بذلك السبب خيراً كثيراً