باب الميم - محمد بن إسحاق بن علي بن داود

محمد بن إسحاق بن علي بن داود

ابن حامد أبو جعفر القاضي الزوزني البحاثي، ذكره عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي وأنه مات بغزنة سنة ثلاث وستين وأربعمائة وقال: هو أحد الفضلاء المعروفين جداً وهزلاً، والفائق أهل عصره ظرفاً وفضلاً، والتعصب لأهل السنة المخصوص بخدمة البيت الموفقي، المحترم بين الأئمة والكبار لفضله مرة، وللتوقي من حماة لسانه وعقارب هجائه ثانية. ولقد رزق من الهجاء في النظم والنثر طريقة لم يسبق إليها، وما ترك أحداُ من الكبراء والأئمة والفقهاء وسائر الأصناف من الناس إلا هجاه ووقع فيه، فكان الكل يتترسون باحترامه وإيوائه عن سهام هجائه.

 قال عبد الغافر: وكان صديق والدي من البائتين عنده في الأحايين، والمقترحين عليه ما يشتهيه من الطبائخ والمطعومات، سمعته رحمه الله يحكي عنه أحواله وتهتكه واشتغاله في جميع الأحوال بما لا يليق بالعلماء والأفاضل، ولكنه كان يحتمل عنه اتقاء لسانه، ومما حكاه لي رحمه الله أنه قال: ما وقع بصري قط على شخص إلا تصور في قلبي هجاؤه قبل أن أكلمه وأجربه أو أخبر أحواله. وحكى لي بعض من أثق به أنه قال: لم يفلت أحد من هجائي إلا القاضي الإمام صاعد بن محمد رحمه الله، فإني كنت قد وزرت في نفسي أن أهجوه، فحيث تأملت في حسن عبادته وكمال فضله ومرضي سيرته استحييت من الله تعالى، وتركت ما أجلته في فكري. على أني سمعت فيما قرع سمعي تشبيباً منه بشيء من ذلك عفا الله عنه، ولقد خص طائفة من الأكابر والعلماء بوضع التصنيف فيهم ورميهم بما برأهم الله عز وجل عنه، وبلغ في الإفحاش وأغرق في قوس الإيحاش وأظهر النسك بين الناس وأغرب في فنون الهجاء، وأتى بالعبارات الرشيقة والمعاني الصحيحة من حيث الصنعة، وإن كانت عن آخرها أوزاراً وآثاماً وكذباً وبهتاناً، واتفق الأفاضل على أنه أهجى أهل عصره من الفضلاء، وأفتقهم شتماً قبيحاً، وتعريضاً وتصريحاً، وكان يسكن مدرسة السيوري بباعذراً، ويخص جماعة سكانها من الأئمة في عصره بالهجاء، وله معهم ثارات وأحوال يطول ذكرها، ثم مع تبحره وانفراده بفن الهجاء كان له شعر في الطبقة العليا في المدح والثناء وسائر المعاني، قصائده الغر في السادة والأئمة مشهورة، ومقطعاته في الغزل مأثورة، وكان ينسخ كتبالأدب بخط مقروء صحيح أحسن النسخ، ولقد رأيت نسخة من كتاب يتيمة الدهر لأبي منصور الثعالبي في خمس مجلدات بخطة المليح بيعت بثلاثين ديناراً نيسابورية وكانت تساوي أكثر من ذلك، ولقد كتب نسخة غريب الحديث لأبي سليمان الخطابي وقرأها على جدي الشيخ عبد الغافر ابن محمد الفارسي قراءة سماع، وعلى الحاكم الإمام أبي سعد ابن دوست قراءة تصحيح وإتقان أقطع على الله تعالى أن لم يبق من ذلك الكتاب نسخة أبين ولا أملح منها، وهي الآن برسم خزانة الكتب الموضوعة في الجامع القديم موقوفة على المسلمين، ومن أراد صدقي في ادعائي فليطالعه منها، ولم أظفر من مسموعاته في الأحاديث بشيء يمكنني أن أودعه هذا الكتاب مع أني لا أشك في سماعه، ولقد ذكر الحافظ أنه روى عنه خاله أبي الحسن هارون الزوزني عن أبي حاتم بن حيان ولم يقع إلى بعد، ومن شعره في بعض الأكابر:

يرتاح للجد مهتـزاً كـمـطـرد

 

مثقف من رماح الخط عـسـال

فمرة باسم عن ثغـر بـرق حـياً

 

وتارة كاشف عن نـاب رئبـال

فما أسامة مطـروراً بـراثـنـه

 

ضخم الجزارة يحمي خيس أشبال

يوماً بأشجع مه حشو مـلـحـمة

 

والحرب تصدع أبطالاً بأبـطـال

ولا خضارة صخابـاً غـواربـه

 

تسمو أواذيه حالاً عـلـى حـال

أندى واسمح مـنـه إذ يبـشـره

 

مبـشـوره بـرواد ونـــزال

إلى غير ذلك من أمثاله إلى تمام القصيدة، وله:

وذي شنب لو أن جمرة ظلمه

 

أشبهها بالجمر خفت به ظلما

فبضت عليه حالياً واعتنقتـه

 

فأوسعني شتماً وأوسعته لما

ومن شعره يصف البرد:

متناثر فوق الثرى حبـاتـه

 

كثغور معسول الثنايا أشنب

برد تحد من ذرى صخـابة

 

كالدر إلا أنه لـم يثـقـب

قال عبد الغافر: واقتصرت على هذا النموذج من كلامه مخافة الإملال، ومن أراد المزيد عليه فديوان شعره هزلاً وجداً موجود، والله يغفر له ويعفو عنه.

قال المؤلف: ولم أر من تصانيف البحاثي هذا شيئاً إلا شرح ديوان البحتري، ولعمري إن هذا شيء ابتكره، فإني ما رأيت هذا الديوان مشروحاً، ولا تعرض له أحد من أهل العلم ولا سمعت أحداً قال: إني رأيت ديوان أبي عبادة البحتري مشروحاً، وتأملته فرأيته قد ملئ علماً وحشي فهماً، وذاك أن شروح الدواوين المعرفة كأبي تمام والمتنبئ وغيرهما تساعدت القرائح عليها، وترافدت الهمم إليها، وما أرى له فيما اعتمده من شرح هذا الكتاب عمدة إلا أن يكون كتاب عبث الوليد للمعري، وكتاب الموازنة للآمدي لا غير. وقد ذكر البحاثي هذا أبو منصور الثعالبي في تتمة يتيمة الدهر بما أنا ذاكره إن شاء الله. قال أبو منصور: أبو جعفر محمد بن إسحاق البحاثي زينة زوزن، وطرف الطرف، وريحان الروح، يقول في هجاء لحيته الطويلة:

يا لحية قد علقت من عارضي

 

لا أستطيع لقبحها تشبـيهـاً

طالت فلم تفلح ولم تك لحـية

 

لتطول إلا والحماقة فـيهـا

إني لأظهر للبرية حـبـهـا

 

والله يعلم أننـي أقـلـيهـا

ويقول في ذم خال على وجه بعض من يهجوه:

أبو طاهر في الشؤم واللؤم غاية

 

بعيد عن الإسلام والعقل والدين

على وجهه خال قريب من انفه

 

كمثل ذباب واقع فوق سرقين

وله:

ينيكون غزلان الحـسـان ولا أرى

 

غزالاً من الغزلان فرداً بساحتـي

فمن يك قد لاقى من النـيك راحة

 

ففي راحتي أنسي ورفقي وراحتي

وله:

ولما رأيت الفقـر ضـربة لازب

 

ولم يك لي في الكف عقد على نقد

ولا لي غلام قد ينـاك ولـم يكـن

 

سبيل إلى الترك المكحلة الجـرد

شريت قبيحاً من بني الهند أسـوداً

 

ونيك الهنود السود خير من الجلـد

وله أيضاً يهجو:

فسوي وضرطي والخرا مائعاً

 

على الذي مقلوبه فـسـوى

من خلقه أقبح من خـلـقـه

 

وجحره أوسع مـن دلـوى

وله:

تعود هتك الستر نسوان سـكـبـر

 

وجئن لباس الفسق من أحسن الكسا

وطرن سروراً حين لقبن سكـبـراً

 

فسكبر إذ قلبته صار رب كـسـا

وللبحاثي في صفة دعوة:

سألونـا عـن قـراه

 

فاختصرنا في الجواب

كان فيه كـل شـيء

 

بارداً غير الشـراب

ومن خبيث شعره:

الحمد لله وشكـراً عـلـى

 

إنعامه الشامل في كل شيء

إن الذي لاعبني في الصبـا

 

مات ومن قد نكته بعد حي

نقلت من خط أبي سعد السمعاني عن رجل، عن أسعد بن محمد العتبي قال: حكى أبو جعفر البحاثي أن أبا بكر الصيفي كان يختلف معنا إلى الحاكم أبي سعد بن دوست وكان من أنجب تلامذته نظماً ونثراً، فاختطف في ريعان شبابه ونضارة عمره فرأيته في المنام ليلة قلت: ما وجدت من أشعارك شيئاً يكون لي تذكرة فقال: ليس لي شعر. فقلت: ألست القائل؟:

باكر أبا بكر بكـاس

 

ما بين إبريق وطاس

فقال: وأنا أقول:

حل الخطوب بساحتي

 

لا كنت أيتها الخطوب

غادرتنا فـغـدرت إ

 

ن الدهر خداع خلوب

دنيا تقضت لـم يكـن

 

لي في أطايبها نصيب

قال: فانتبهت وأشعلت السراج وكتبت عنه هذه الأبيات. حكى يعقوب بن أحمد النيسابوري أن القاضي البحاثي دخل على أبي سعد بن دوست فانشده:

ليت شعري إذا خرجت من الدن

 

يا فأصبحت ساكـن الأجـداث

هل يقولن إخوتي بعد مـوتـي

 

رحم الله ذلك الـبـحـاثـي؟

فلما مات البحاثي قال فيه أبو سعد بن دوست:

يا أبا جعفـر بـن إسـحـاق إنـي

 

خانـنـي فـيك نـازل الأحـداث

من هوى من مصاعد العز قـسـراً

 

يك تحت الرجـام فـي الأجـداث

فلك الـيوم مـن قـواف حـسـان

 

سرن في المدح سيرها في المراثي

مع كتب جمعـن فـي كـل فـن

 

حين يروين ألـف بـاك وراثــي

قائل كـلـهـا بـغـير لـســان

 

رحم الـلـه ذلـك الـبـحـاثـي

وذكر محمد بن محمود النيسابوري في كتاب سر السرور: أن شعر البحاثي على نيف عشرين ألف بيت وأنه وقف عليه في تسع مجلدات، فانتخبت من ذلك المنتخب في هذه الورقة:

بأبي من عند لثـمـي

 

زاد في عشقي بشتمه

ومضى يبكي ويمحـو

 

أثر اللثـم بـكـمـه

وله مثله:

بليت بطفل قل طائل نـفـعـه

 

سوى قبل يزرى بها طول منعه

ويمسحها من عارضيه بكـمـه

 

ويغسلها عن وجنتيه بدمـعـه

يكاشفني إن لاح شخصي بعينـه

 

ويغتابني إن مر ذكري بسمعـه

ولم أجد له في غير الهجاء السخيف شيئاً استحسنته، قال يهجو:

ألا إن هذا البيهقـي مـحـدث

 

مسيلمة الكذاب في جنبه ملـك

ففي وجهه قبح وفي قلبه عمى

 

وفي نطقه كذب وفي دينه حلك

لو ابن معين كـان حـيا لـجـاءه

 

بالسلح الكلـب لـحـيتـه دلـك

فلا تعجباً إن مد في عمر مثـلـه

 

ويهلك أهل الفضل إذ خرف الفلك

وله:

مأتم الشيخ مأنس لـلـكـرام

 

جئته قاضياً لحق الـحـمـام

مع حزن يحكي حزين الأغاني

 

وبكاء يحكي بكاء الحـمـام

كجهام الغمام جفناً ووجـهـاً

 

مكدي الدمع واري الابتسـام

وكان البارع الزوزني عرضة لأهاجيه وغرضاً لطعان قوافيه، وكان يلقبه بالباعر ويدعى أنه افترسه ظبياً غريراً وافترشه بدراً منيراً، فلما التحى أنكر صحبته، ونبذ وراء ظهره مودته، فمن ذلك:

كان البويعر بدراً في حـداثـتـه

 

ما كان أحسنه وجهـاً وأبـهـاه

والطيب اجمع فيما تحت مـئزره

 

والسحر ما بثه في الناس عينـاه

ربيته وهو في حجري ألاعـبـه

 

نهاره وفـراشـي كـان مـأواه

أفيده من جنايا العلم أحـسـنـهـا

 

واستفيد لذيذاً مـن جـنـى فـاه

حتى إذا ما عشا جلد استه وغـدا

 

مشعراً ودجا واسـود قـطـراه

وصار كلباً وخـنـزيراً وزوبـعة

 

وغول قفر يميت الإنس لـقـياه

أنشأ يمزق عرضي منكراً أدبـي

 

وليس يحسـن إلا مـا أفـدنـاه

إن كان ينكر ما قدمت من أدبـي

 

فليس ينكر أيرى شم مـفـسـاه

لو لم تغير صروف الدهر صورته

 

لكان مغفورة عنـدي خـطـاياه

وله في السخف أبيات وله:

إني لمرزوق من الناس إذ

 

أصبحت من أحذق حذاقهم

ما ذاك من فضل ولكننـي

 

أخالق الناس باخلاقـهـم