باب الميم - محمد بن أحمد أبو الريحان البيروني

محمد بن أحمد أبو الريحان البيروني

الخوارزمي، وهذه النسبة معناها البراني، لأن بيرون بالفارسية معناه براً، وسألت بعض الفضلاء عن ذلك فزعم أن مقامه بخوارزم كان قليلاً، وأهل خوارزم يسمون الغريب بهذا الاسم، كأنه لما طالت غربته عنهم صار غريباً، وما أظنه يراد به إلا أنه من أهل الرستاق يعني أنه من براً البلد. ومات السلطان محمود بن سبكتكين في سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وأبو الريحان بغزنة.

وجدت كتاب تقاسيم الأقاليم تصنيفه وخطه وقد كتبه في هذا العام، ذكره محمد بن محمود النيسابوري فقال: له في الرياضيات السبق الذي لم يشق المحضرون غباره، ولم يلحق المضمرون المجيدون مضماره، وقد جعل الله الأقسام الأربعة له أرضاً خاشعة، سمت له لواقح مزنها، واهتزت به يوانع نبتها، فكم مجموع له على روض النجوم ظله، ويرفرف على كبد السماء طله. وبلغني أنه لما صنف القانون المسعودي أجازه السلطان بحمل فيل من نقده الفضي، فرده إلى الخزانة بعذر الاستغناء عنه، ورفض العادة في الاستغناء به، وكان - رحمه الله - مع الفسحة في التعمير وجلالة الحال في عامة الأمور مكباً على تحصيل العلوم منصباً إلى تصنيف الكتب يفتح أبوابها، ويحيط بشواكلها وأقرابها ولا يكاد يفارق يده القلم، وعينه النظر، وقلبه الفكر إلا في يومي النيروز والمهرجان من السنة لإعداد ما تمس إليه الحاجة في المعاش من بلغة الطعام وعلقة الرياش، ثم هجيراه في سائر الأيام من السنة علم يسفر عن وجهه قناع الإشكال، ويحسر عن ذراعيه كمام الإغلاق. حدث القاضي كثير بن يعقوب البغدادي النحوي في الستور عن الفقيه أبي الحسن علي بن عيسى الولوالجي قال: دخلت على أبي الريحان وهو يجود بنفسه قد حشرج نفسه وضاق به صدره فقال لي في تلك الحال: كيف قلت لي يوماً حساب الجدات الفاسدة؟ فقلت له إشفاقاً عليه: أفي هذه الحالة؟ قال لي يا هذا، أودع الدنيا وأنا علم بهذه المسالة، ألا يكون خيراً من أن أخليها وأنا جاهل بها. فأعدت ذلك عليه وحفظ وعلمني ما وعد، وخرجت من عنده وأنا في الطريق فسمعت الصراخ. وأما نباهة قدره وجلالة خطره عند الملوك فقد بلغني من حظوته لديهم أن شمس المعالي قابوس بن وشمكير أراد أن يستخلصه لصحبته ويرتبطه في داره، على أن تكون له الإمرة المطاعة في جميع ما يحويه ملكه، ويشتمل عليه ملكه، فأبى عليه ولم يطاوعه، ولما سمحت قرونته بمثل ذلك أسكنه في داره، وأنزله معه في قصره. ودخل خزارزمشاه يوماً وهو يشرب على ظهر الدابة فأمر باستدعائه من الحجرة فأبطأ قليلاً فتصور الأمر على غير صورته، وثنى العنان نحوه ورام النزول، فسبقه أبو الريحان إلى البروز وناشده الله ألا يفعل فتمثل خوارزمشاه:

العلم من أشرف الولايات

 

يأتيه كل الورى ولا ياتي

ثم قال: لولا الرسوم الدنيا لما استدعيتك، فالعلم يعلو ولا يعلى، وكأنه سمع هذا في أخبار المعتضد، فإنه كان يوماً يطوف في البستان وهو آخذ بيد ثابت بن قرة الحراني إذ جذبها دفعة وخلاها فقال ثابت: ما بدا يا أمير المؤمنين؟ قال: كانت يدي فوق يدك والعلم يعلو ولا يعلى. ولما استبقاه السلطان الماضي لخاصة أمره وحوجاء صدره كان يفاوضه فيما يسنح لخاطره من أمر السماء والنجوم، فيحكي أنه ورد عليه رسول من أقصى بلاد الترك وحدث بين يديه بما شاهد فيما وراء البحر نحو القطب الشمالي من دور الشمس عليه ظاهرة في كل دورها فوق الأرض بحيث يبطل الليل فتسارع على عادته في التشدد في الدين إلى نسبة الرجل إلى الإلحاد والقرمطة على براءة أولئك القوم عن هذه الآفات حتى قال أبو نصر بن مشكان: إن هذا لا يذكر ذلك عن رأي يرتئيه، ولكن عن مشاهدة يحكيه، وتلا قوله عز وجل: (وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً). فسأل أبا الريحان عنه، فأخذ يصف له على وجه الاختصار ويقرره على طريق الإقناع، وكان السلطان في بعض الأوقات يحسن الإصغاء ويبدل الإنصاف، فقبل ذلك وانقطع الحديث بينه وبين السلطان وقتئذ، وأما ابنه السلطان مسعود فقد كان فيه إقبال على علم النجوم ومحبة لحقائق العلوم، ففاوضه يوماً في هذه المسألة وفي سبب اختلاف مقادير الليل والنهار في الأرض، وأحب أن يتضح له برهان ما لم يصح له من ذلك بعيان، فقال له أبو الريحان: أنت المنفرد اليوم بامتلاك الخافقين، والمستحق بالحقيقة اسم ملك الأرض، فأخلق بهذه المرتبة إيثار الاطلاع على مجاري الأمور، وتصاريف أحوال الليل وانهار، ومقدارها في عامرها وغامرها، وصنف له عند ذلك كتاباً في اعتبار مقدار الليل والنهار بطريق تبعد عن مواضعات المنجمين وألقابهم، ويقرب تصورهم من فهم من لم يرتض بها ولم يعتدها، وكان السلطان الشهيد قد مهر بالعربية فسهل وقوفه عليه، وأجزل إحسانه إليه. وكذلك صنف كتابه في لوازم الحركتين بأمره، وهو كتاب جليل لا مزيد عليه مقتبس أكثر كلماته عن آيات من كتاب الله عز وجل. وكتابه المترجم بالقانون المسعودي يعفي على أثر كل كتاب صنف في تنجيم أو حساب. وكتابة الآخر المعنون بالدستور الذي صنفه باسم شهاب الدولة أبي الفتح مودود ابن السلطان الشهيد مستوف أحاسن المحاسن.

قال مؤلف الكتاب: هذا ذكره محمد بن محمود، وإنما ذكرته أنا ههنا لأن الرجل كان أديباً أريباً لغوياً، له تصانيف في ذلك رأيت أنا منها: كتاب شرح شعر أبي تمام رأيته بخطه لم يتمه، كتاب التعليل بإحالة الوهم في المعاني نظم أولي الفضل، كتاب تاريخ أيام السلطان محمود وأخبار أبيه، كتاب المسامرة في أخبار خوارزم، كتاب مختار الأشعار والآثار. وأما سائر كتبه في علوم النجوم والهيئة والمنطق والحكمة فإنها تفوق الحصر، رأيت فهرستها في وقف الجامع بمرو في نحو الستين ورقة بخط مكتنز. وحدثني بعض أهل الفضل: أن السبب في مصيره إلى غزنة أن السلطان محمودا لما استولى على خوارزم قبض عليه وعلى أستاذه عبد الصمد الأول ابن عبد الصمد الحكيم، واتهمه بالقرمطة والكفر فأذاقه الحمام وهم أن يلحق به أبا الريحان، فساعده فسحة الأجل بسبب خلصه من القتل، وقيل له: إنه إمام وقته في علم النجوم، وإن الملوك لا يستغنون عن مثله، فأخذه معه ودخل إلى بلاد الهند وأقام بينهم وتعلم لغتهم واقتبس علومهم، ثم أقام بغزنة حتى مات بها أرى في حدود سنة ثلاث وأربعمائة عن سن عالية، وكان حسن المحاضرة، طيب العشرة خليعاً في ألفاظه عفيفا في أفعاله، لم يأت الزمان بمثله علماً وفهماً، وكان يقول شعراً إن لم يكن في الطبقة العليا فإنه من مثله حسن، منه في ذكر صحبة الملوك، ويمدح و يمدح أبا الفتح البستي من كتاب سر السرور.

مضى أكثر الأيام في ظل نعـمة

 

على رتب فيها علوت كـراسـيا

فآل عراق قد غذونـي بـدرهـم

 

ومنصور منهم قد تولى غراسـيا

وشمس المعالي كان يرتاد خدمتي

 

على نفرة مني وقد كان قـاسـيا

وأولاد مأمون ومنهـم عـلـيهـم

 

تبدى بصنع صار للحـال آسـيا

وأخرهم مأمون رفه حـالـتـي

 

ونوه باسمـي ثـم راس راسـيا

و لم ينقبض محمود عني بنعـمة

 

فأغنى و أقنى مغضيا عن مكاسيا

عفا عن جهالاتي وأبدي تكـرمـاً

 

وطرى بجاه رونقي ولـبـاسـيا

عفاء على دنياي بعد فـراقـهـم

 

وواحزني إن لم أزر قبـل آسـيا

ولما مضوا وأعتضت منهم عصابة

 

دعوا بالتناسي فاغتنمت التناسـيا

وخلفت في غزنين لحماً كمضـغة

 

على وضم للطير للعلـم نـاسـيا

فأبدلت أقواماً وليسوا كمثـلـهـم

 

معاذ إلهي أن يكونوا سـواسـيا

بجهد شأوت الـجـالـبـين أئمة

 

فما اقتبسوا في العمل مثل اقتباسيا

فما بركوا للبحث عند مـعـالـم

 

ولا احتبسوا في عقدة كاحتباسـيا

فسائل بمقداري هنوداً بمـشـرق

 

وبالغرب من قد قاس قدر عماسيا

فلم يثنهم عن شكر جهدي نفـاسة

 

بل اعترفوا طرا وعافوا انتكاسيا

أبو الفتح في دنياي مالك ربقتـي

 

فهات بذكراه الحمـية كـاسـيا

فلا زال للدنيا وللـدين عـامـراً

 

ولا زال فيها للغـواة مـواسـيا

ومن أقوم شعره قوله لشاعر اجتداه.

يا شاعر جاءني يخرى على الأدب

 

وافي ليمدحني والذم مـن أدبـي

وجدته ضارطاً في لحيتي سفـهـاً

 

كلا فلحيته عثنـونـهـا ذنـبـي

وذاكراً في قوافي شعره حسـبـي

 

ولست والله حقاً عارفاً نـسـبـي

إذ لست أعرف جدي حق معـرفة

 

وكيف أعرف جدي إذ جهلت أبي؟

إني أبو لـهـب شـيخ بـلا أدب

 

نعم ووالدتي حمـالة الـحـطـب

المدح والذم عندي يا أبـا حـسـن

 

سيان مثل استواء الجد واللـعـب

فأعفني عنهما لا تشتغل بـهـمـا

 

بالله لا توقعن مفساك في تـعـب

وله:

ومن حام حول المجد غير مجاهد

 

ثوى طاعماً للمكرمات وكاسـيا

وبات قرير العين في ظل راحة

 

ولكنه عن حلة المجـد عـاريا

وله في التجنيس:

فلا يغررك مـنـي لـين مـس

 

تراه فـي دروس واقـتـبـاس

فإني أسرع الـثـقـلـين طـرا

 

إلى خوض الردى في وقت باس

ومنه:

تنغص بالتباعد طيب عيشي

 

فلا شيء أمر من الفراق

كتابك إذ هو الفرج المرجى

 

أطب لما ألم من ألف راق

وله:

أتأذنون لصب فـي زيارتـكـم

 

إن كان مجلسكم خلواً من الناس؟

فأنتم الناس لا أبغي بـكـم بـدلاً

 

وأنتم الراس والإنسان بالـراس

وكدكم لمعال تنهـضـون بـهـا

 

وغيركم طاعم مسترجع كاسـي

فليس يعرف من أيام عـيشـتـه

 

سوى التلهي بأير قام أو كـاس

لدي المكايد إن راجت مكايده

 

ينسى الإله وليس الله بالناس