باب الميم - محمد بن أحمد الأبيوردي الكوفي

محمد بن أحمد الأبيوردي الكوفي

أحد قراء أبيورد. هو أبو المظفر محمد بن أبي العباس أحمد بن محمد أبي العباس أحمد بن إسحاق بن أبي العباس محمد الإمام بن إسحاق بن الحسن أبي الفتيان بن أبي مرفوعة منصور بن معاوية الأصغر بن محمد بن أبي العباس عثمان بن عنبسة بن عتبة بن عثمان بن عنبسة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. نقلت هذا النسب من تاريخ جمعه منوجهر بن أسفرسيان بن منوجهر، ابتدأه فيما ذكر لي في أوله من بعد ما ذكره الوزير أبو شجاع فقال فيه عند ذكر الأبيوردي: حكى أنه كان من أبيورد ولم يعرف له هذا النسب، وأنه كان ببغداد في خدمة مؤيد الملك ابن نظام الملك، فلما عادى مؤيد الملك عميد الدولة بن منوجهر ألزمه أن يهجوه ففعل، فسعى عميد الدولة إلى الخليفة بأنه قد هجاك ومدح صاحب مصر، فأبيح دمه فهرب إلى همذان واختلق هذا النسب حتى ذهب عنه ما قرف به من مدح صاحب مصر، وكان يكتب على كتبه المعاوي وكان فاضلاً في العربية والعلوم الأدبية نسابة ليس مثله، متكبراً عظيماً. وسمع سنقر كفجك بخبره فأراد أن يجعله طغرائي الملك أحمد فمات أحمد فرجع إلى أصفهان بحال سيئة، وبقي سنين يعلم أولاد زين الملك برسق ثم شرح سنقر الكفجك للسلطان محمد ذلك وأعطاه أشراف المملكة، وكان يدخل مع الخطير وأبي إسماعيل والمعين وشرف الدين، فتوفي فجأة بأصفهان يوم الخميس العشرين من شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسمائة وكذا ذكر ابن منده. ويقال: سقاه الخطير ودفن بباب دبره، وكان كبير النفس عظيم الهمة، لم يسأل أحداً شيئاً قط مع الحاجة والمضايقة، وكان من دعائه في الصلاة: اللهم ملكني مشارق الأرض ومغربها، ورثى الحسين عليه السلام بقصيدة قال فيها ومن خطه نقلت:

فجدي وهو عنبسة بن صخر

 

برئ من يزيد ومـن زياد

قال السمعاني: قال شيرويه: سمع الأبيوردي إسماعيل ابن مسعدة الجرجاني، عبد الوهاب بن محمد بن الشهيد، وأبا بكر بن خلف الشيرازي حديثاً واحداً، وأبا محمد الحسن ابن أحمد السمرقندي وعبد القاهر الجرجاني النحوي.

قال ابن طاهر المقدسي: عنبسة الأصغر بن عتبة الأشراف ابن عثمان بن عنبسة الأكبر بن أبي سفيان قال: ومعاوية الأصغر هو الذي ينتسب إليه الأبيوردي، ومعاوية أول من تدبر كوفن وهي قصبة بين نسا وأبيورد، ونقله إليها حبان بن حكيم العابدي. وكتب مرة قصة إلى الخليفة وكتب على رأسها الخادم المعاوي، يعني معاوية بن محمد بن عثمان لا معاوية بن أبي سفيان، فكره الخليفة النسبة إلى معاوية واستبشعها، فأمر بكشط الميم ورد القصة فبقيت الخادم العاوي.

وحدث السمعاني عن أحمد بن سعد العجلي قال: كان السلطان نازلاً على باب همذان فرأيت الأديب الأبيوردي راجعاً من عندهم فقلت: له من أين؟ فأنشأ يقول ارتجالاً:

ركبت طرفي فأذرى دمعه أسفـاً

 

عند انصرافي منهم مضمر الياس

وقال حتام تؤذيني فإن سنـحـت

 

جوانح لك فاركبني إلى النـاس؟

وحدث أبو سعد السمعاني عن أبي علي أحمد بن سعيد العجلي المعروف بالبديع قال: سمعت الأبيوردي يقول في دعائه: اللهم ملكني مشارق الأرض ومغاربها، فقلت له: أي شيء هذا الدعاء؟ فكتب إلي بهذه الأبيات:

يعيرني أخو عـجـل إبـائي

 

على عدم وتيهي واختيالـي

ويعلم أننـي فـرط لـحـي

 

حموا خطط المعالي بالعوالي

فلست بحاصن إن لم أزرهـا

 

على نهل شبا الأسل الطوال

وإن بلغ الرجال مداى فيمـا

 

أحاول فلست من الـرجـال

قال أبو علي العجلي: وكنت يوماً متكسراً فأردت أن أقوم فعضدني الأبيوردي وعاونني على القيام ثم قال: أموياً يعضد عجلياً كفى بذلك شرفاً. وقد ولى الأبيوردي خزن خزانة دار الكتب بالنظامية التي ببغداد بعد القاضي أبي يوسف يعقوب بن سليمان الأسفرايني، وكانت وفاة الأسفرايني هذا في رمضان سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، وكان أبو يوسف الأسفرايني أيضاً شاعراً أديباً وهو القائل في بهاء الدولة منصور بن مزيد صاحب حلة بني مزيد:

أيا شجرات النيل من يضمن القرى

 

إذا لم يكن جار الفرات ابن مزيد

إذا غاب منصور فلا النور ساطع

 

ولا الصبح بسام ولا النجم مهتدي

وحدث العماد محمد بن حامد الأصبهاني في كتاب خريدة القصر: الأبيوردي تولى في آخر عمره أشراف مملكة السلطان محمد بن ملشكاه فسقوه السم وهو واقف عند سرير السلطان فخانته رجلاه فسقط وحمل إلى منزله فقال:

وقفنا بحيث العدل مـد رواقـه

 

وخيم في أرجائه الجود والباس

وفوق السرير ابن الملوك محمد

 

تخر له من فرط هيبته النـاس

فخامرني ما خانني قدمـي لـه

 

وإن رد عني نفرة الجأش إيناس

وذاك مقام لا نـوفـيه حـقـه

 

إذا لم ينب فيه عن القدم الراس

لئن عثرت رجلي فليس لمقولي

 

عثار وكم زلت أفاضل أكـياس

قال العماد الأصبهاني: وكان - رحمه الله - عفيف الذيل غير طفيف الكيل، صائم النهار قائم الليل، متبحراً في الأدب، خبيراً بعلم النسب، وأورد له صاحب وشاح الدمية فيه:

من أرتجي وإلى من ينتهـي أربـي

 

ولم أطأ صهوات السبعة الشهـب؟

يا دهر هبني لا أشكـو إلـى أحـد

 

ما ظل منتهساً شكوى من الـنـوب

تركتني بين أيدي النـائبـات لـقـى

 

فلا على حسبي تبقى ولا نسـبـي

يريك وجهي بشاشات الرضا كرمـاً

 

والصدر مشتمل مني على الغضب

إن هزني اليسر لم أنهض على مرح

 

أو مسني الضر لم اجثم على الكعب

حسب الفتى من غناه سد جوعـتـه

 

وكل ما يقتنيه نهـزه الـعـطـب

وله:

خليلي إن الحب ما تعرفـانـه

 

فلا تنكرا أن الحنين من الوجد

أحن وللأنضاء بالغـور حـنة

 

إذا ذكرت أوطانها بريا نجـد

وله:

خطرت لذكرك يا أميمة خطرة

 

بالقلب تجلب عبرة المشـتـاق

وتذود عن قلبي سواك كما أبـى

 

دمعي جواز النـوم بـالآمـاق

لم يبق مني الحب غير حشـاشة

 

تشكو الصبابة فاذهبي بالباقـي

أيبل من جلب السقام طـبـيبـه

 

ويفيق من سحرته عين الراقي؟

إن كان طرفك ذاق ريقك فالذي

 

ألقى من المسقي فعل الساقـي

نفسي فداؤك من ظلوم أعطـيت

 

رق القلوب وطاعة الأحـداق

فلقلة الأشبـاه فـيمـا أوتـيت

 

أضحت تدل بكثرة العـشـاق

وله:

علاقة بفؤادي أعـقـبـت كـمـدا

 

لنظرة بمنى أرسلتـهـا عـرضـا

وللحجيج ضجيج فـي جـوانـبـه

 

يقضون ما أوجب الرحمن وافترضا

فأيقظ القلب رعباً ما جنى نظـري

 

كالصقر نداه طل الليل فانتفـضـا

وقد رمتني غداة الخـيف غـانـية

 

بناظر إن رمى لم يخطئ الغرضـا

لما رأى صاحبي ما بي بكى جزعاً

 

ولم يجد بمنى عن خلتي عـوضـا

وقال دع يا فتى فهر فقـلـت لـه

 

يا سعد أودع قلبي طرفها مرضـا

فبت أشكو هواها وهو مـرتـفـق

 

يشوقه البرق نجـديا إذا ومـضـا

تبدو لوامعه كالسيف مخـتـضـبـاً

 

شباه بالدم أو كالعرق إن نـبـضـا

ولم يطق ما أعانـيه فـغـادرنـي

 

بين النقا والمصلي عندها ومضـى

وقرأت من خط تاج الإسلام اختلاف في نسبه وهو محمد بن أحمد بن محمد بن إسحاق بن الحسن بن منصور بن معاوية ابن محمد بن عمثان بن عتبة بن عنبسة بن أبي سفيان صخر بن حرب، الأموي العبشمي، أوحد عصره وفريد دهره في معرفة اللغة والأنساب وغير ذلك، وأليق ما وصف به بيت أبي العلاء المعري:

وإني وإن كنت الأخير زمانه

 

لآت بما لم تستطعه الأوائل

وله تصانيف كثيرة منها كتاب تاريخ أبيورد ونسا، كتاب المختلف والمؤتلف، كتاب قبسة العجلان في نسب آل أبي سفيان، كتاب نهزة الحافظ، كتاب المجتبي من المجتمى في رجال، كتاب أبي عبد الرحمن النسائي في السنن المأثورة وشرح غريبة، كتاب ما اختلف وائتلف في أنساب العرب، كتاب طبقات العلم في كل فن، كتاب كبير في الأنساب، كتاب تعلة المشتاق إلى ساكني العراق، كتاب كوكب المتأمل يصف فيه الخيل، كتاب تعلة المقرور في وصف البرد والنيران وهمذان، كتاب الدرة الثمينة، كتاب صهلة القارح رد فيه على المعري - سقط الزند -. وله في اللغة مصنفات ما سبق إليها، وكان حسن السيرة جميل الأمر منظرانياً من الرجال، سمع الحديث فأكثر، ولقي عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني النحوي وأخذ عنه. وروى عنه جماعة غير محصورة.

وقال السمعاني: سمعت أبا الفتح محمد بن علي بن محمد بن إبراهيم النطنزي يقول: سمعت الأبيوردي يقول: كنت ببغداد عشرين سنة حتى أمرن طبعي على العربية، وبعد أنا أرتضخ لكنة. قال: وقرأت بخط يحيى بن عبد الوهاب ابن مندة: سئل الأديب الأبيوردي عن أحاديث الصفات فقال: نقر ونمر. وأنشد السمعاني للأبيوردي بإسناد:

جدي معاوية الأغر سمعت به

 

جرثومة من طينها خلق النبي

وورثته شرفاً رفعت منـاره

 

فبنو أمية يفخرون به وبـي

وأنشد له:

كفـى أمـيمة غـــرب الـــلـــوم والـــعـــذل

 

فلـيس عـرضـي حـــال بـــمـــبـــتـــذل

إن مـسـنـي الـعـدم فـاسـتـبـقـي الــحـــياء ولا

 

تكـلـفـنـي سـؤال الـعـصــبة الـــســـفـــل

فشعر مثلي وخير القول أصدقه  

 

 كان يفتر عن فخر وعن غزل

أما الهجاء فلا أرضي به خلقاً

 

والـمـدح إن قـلـتـه فـالـمـجـد يغـضـب لـــي

وكـــيف أمـــدح أقـــوامـــاً أوائلـــهــــم

 

كانـوا لأسـلافـي الـمـاضــين كـــالـــخـــول

وله أيضاً في مدح الأئمة الخمسة:

زاهر العـود وطـيبة

 

ولـيالـيه تـشـيبـه

كل يوم مـن مـكـان

 

يلبس الذل غـريبـه

وهو يسعى طالباً لـل

 

علم والـهـم يذيبـه

وطوى بـرد صـبـاه

 

قبل أن يبلى قشـيبـه

وافتدى بالقـوم يدعـو

 

ه هـواه فـيجـيبـه

خمسة لا يجد الـحـا

 

سد فيهم ما يعـيبـه

منهم الجعـفـي لا يع

 

رف في العلم ضريبه

وإذا اعـتـل حـديث

 

فالقشيري طـبـيبـه

وأخونا ابن شـعـيب

 

حازم الرأي صلبـيه

وأبـو داود مـوفــو

 

ر من الفضل نصيبه

وأبو عيسى يرى الجه

 

مي منه مـا يريبـه

حاديهم ذو زجـل يس

 

تضحك الروض نحيبه

طار فيه البرق حتـى

 

خالط الماء لهـيبـه

وأنشد له:

تنكر لي دهري ولـم يدر أنـنـي

 

أعز وأحداث الزمـان تـهـون

فبات يريني الخطب كيف اعتداؤه؟

 

وبت أريه الصبر كيف يكـون؟

وله في الغزل:

أعصر الحمى عد فالمطايا مناخة

 

منزلة جرداء ضاح مقـيلـهـا

لئن كانت الأيام فيك قـصـيرة

 

فكم حنة لي بعدها أستطيلهـا؟

وله:

رمتني غداة الخيف ليلى بنظـرة

 

على خفر والعيس صعر خدودها

شكت سقماً ألحاظها وهي صحة

 

فلست ترى إلا القلوب تعودهـا

وله:

صلي يا ابنة الأشراف أروع ماجداً

 

بعيد مناط الهم جم المـسـالـك

ولا تتركيه بين شـاك وشـاكـر

 

ومطر ومغتاب وباك وضاحـك

فقد ذل حتى كاد ترحمه الـعـدا

 

وما الحب يا ظبـياء إلا كـذلـك

ووجدت بعد ذلك رسالة - كتبها إلى أمير المؤمنين المستظهر بالله يعتذر - تدل على صحة ما نسب إليه من الهرب من بغداد نسختها:  إحسان المواقف المقدسة النبوية الإمامية الطاهرة الزكية الممجدة العلية، زاد الله في إشراق أنوارها، وإعزاز أشياعها وأنصارها، وجعل أعداءها حصائد نقمها، ولا سلب أولياءها قلائد نعمها، شمل الأنام، وغمر الخاص والعام، وأحق خدمها من انتهج المذاهب الرشيدة في الولاء الناصع، والتزام الشاكلة الحميدة في الثناء المتتابع، ولا خفاء باعتلاق الخادم أهداب الإخلاص، واستيجابة مزايا الاجتباء والاختصاص، لما أسلفه من شوافع الخدم، ومهده من أواصر الذمم، متوافراً على دعاء يصدره من خلوص اليقين، ويعد المواصلة به من مفترضات الدين، ولئن صدت الموانع عن المثول السدة المنيفة، والاستدراء بالجناب الأكرم في الخدمة الشريفة، فهو في حالتي دنوه منها واقترابه، وتارتي انتزاحه عنها واغترابه، على السنن القاصد في المشايعة مقيم، ولما يشمله من نفحات الأيام الزاهرة مستديم، وقد علم الله سبحانه - ولا يستشهده كاذباً إلا من كان لرداء الغي جاذباً - أنه مطوي الجنان على الولاء منطلق اللسان بالشكر والدعاء، يتشح بهما الصبح كاشراً عن نابه، ويدرعهما الليل ناشراً سابغ جلبابه، وكان يغب خدمه اتقاء لقوم يبغونه الغوائل، وينصبون له الحبائل، وتدعوهم العقائد المدخولة إلى تنفيره، ويزنون عنه غير ما أجنه في ضميره، ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذماماً ويزيدهم الاستدراج على الجرائم جرأة وإقداماً، حتى استشعر وجلاً، فاتخذ الليل جملاً، والتحف بناشئه الظلماء، والفرار مما لا يطاق من سنن الأنبياء، ولم يزل يستبطئ فيهم المقادير، والأيام ترمز بما يعقب التبديل والتغيير، فحاق بهم مكرهم، وانقضت شرتهم وشرهم:

عذرت الذرى لو خاطرتني قرومها

 

فما بال أكاريه فـدع الـقـوائم؟

وعاود الخادم المثابرة على الممادح الإمامية مطنباً ومطيلاً إذ وجد إلى مطالعة مقار العز والعظمة ومواقف الإمامية المكرمة بها سبيلاً، وهذه فاتحة ما نظم، وانتهز فرصة الإمكان فيه واغتنم:

لك من غليل صبابتي ما أضمـر

 

وأسر من ألم الغـرام وأظـهـر

وتذكري زمن العذيب يشـفـنـي

 

والوجد ممنو بـه الـمـتـذكـر

إذ لمتي سحماء مد على الـنـقـا

 

أظلالها ورق الشباب الأخضـر

والدتك النشأ الصغار ولـيس مـا

 

ألقاه فيك من الملاوم يصـغـر

هو ملعب شرفت بـنـا أرجـاؤه

 

إذ نحن في حلل الشبيبة نخطـر

فبحر أنفاسي وصوب مدامـعـي

 

أضحت معالمه تراح وتمـطـر

وأجيل في تلك المعهد نـاظـري

 

فالقلب يعرفها وطرفي ينـكـر

وأرد عبرتي الجـمـوح لأنـهـا

 

بمقيل سرك في الجوانح تخـبـر

فأبيت محتضر الجوى قلق الحشـا

 

وأظل اعذر في هـواك وأعـذر

غضبت قريش إذ ملكت مقادتـي

 

غضباً يكاد السم منـه يقـطـر

وتعاودت عذلي فما أرعـيتـهـا

 

سمعاً يقل به الـكـلام ويكـثـر

ولقد يهون على العشيرة أنـنـي

 

أشكو الغرام فيرقدون وأسـهـر

وبمهجتي هيفاء يرفـع جـيدهـا

 

رشأ ويخفض ناظريهـا جـؤذر

طرقت وأجفان الوشاة على الكرى

 

تطوي وأردية الغياهب تنـشـر

والشهب في غسق الدجى كأسـنة

 

زرق يصافحها العجاج الأكـدر

فنجاد سيفي مس ثنى وشاحـهـا

 

بمضاجع كرمت وعف المـئزر

ثم افترقنا والـرقـيب يروع بـي

 

أسـداً يودعـه غـزال أحـور

والدر ينظم حين تضحك عـقـدة

 

وإذا بكيت فمن جفونـي ينـثـر

فوطئت خد الليل فوق مـطـهـم

 

تسمو لغايته الرياح فتـحـسـر

طرب العنان كأنه في حـضـره

 

نار بمعترك الجـياد تـسـعـر

والعز يلحفـنـي وشـائع بـرده

 

حلق الدلاص وصارمي والأشقر

وعلام أدرع الهـوان ومـوئلـي

 

خير الخلائق أحمد المستظهـر؟

هو غرة الزمن الكثـير شـياتـه

 

زهى السرير به وتاه المـنـبـر

وله كما اطردت أنابيب الـقـنـا

 

شرف وعرق بالنـبـوة يزخـر

وعلا ترف على التقى وسـمـاحة

 

علق الرجاء بـهـا وبـأس يحـذر

لا تنفع الصلوات من هو سـاحـب

 

ذيل الضـلال وعـن هـواه أزور

ولو استميلت عنـه هـامة مـارق

 

لدعا صوارمه إليها الـمـغـفـر

والله يحرس بابـن عـم رسـولـه

 

دين الهدى وبـه يعـان وينـصـر

فعفاته حيث الغنى يسع الـمـنـى

 

وعداته حيث الـقـنـا يتـكـسـر

وبسيبه وبـسـيفـه أعـمـارهـم

 

في كل معضلة تطول وتقـصـر

وكأنه المنصور فـي عـزمـاتـه

 

ومحمد في المكرمات وجـعـفـر

وإذا معد حصـلـت أنـسـابـهـا

 

فهم الذرا والجوهر الـمـتـخـير

ولهم وقائع في الـعـدا مـذكـورة

 

ترى الذئاب حديثـهـا والأنـسـر

والسمر في اللبـات راعـفة دمـاً

 

والبيض يخضبها النجيع الأحـمـر

والقرن يركب ردعه سهل الخـطـا

 

والأعوجية بالجمـاجـم تـعـثـر

ودجا النهار من العجاج وأشـرقـت

 

فيه الصوارم فهو لـيل مـقـمـر

يا بن الشفيع إلى الحيا مـا لامـرئ

 

طامنت نخوته، المحـل الأكـبـر

أنا عبد نعمتك التـي لا تـجـتـدي

 

معها السحائب فهي منهـا أغـزر

والنجح يضمنها، لـمـن يرتـادهـا

 

منا الطلاقة والـجـبـين الأزهـر

ولقد عداني عن جـنـابـك حـادث

 

أنحى علي به الزمـان الأغـبـر

وإن اقتربت أو اغتربت فـإنـنـي

 

لهج بشكر عـوارف لا تـكـفـر

وعلاك لي في ظلها ما أبـتـغـى

 

منها ومن كلمي لهـا مـا يذخـر

يسدي مديحك هـاجـسـي وينـيره

 

فكري وحظي في امتداحك أوفـر

بغداد أيتها المـطـي فـواصـلـي

 

عنقاً تئن له القـلاص الـضـمـر

إني وحق المـسـتـجـن بـطـيبة

 

كلف بهـا إلـى ذراهـا أصـور

وكأنني مما تـسـولـه الـمـنـى

 

والـدار نـازحة إلـيهـا أنـظـر

أرض تجر بها الـخـلافة ذيلـهـا

 

وبها الجباة من الملـوك تـعـفـر

فكأنها جـلـبـت عـلـينـا جـنة

 

وكأن دجلة فاض فيها، الـكـوثـر

وهواؤها أرج النسـيم وتـربـهـا

 

مسك تـهـاداه الـغـدائر أذفـر

يقوي الضعيف بها ويأمـن خـائف

 

قلقت وسادته ويثري الـمـقـتـر

فتركتها إذ صدعنـي مـعـشـري

 

وبغى علي من الأراذل مـعـشـر

من كل ملتحف بما يصم الـفـتـى

 

يؤذي ويظـلـم أو يجـور ويغـدر

فنفضت منـه يدي مـخـافة كـيده

 

إن الكريم على الأذى لا يصـبـر

والأبيض المأثور يخطـم بـالـردى

 

من لا ينهنهه القطـيع الأسـمـر

فارفض شملهم وكـم مـن مـورد

 

للظالمين وليس عـنـه مـصـدر

وآبى لشعـري أن أدنـسـه بـهـم

 

حسبي وحسب ذوي الخنا أن يحقروا

قابلت سيئ ما أتوا بـجـمـيل مـا

 

آتى فإنـي بـالـمـكـارم أجـدر

وإلى أمير المؤمنين تـطـلـعـت

 

مدح كما ابتسم الرياض تـحـبـر

ويقـيم مـائدهـن لـيل مـظـلـم

 

ويضم شاردهن صبـح مـسـفـر

فبمثل طاعته الهـداية تـبـتـغـي

 

وبفضل نائله الخصاصة تـجـبـر

       

وله:

ألا ليت شعري هل تخـب مـطـيتـي

 

بحيث الكثيب الفرد والأجرع السـهـل

ألـذ بـه مـس الـثـرى ويروقـنـي

 

حواشي ربا يغدو أزاهيرهـا الـوبـل

ولولا دواعـي حـب رمـلة لـم أقـل

 

إذا زرت مغناها به سقـى الـرمـل

فيا حبذا أثـل الـعـقـيق ومـن بـه

 

وإن رحلت عنه فـلا حـبـذا الأثـل

ضعيفة رجع القول من ترف الصـبـا

 

لها نظرة تنسيك ما يفعـل الـنـصـل

وقد بعثـت سـراً إلـى رسـولـهـا

 

لأهجرها والهجر شيمة مـن يسـلـو

تخاف على الـحـي إذ نـذروا دمـي

 

سأرخصه فيها عـلـى أنـه يغـلـو

أيمنعـي خـوف الـردى أن أزورهـا

 

وأروح من صبري على هجرها القتل؟

إذا رضيت عني فلا بـات لـيلة

 

على غضب إلا العشيرة والأهل

 

           

وله:

خطوب للقلوب بهـا وجـيب

 

تكاد لها مفارقـنـا تـشـيب

نرى الأقدار جـارية بـأمـر

 

يريب ذوي العقول بمـا يريب

فتنجح في مطالبـهـا كـلاب

 

وأسد الغاب ضارية تـخـيب

وتقسم هـذه الأرزاق فـينـا

 

فما ندري أتخطى أم تصيب؟

ونخضع راغمين لها اضطراراً

 

وكيف يلاطم الإشفي لبـيب؟

وله:

وغادة لو رأتها الشمس ما طلـعـت

 

والرئم أغضى وغصن البان لم يمس

عانقتها برداء اللـيل مـشـتـمـلاً

 

حتى انتبهت ببرد الحلى في الغلس

فظلت أحميه خوفاً أن ينـبـهـهـا

 

وأتقي أن أذيب العقد بـالـنـفـس

وله:

ومتشح باللؤم جاذبـنـي الـعـلا

 

فقدمه يسر وأخـرنـي عـسـر

وطوقت أعناق المقادير مـا أتـى

 

به الدهر حتى ذل للعجز الصـدر

ولو نيلت الأرزاق بالفضل والحجى

 

لما كان يرجو أن يثوب له وفـر

فيا نفس صبراً إن للـهـم فـرجة

 

فمالك إلا العز عندي أو القـبـر

ولي حسب يستوعب الأرض ذكره

 

على العدم والأحساب يدفنها الفقر

وله أيضاً وهو من جيد شعره:

وعليلة الألحاظ ترقد عـن

 

صب يصافح جفنه الأرق

وفؤاده كسوارها حـرج

 

ووساده كوشاحها قـلـق

عانقتها والشهب ناعـسة

 

والأفق بالظلماء منتطـق

ولثمتها والليل من قصـر

 

قد كاد يلثم فجره الشفـق

بمعانق ألف العفاف بـه

 

كرم بأذيال التقى علـق

ثم افترقنا حن فـاجـأنـا

 

صبح تقاسم ضوءه الحدق

وبنحرها من أدمعي بلـل

 

وبراحتي من نشرها عبق

وله:

بيضاء إن نطقت في الحي أو نظرت

 

تقاسم السحر أسـمـاع وأبـصـار

والركب يسرون والظلماء عـاكـفة

 

كأنهم في ضمير القـلـب أسـرار

وله:

وقصائد مثل الرياض أضعتهـا

 

في باخل ضاعت به الأحساب

فإذا تناشدها الرواة وأبصروا ال

 

ممدوح قالوا ساخـر كـذاب

وله:

ما للجبان ألان اللـه سـاحـتـه

 

ظن الشجاعة مرقاة إلى الأجل

وكم حياة جبتها النفس من تلـف

 

ورب أمن حواه القلب من وجل

فقت الثناء أبـلـغ مـداك بـه

 

حتى توهمت أن العجز من قبلي

والعي أن يصف الورقاء مادحها

 

بالطوق أو يمدح الأدماء بالكمل

وله:

وقد سئمت مقامي بين شـرذمة

 

إذا نظرت إليهم قطبت هممـي

أراذل ملكوا الدنيا وأوجهـهـم

 

لم يكشف الفقر عنها بهجة النعم

وله:

ألام على نجد وأبكـي صـبـابة

 

رويدك يا دمعي ويا عاذلي رفقـا

فلي بالحمى من لا أطيق فراقـه

 

به يسعد الواشي ولكنني أشـقـى

وأكرم من جيرانه كـل طـارئ

 

يود وداداً أنه من دمي يسـقـى

إذا لم يدع منـي نـواه وحـبـه

 

سوى رمق يا أهل نجد فكم يبقى؟

ولولا الهوى مالان للدهر جانبـي

 

ولا رضيت مني قريش بما ألقى

قرأت بخط محمد بن عبيد الله الشاعر المعروف بابن التعاويذي قال: حدثني الشيخ أبو محمد عبد الله بن أحمد بن الخشاب قال: حدثني الشيخ أبو منصور بن الجواليقي قال: كنت أقرأ على أبي زكريا شعر أبي دهبل الجمحي حتى وصلت إلى هذا البيت:

يجول وشاحاها ويغرب حجلها

 

ويشبع منها وقف عاج ودملج

قال: فقلت له: وصفها بقوله يجول وشاحها بأنها هضيمة الحشا، وبقوله: ويشبع منها وقف عاج ودملج: أنها عبلة الزند والعضد، فما معنى قوله ويغرب حجلها؟ فقال لا أدري، وكان الأبيوردي حاضراً فلما قمت من عنده قال لي الأبيوردي: أتحب أن تعرف معنى هذا البيت؟ قلت نعم. فقال اتبعني، فمضيت معه إلى بيته فأجلسي وأخرج سلة فيها جزاز فجعل يطوفها إلى أن أخرج ورقة فنظر فيها وقال لي: إنه مدح امرأة من آل أبي سفيان، هم يوصفون بأنهم سته حمش. والحمش: رقة السافين. ومن افتخاراته قوله:

يا من يساجلني وليس بمـدرك

 

شأوى وأين له جلالة منصبي؟

لا تتبعن فدون مـا أمـلـتـه

 

خرط القتادة وامتطاء الكوكب

المجد يعلـم أينـا خـير أبـا؟

 

فاسأله تعلم أي ذي حسب أبي

جدي معاوية الأغر سمت بـه

 

جرثومة من طينها خلق النبي

وورثته شرفاً رفعت مـنـاره

 

فبنوا أمية يفخرون بـه وبـي

قال عبد الله بن علي التميمي: ولقد حصل للأبيوردي بعد ما تراه من شكوى الزمان في أشعاره مما انتجعه بالشعر من ملوك خراسان ووزرائها وخلفاء العراق وأمرائها ما يحصل للمتنبئ في عصره، ولابن هانئ في مصره، فمن ذلك ما حدثنيه القاضي أبو سعد محمد بن عبد الملك بن الحسن النديم: أن أفضل الدولة الأبيوردي لما قدم الحلة على سيف الدولة صدقة ممتدحاً له - ولم يكن قبلها اجتمع به قط - خرج سيف الدولة لتلقيه قال: وكنت فيمن خرج فشاهدت الأبيوردي راكباً في جماعة كثيرة من أتباعه، منهم من المماليك الترك ثلاثون غلاماً ووراءه سيف مرفوع وبين يديه ثمان جنائب بالمراكب والسرفسارات الذهب، وعددنا ثقله فكان على أحد وعشرين بغلاً، وكان مهيباً محترماً جليلاً معظماً لا يخاطب إلا بمولانا، فرحب به سيف الدولة، وأظهر له من البر والإكرام ما لم يعهد مثله في تلقي أحد ممن كان يتلقاه، وأمر بإنزاله وإكرامه والتوفر على القيام بمهامه، وحمل إليه خمسمائة دينار وثلاثة حصن وثلاثة أعبد، وكان الأبيوردي قد عزم على إنشاد سيف الدولة قصيدته التي يقول فيها:

وفي أي عطفيك التفت تعطفت

 

عليك به الشمس المنيرة والبدر

في يوم عينه. ولم يكن سيف الدولة أعد له بحسب ما كان في نفسه أن يلقاه به ويجيزه على شعره، واعتذر إليه ووعده يوماً غير ذلك اليوم ليعد ما يليق بمثله إجازته مما يحسن به بين الناس ذكره، ويبقى على ممر الأيام أثره، فاعتقد أفضل الدولة أن سيف الدولة قد دافعه عن سماعه منه استكباراً لما يريد أن يصله به ثانياً، فأمر الأبيوردي أصحابه أن يعبروا ثقله الفرات متفرقاً في دفعات، وخرج من غير أن يعلم به أحد سوى ولد أبي طالب بن حبش فإنه سمعه ينشد على شاطئ الفرات حين عبوره:

أبابل ولا واديك بالخبر مفـعـم

 

لراج ولا ناديك بالرفـد آهـل

لئن ضقت عني فالبلاد فسـيحة

 

وحسبك عاراً أنني عنك راحـل

فإن كنت بالسحر الحرام مـدلة

 

فعندي من السحر الحلال دلائل

قواف تعير الأعين النجل سحرها

 

وكل مكان خيمت فـيه بـابـل

فبادر ولد أبي طالب إلى سيف الدولة فقال له: رأيت على شاطئ الفرات فارساً يريد العبور إلى الشرق وهو ينشد هذه الأبيات. فقال سيف الدولة: وأبيك ما هو إلا الأبيوردي، فركب لوقته في قل من عسكره، فلحقه فاعتذر، وسأله الرجوع وعرفه عذره في امتناعه من سماع شعره، وأمر بإنزاله في داره معه، وحمل إليه ألف دينار، ومن الخيل والثياب ما يزيد على ذلك قيمة.

قال عبيد الله التيمي: أنشدني أبو إسحاق يحيى بن إسماعيل المنشئ الطغرائي قال: سمعت والدي ينشد لنفسه مرتية للأبيوردي:

إن ساغ بعدك لي ماء على ظـمـإ

 

فلا تجرعت غير الصاب والصبـر

أو إن نظرت من الدنيا إلى حـسـن

 

مذ غبت عني فلا متعت بالنـظـر

صحبتني والشباب الغض ثم مضـى

 

كما مضيت فما في العيش من وطر

هبني بلغت من الأعمار أطـولـهـا

 

أو انتهيت إلى آمـالـي الـكـبـر

فكيف لي بشباب لا ارتـجـاع لـه

 

أم أين أنت فما لي منك من خبـر؟

سبقتماني ولو خيرت بـعـد كـمـا

 

لكنت أول لحـاق عـلـى الأثـر