أبو الفرج من أهل الحلة المزيدية يلقب شرف الكتاب، كان نحوياً لغوياً فطناً شاعراً مترسلاً، شعره ورسائله مدونة. قدم بغداد فقرأ على النقيب أبي السعادات هبة الله بن الشجري النحوي وأخذ عنه، ثم أخذ بعده عن أبي محمد بن الخشاب، وسمع الحديث على القاضي أبي جعفر عبد الواحد بن الثقفي، وأصله ومولده من مطيراباذ وصحب ابن هبيرة الوزير. وله رسائل مدونة عملها أجوبة لرسائل أبي محمد القاسم بن الحريري.
حدثني أبو علي القيلوي قال: أنا رأيته. ومات في سنة تسع وسبعين وخمسمائة وقد نيف على الثمانين. أنشدني ابن الدبيثي قال: أنشدني أبو الثناء محمود بن عبد الله بن المفرج الحلي قال: أنشدني شرف الكتاب أبو الفرج محمد ابن أحمد بن جيا لنفسه:
حتام أجرى في ميادين الـهـوى |
|
لا سابـق أبـداً ولا مـسـبـوق |
ما هزني طرب إلى أرض الحمى |
|
إلا تعـرض أجـرع وعـقـيق |
شوق بأطراف البـلاد مـفـرق |
|
نحوي، شتيت الشمل منه فـريق |
ومدامع كفلت بـعـارض مـزنة |
|
لمعت لها بين الضلـوع بـروق |
فكأن جفني بالـدمـوع مـوكـل |
|
وكأن قلبي للجـوى مـخـلـوق |
قدم الزمان، فصار شوقـي عـادة |
|
فليتركن دلالـه الـمـعـشـوق |
قد كان في الهجران ما يزع الهوى |
|
لو يستفيق من الغـرام مـشـوق |
لكنني آبـى لـعـهـدي أن يرى |
|
بعد الصفـاء وورده مـطـروق |
إن عادت الأيام لـي بـطـويلـع |
|
أو ضمني والنـازحـين طـريق |
لأنبهن على الغـرام بـزفـرتـي |
|
ولتطربن بـمـا أبـث الـنـوق |
حدثني أبو علة القيلوي قال: سمعت شرف الكتاب يحدث أنه كان يوماً في مجلس الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة فجاءه فراش من دار الخلافة وحدثه بمحضري شيئاً كان يحب كتمانه من كل أحد. قال: واتفق خروج الفراش وقد اجتمع عنده الناس فشغل بهم عني، وقمت أنا وخرجت ومضيت فما وصلت باب العامة حتى جاءني من ردني إلى حضرته، فلما وقفت بين يديه قلت: أحسن الله إلى مولانا الوزير وأدام أيامه. بيت الحماسة؟ فقال نعم، امض بارك الله فيك، كذا الظن بمثلك. قال وخرجت من عنده ولم يفهم أحد شيئاً مما جرى بيننا، وإنما أردت قول شاعر الحماسة:
وفتيان صدق لست مطلع بعضهم |
|
على سر بعض غير أني جماعها |
ومن شعره:
أما والعيون النجل تصمي نبالـهـا |
|
ولمع الثنايا كالبروق تـخـالـهـا |
ومنعطف الـوادي لأرج نـشـره |
|
وقد زار في جنح الظلام خيالـهـا |
وقد كان في الهجران ما يزع الهوى |
|
ولكن شديد في الطباع انتقـالـهـا |
ومنها:
أيا ابنالألى جادوا وقد بخل الحـيا |
|
وقادوا المذاكي والدماء نعالهـا |
ذد الدهر عني من رضاك بعزمة |
|
معـودة ألا يفـل رعـالـهـا |
ووجدت بخط بعض بني معية العلويين الحسينين: أنشدني الشيخ أبو الفرج ابن جيا الكاتب لنفسه:
قل لحادي عشر البروج أبا العا |
|
شر منها، رب القرون الثاني |
يا ابن شكران ضلة لـزمـان |
|
صرت فيه تعد في الأعـيان |
ليس طبي ذم الزمان ولـكـن |
|
أنت أغريتني بـذم الـزمـان |
ومن كلامه في جواب رسالة لابن الحريري كتبها إلى سديد الدولة بن الأنباري يشكره: سيدنا الشيخ الإمام في توالي مباره، والقصور مني عن تأدية حقه وإيفائة، كمن يقرض غريماً مع عسرته، ويتكثر بمن أفراده الزمان عن أهله وأسرته، فهلا اقتصر بي من دينه على ما تقادم عهده، ولم يشفعه بطول أضعف قوى شكري وكان مستحكماً عقدة:
أنت امرؤ أو ليتنـي مـنـنـاً |
|
أوهت قوى شكري فقد ضعفا |
فإليك بعد اليوم مـعـذرتـي |
|
لاقتك بالتصريح منكـشـفـا |
لا تـسـدين إلـى عــارفة |
|
حتى أقوم بشكر ما سـلـفـا |
فأما ما يعزوه إلي من البراعة وحسن الصناعة، ويقرره من إحسان كان الطي أولى به من الإذاعة، فتلك حال إن ثبت فيها الدعاوى، واتفق على صحة نقلها المخالف والموالي، فإنما جريت إليها بجيادهن التوالي لسوابقه، الصوادي إلى مناهل حقائقه، وأين الرذايا بعد ذلك من السابقات؟. والمقصرة من اللاحقات؟ والمقرفة من كريمات المناسب؟ والمكدية مطالبها من نجيحات المكاسب:
سبقت إلى الآداب أبناء دهرنـا |
|
فبؤت بعادي على الدهر أقدم |
وليست كما أبقت ضبيعة اضخم |
|
وليست كما سادت قبائل جرهم |
ولكن طوداً لم يحلحـل رسـيه |
|
وفارعة قعساء لم تتـسـنـم |
إذا ما بناء شاده الفضل والتقى |
|
تهدمت الدنـيا ولـم يتـهـدم |
فالله تعالى يحرس عليه ما خوله من هذه الخصائص النفسية والمنح الشريفة، ولا تعدم القلوب الراحة بمحاضرته، كما لم يخله من النصر إذا أشرع رماح الجدل يوم مناصرته بمنه وجوده. فأما اعتذاره عن إنفاذ ذلك التأليف، وإنكاره للفراغ منه بعد التعريف، فما يخفى ما وراء ذلك من المغالطة، وما يقصده في كل وقت من قطع حبال المباسطة، ولولا أن المعاتبة إذا حقت فلما يسلم معها وداد، ويجود في مطاويها من الصفاء عهاد:
لأرسلتها مقطوعة العقل تغـتـدي |
|
شوارد قد بالغن فـي الـجـولان |
قوارص تبقى ما رأى الشمس ناظر |
|
وما سمعت مـن سـامـع أذنـان |
لكن المقصود ما عاد بإجمام خاطره وصفاء مشاربه، وألا أكون عليه عوناً للدهر ونوائبه، ولا سيما وقد رأيت الصبر على فعاله أيسر من الصبر على ترك وصاله، فأما الملحة فإنني وجدتها عند الوصول كما سماها، غريبة في لفظها ومعناها، عارية من لبسة التكلف بعيدة عن التصنع تقتاد القلوب بأزمتها، وما كان أولاه لو قرنها إلى ذلك العقد المكنون والدر المصون، فكانت النعمى تكمل، والمسرة تشمل، وهأنا أرتقب لذلك السمط أن تؤلف فرائده، وتجمع بدائده، وأنتظر لوصوله يوماً تقل همومه وتكثر حواسده، فما ذاك بمتعذر عليه متى رامه، ولا بمعوزه إن سرح سوام الفكر فيه وشامه، ولرأيه في ذلك ومعرفته، وإنجاز الوعد جرياً على كريم عادته، مزيد من علاء لا يطرأ الأفول على أهلته، إن شاء الله تعالى وحده.