الصابئ أبو علي ين أبي إسحاق صاحب الرسائل، ووالد هلال بن المحسن صاحب التواريخ والرسائل. كان أديباً فاضلاً بارعاً، قد لقي الأدباء والعلماء وأخذ عنهم كأبي سعيد السيرافي وأبي علي الفارسي وأبي عبيد الله المرزباني. مات في ثامن محرم سنة إحدى وأربعمائة عن ابنه هلال وله شعر حسن من مثله، وكان بوجهه شامة حمراء فكان بعرف بصاحب الشامة، وابنه هلال بن المحسن أعلى منزلة منه. ومات هذا على دين أبيه، وأما ابنه فأسلم على ما ذكرته في بابه، وكان لأبي إسحاق ابن آخر يقال له أبو سعيد سنان ليس بالنبيه، وآخر كنيته أبو العلاء صاعد. ومات أبو سعيد سنان في حياة أبيه في رجب سنة ثمانين. ولمات قبض على أبيه أبي إسحاق قبض معه على ولديه أبي علي هذا وأبي سعيد. فحدث أبو الحسين هلال قال: حدثني أبو علي والدي قال: أمر عضد الدولة أبا القاسم المطهر بن عبد الله وزيره وقال له: أفرج عن ابن أبي إسحاق صاحب الشامة، فإن له قديم خدمة فتقدم بذاك، فثقل على أبي سعيد أخي إطلاقي من دونه، ودمدم على والدنا دمدمة قال له عندها: أي أمر لنا يا بني في نفوسنا؟ أم أي ذنب لي فيما لطف به لأخيك وحرمته؟. ثم عدل إلى مسألتي أن أخرج أسبوعاً ويخرج أسبوعاً، ويقع بيننا مناوبة في ذاك فامتنعت وأبيت ورفق بي رفقاً استحييت معه وأجبت، فكتب أبو إسحاق إلى أبي القاسم المطهر:
ابناي عيناي كف الحبس لحظهما |
|
وعز حسمها عن منظر النـور |
أطلقت لي منهما عيناً وقد بقيت |
|
عين فصرت من الإبنين كالعور |
فسو بينهما في فك أسرهـمـا |
|
مستوفراً منهما من أجر مأجور |
يفديك بالأنفس التي مننت بـهـا |
|
أبوهما وهما من كل محـذور |
فقال المطهر: الأمر إلى الملك، والذي رسم لي إطلاق ولدك صاحب الشامة، ولو كنت مستطيعاً للجمع بينهما لفعلت، بل لم أقنع حتى تكون أنت المطلق، فعاوده وشكره وقال: إذا كان قد أخذ في تخلية واحد فيجوز أن يتناوبا في الخروج وفسح المطهر في ذلك. قال أبو علي: وكانت خدمتي التي راعاها الملك عضد الدولة أن أبا طاهر بن بقية لما أفرج عن أبي إسحاق والدي بعد القبض عليه عقيب خروج عضد الدولة من مدينة السلام استخلفه على أن يعرفه ما يرد عليه من كتبه ويسلم إليه من يجيئه من رسله، فاتفق أن جاء أبو سعد المدبر إليه بكتاب من عضد الدولة وعمل على تسليمه فاجتهدت به ألا يفعل، فخاف وأشفق ولم يقبل وحمله إلى ابن بقية، فتقدم باعتقاله بعد أن ضربه وقرره، وشق ذلك على لما يراعي من عواقبه، وحملني الشباب ونزقه، والاغترار وبواعثه، على أن قمت ليلاً وحملت معي خمسين درهماً في صرة وعشرين درهماً في صرة أخرى، وجئت إلى الحبس متنكراً وعلى رأسي منشفة وقلت للسجان: هذه عشرون درهماً خذها ومكني من الدخول على هذا الجاسوس وأجتمع معه وأخاطبه وأخرج، فأخذها وأدخلني وجئت إلى أبي سعد وتوجعت له مما حصل فيه ووعدته بما أستطيعه من المعاونة على خلاصة ثم قلت له: أنت غريب وربما احتجت إلى شيء وهذه خمسون درهماً اصرفها في نفقتك واستعن بها على أمرك فشكرني وانصرفت، وأظنه ذكر ذلك لعضد الدولة عند خلاصه وعوده إليه، فحصل لي في نفسه ما كانت هذه الحال ثمرته. قرأت بخط أبي علي المحسن في مجموع جمعه لولده هلال ما هذا صورته لبعض المحدثين في عصرنا - وعلى الحاشية بخط ابنه هلال، هذه الأبيات لأبي علي المحسن بن إبراهيم بن هلال رحمه الله -:
أأهجو مجوسياً لو أني أمرتـه |
|
بنيك أمه جهـر إذا تـأثـمـا |
إذا ذكرت يوماً له ريع قلـبـه |
|
وأنعظ مشتاقاً إليها مـتـيمـاً |
يحن إليهـا حـنـتـين لأنـه |
|
يكون لها بعلاً وكان لها ابنمـا |
قضاها رضاع الثدي منه بأيره |
|
ففر لها فرجاً وفرت له فمـا |
فإن طرقت بالحمل يوماً فإنمـا |
|
يكون أخاً وابناً له كلما انتمـى |
ينيك الاقاصي والأداني محلـلاً |
|
بذلك ما كان الإله محـرمـا |
إذا ماذوو الأديان صلوا لربهـم |
|
تقدم يهذي في الصلاة مزمزما |
ويخرج مما كلفوا من مشـقة |
|
ويحتسب اللذات أجراً ومغنمـا |
وكتب أبو علي إلى أبيه في بعض نكباته:
لا تأس للمال إن غالـتـه غـائلة |
|
ففي حياتك من فقد اللهي عوض |
إذ أنت جوهرنا الأعلى وما جمعت |
|
يداك من طارف أو تالد عـرض |
فأجابه أبو إسحاق بأبيات ذكرتها في بابه فأغني. قرأت بخط أبي علي المحسن: أنشدني القاضي أبو سعيد الحسن ابن عبد الله السرافي رحمه الله:
الجواد والغول والعنقاء ثالـثة |
|
أسماء أشياء لم تخلق ولم تكن |
وأنشدني:
ألهي بني جشم عن كل مكرمة |
|
قصيدة قالها عمرو بن كلثـوم |
يفاخرون بها مذ كان أولـهـم |
|
يا للرجال لفخر غيرهم مسؤوم |
وأنشدني في المعنى:
كأن وجوه شماس بـن لأي |
|
من السوءات ملبسة عصيما |
إذا ذكروا الحطيئة لم يعدوا |
|
حديثاً بعد ذاك ولا قـديمـا |
وأنشدني:
يا ابن صليبا أين طـبـك والـذي |
|
به كنت تشفي من به مثل دائكا؟ |
أأنكرت مما قيل ما قد عرفـتـه |
|
بغيرك أم آثرتهم بـشـفـائكـا؟ |
بل الموت ميقات النفوس متى يحن |
|
فداء الذي داويتـه فـي دوائكـا |
ومن خط أبي علي المحسن قال: سألت القاضي أبا سعيد السيرافي رحمه الله عن الأخبار التي يرويها عن أبي بكر بن دريد وكنت أقرؤها عليه: أكان يمليها من حفظه؟ فقال: لا، كانت تجمع من كتبه وغيرها ثم تقرأ عليه. وسألت أبا عبد الله محمد بن عمران المرزباني رحمه الله عن ذلك فقال: لم يكن يمليها من كتاب ولا حفظ، ولكن كان يكتبها ثم يخرجها إلينا بخطه، فإذا كتبناها خرق ما كانت فيه. وقرأت بخط أبي على المحسن: لأبي الحسن محمد بن عبد الله بن سكرة الهاشمي إلي يتقاضاني دفتراً أعطانيه:
كنت يا سيدي استعرت كتـابـاً |
|
لي فيه قصـائد لـلـخـلـيع |
في الـربـيع وهـذا ربــيع |
|
فتفضـل بـرده يا ربـيعـي |
تغتنم مدحتي وإن جـدت أيضـاً |
|
لي بفلسين لـم يكـن بـبـديع |
يا جميل الصنيع لم قـد تـغـير |
|
ت وعملتني بسوء الصـنـيع؟ |
من عذيري يا آل زهرون منكم |
|
من تراه يطفي لهيب ضلوعي؟ |
لست في المنع بالملوم تـعـلـم |
|
ت من السيد الجليل الـرفـيع |
كنت أعددتـكـم لـنـائبة الـده |
|
ر وللحادث الملم الـفـظـيع |
ورجوت الغني فخاب رجـائي |
|
لم يخب فيك أنت بل في الجميع |
واقريضي واخيبتي وأعـنـائي |
|
واضنائي واذلتي واخضوعـي |
واشبابي الذي تقضي ضـياعـاً |
|
واسهادي وافقد طيب هجوعي |
واشقائي من ذل بختي علـيكـم |
|
من إليكم يا قوم كان شفيعـي؟ |
كنت أبكي منكم فلما نكـبـتـم |
|
قمت أبكي لكم فعزت دموعي |
قال أبو علي: وكنت مع أبي الحسن بن سكرة على المائدة فحمل بعض الغلمان غضارة فيها مضيرة فاضطربت يده وانقلب شيء منها على ثياب أبي الحسن فادعى عليه أنه ضرط وهجاه بأبيات لم يبق في حفظي منها غير بيتين وهما:
قليل الصواب كثير الغلط |
|
شديد العثار قبيح السقـط |
جني بالمضيرة ما قد جنى |
|
ولم يكفه ذاك حتى ضرط |