باب الميم - محمد بن جرير بن يزيد بن كثير

محمد بن جرير بن يزيد بن كثير

بن غالب أبو جعفر الطبري المحدث الفقيه المقرئ المؤرخ المعروف المشهور. مات فيما ذكره أبو بكر الخطيب يوم السبت لأربع بقين من شوال سنة عشر وثلاثمائة، ودفن يوم الأحد بالغداة في دار برحبة يعقوب ولم يغبر شيبه، وكان السواد في شهره رأسه ولحيته كثيراً. ومولده سنة أربع أو أول سنة خمس وعشرين ومائتين. وكان أسمر إلى الأدمة أعين نحيف الجسم مديد القامة فصيح اللسان.

قال غير الخطيب: ودفن ليلاً خوفاً من العامة لأنه كان يتهم بالتشيع، وأما الخطيب فإنه قال: ولم يؤذن به أحد فاجتمع على جنازته من لا يحصى عددهم إلا الله، وصلى على قبره عدة شهور ليلاً ونهاراً، ورثاه خلق كثير من أهل الدين والأدب.

قال وسمع محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، وأحمد ابن منيع البغوي، وأحمد بن حميد الرازي، وأبا همام الوليد ابن شجاع، وأبا كريب محمد بن العلاء، وعدد خلقاً كثيراً من أهل العراق والشام ومصر. وحدث عنه أحمد بن كامل القاضي وغيره، واستوطن بغداد وأقام بها إلى حين وفاته. قال: وكان أحد أئمة العلماء يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظاً لكتاب الله عز وجل، عارفاً بالقرآن بصيراً بالمعاني، فقيهاً بأحكام القرآن عالماً بالسنن وطرقها وصحيحيها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك، وكتاب في تفسير القرآن لم يصنف أحد مثله، وكتاب سماه تهذيب الآثار لم أرسواه في معناه لم يتممه، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة واختيار من أقاويل الفقهاء، وتفرد بمسائل حفظت عنه.

قال الخطيب: وسمعت علي بن عبيد الله اللغوي السمسمي يحكي أن محمد بن جرير مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة قال: وقال أبو حامد الإسفرايني الفقيه: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيراً، أو كلاماً هذا معناه.

وحدث عن القاضي أبي عمر عبيد الله بن أحمد السمسار وأبي القاسم بن عقيل الوراق أن أبا جعفر الطبري قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ قال: ثلاثون ألف ورقة. فقالوا: هذا مما يفني الأعمار قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة ثم قال تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا كم قدره؟ فذكر نحواً مما ذكره في التفسير، فأجابوه بمثل ذلك فقال: إنا الله ماتت الهمم، فاختصر في نحو مما اختصر التفسير.

وحدث فيما أسنده إلى أبي بكر بن بالويه قال: قال لي أبو بكر محمد بن إسحاق يعني ابن خزيمة: بلغني أنك كتبت التفسير عن محمد بن جرير؟ قلت تعم، كتبنا التفسير عنه إملاء، قال كله؟ قلت نعم، قال في أي سنة؟ قلت: من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة تسعين. قال: فاستعاره مني أبو بكر ورده بعد سنين ثم قال: نظرت فيه من أوله إلى آخره، وما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة قال: وكانت الحنابلة تمنع ولا تترك أحداً يسمع عليه، وأنشد محمد بن جرير:

إذا أعسرت لم أعلم رفـيقـي

 

وأستغني فيستغني صـديقـي

حياتي حافظ لي ماء وجهـي

 

ورفقي في مطالبتي رفقـي

ولو أني سمحت ببذل وجهـي

 

لكنت إلى الغنى سهل الطريق

وأنشد أيضاً:

خلقان لا أرضى طريقهمـا

 

تيه الغنى ومذلة الـفـقـر

فإذا غنيت فلا تكن بـطـراً

 

وإذا افتقرت فته على الدهر

وحدث فيما أسنده إلى محمد بن جرير قال: كتب إلى أحمد بن عيسى العلوي من بلد:

ألا إن إخوان الثـقـات قـلـيل

 

فهل لي إلى ذاك القليل سبـيل؟

سل الناس تعرف غثهم من سمينهم

 

فكل عـلـيه شـاهـد ودلـيل

قال أبو جعفر فأجبته:

يسئ أميري الظن في جهد جاهد

 

فهل لي بحسن الظن منه سبيل؟

تأمل أميري ما ظننت وقلته

 

فإن جميل القول منك جميل

هذا آخر ما نقلته من تاريخ أبي بكر.

وحدث عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني في كتابه المعروف بكتاب الصلة، وهو كتاب وصل به تاريخ ابن جرير: أن قوماً من تلاميذ ابن جرير حصلوا أيام حياته منذ بلغ الحلم إلى أن توفي وهو ابن ست وثمانين، ثم قسموا عليها أوراق مصنفاته فصار منها على كل يوم أربع عشر ورقة، وهذا شيء لا يتهيأ لمخلوق إلا بحسن عناية الخالق. وفرغ من تصنيف كتاب التاريخ ومن عرضه عليه في يوم الأربعاء لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثمائة وقطعه على آخر سنة اثنتين وثلاثمائة. وجدت على جزء من كتاب التفسير لابن جرير بخط الفرغاني، ما ذكر فيه قطعة من تصانيف ابن جرير فنقلته على صورته لذلك وهو: قد أجزت لك يا علي بن عمران، وإبراهيم بن محمد ما سمعته من أبي جعفر الطبري رحمه الله من كتاب التفسير المسمى بجامع البيان عن تأويل آي القرآن، وكتاب تاريخ الرسل والأنبياء والملوك والخلفاء، والقطعين من الكتاب ولم أسمعه وإنما أخذته إجازة، وكتاب تاريخ الرجال المسمى بذيل المذيل، وكتاب القراءات وتنزيل القرآن، وكتاب لطيف القول وخفيفه في شرائع الإسلام، وما سمعته من كتاب التهذيب من مسند العشرة، ومسند ابن عباس إلى حديث المعراج، وكتاب آداب القضاة والمحاضر والسجلات، وكتاب اختلاف علماء الأمصار فليرويا ذلك عني. وكتب عبد الله بن أحمد الفرغاني بخطه في شعبان سنة ست وثلاثين وثلاثمائة.

وحدث أبو علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ في كتاب الإقناع في إحدى عشرة قراءة قال: كان أبو جعفر الطبري عالماً بالفقه والحديث والتفاسير والنحو واللغة والعروض، له في جميع ذلك تصانيف فاق بها على سائر المصنفين، وله في القراءات كتاب جليل كبير رأيته في ثماني عشرة مجلدة إلا أنه كان بخطوط كبار، ذكر فيه جميع القراءات من المشهور والشواذ وعلل ذلك وشرحه، واختار منها قراءة لم يخرج بها من المشهور ولم يكن منتصباً للإقراء، ولا قرأ عليه أحداً إلا آحاد من الناس كالصفار شيخ كان ببغداد من الجانب الشرقي يروي عنه رواية عبد الحميد بن بكار عن ابن عامر. وأما القراءة عليه باختياره فإني ما رأيت أحداً أقرأ به غير أبي الحسين الجبي وكان ضنيناً به، ولقد سألته زماناً حتى أخذ علي به قال: وترددت إلى أبي جعفر نحواً من سنة أسأله ذلك زماناً حتى أجرمت عليه وسألته وكنت قد سمعت منه صدراً من كتبه فأخذه علي على جهته وقال: لا تنسبها إلي وأنا حي، فما أقرأت بها أحداً حتى مات رحمه الله في شوال سنة عشر وثلاثمائة.

وقال أبو الحسين الجبي: ما قرأ عليه به إلا اثنان وأنت ثالثهم، ولا قرأ عليه أحد إلى أن مات سنة ثمانين وثلاثمائة. وقرأت بخط أبي سعد بإسناده رقعة إلى أبي العباس البكري من ولد أبي بكر الصديق قال: جمعت الرحلة بين محمد بن جرير الطبري ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن هارون الروياني بمصر، فأرملوا وافتقروا ولم يبق عندهم ما يمونهم، وأضربهم الحال فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه واتفقوا على أن يستهموا، فمن خرجت عليه القرعة سأل الناس لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الخيرة، فاندفع بالصلاة فإذا هم بالشموع وخصي من قبل والي مصر يدق عليهم فأجابوه وفتحوا له الباب فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقيل هذا وأشاروا إليه، فأخرج صرة فيها خمسون ديناراً ودفعها إليه وقال: أيكم محمد بن جرير؟ فأشاروا إليه فدفع إليه خمسين ديناراً ثم قال: أيكم محمد بن هارون؟ فقيل هذا، فدفع إليه مثلها ثم قال: وأيكم محمد بن إسحاق ابن خزيمة؟ فقيل هو ذا يصلي، فلما فرغ من صلاته دفع إليه صرة فيها خمسون ديناراً ثم قال: إن الأمير كان قائلاً فرأى في النوم خيالً أو طيفاً يقول له: إن المحامد طووا كشحهم، فبعث بهذه الصرر وهو يقسم عليكم إذا نفذت أن تبعثوا إليه ليزيدكم.

قال المؤلف: وقد ذكر أبو بكر الخطيب هذه الحكاية في ترجمة محمد بن حرب إلا أنني نقلتها من كتاب السمعاني وسأله يوماً سائل عن نسبه فقال: محمد بن جرير. فقال السائل: زدنا في النسب، فأنشده لرؤبة:

قد رفع العجاج ذكري فادعنـي

 

باسمي إذا الأنساب طالت يكفني

قال القاضي ابن كامل: كان مولده في آخر سنة أربع وعشرين ومائتين، أو أول خمسة وعشرين ومائتين. قال ابن كامل: فقلت له: كيف وقع لك الشك في ذلك؟ فقال: لأن أهل بلدنا يؤرخون الأحداث دون السنين، فأرخ مولدي بحدث كان في البلد، فلما نشأت سألت عن ذلك الحادث، فاختلف المخبرون لي فقال بعضهم: كان ذلك في آخر سنة أربع. وقال آخرون: بل كان في أول سنة خمس وعشرين ومائتين، وكان مولده بآمل طبرستان، وهي قصبة طبرستان.

قال أبو جعفر: جئت إلى أبي حاتم السجستاني وكان عنده حديث عن الأصمعي عن أبي زائدة عن الشعبي في القياس فسألته عنه فحدثني به. وقال لي أبو حاتم: من أي بلد أنت؟ فقلت: من طبرستان. فقال: ولم سميت طبرستان؟. فقلت: لا أدري. فقال لما افتتحت وابتدئ ببنائها كانت أرضاً ذات شجر فالتمسوا ما يقطعون به الشجر، فجاؤوهم بهذا الطبر الذي يقطع به الشجر فسمى الموضع به.

وقال أبو بكر بن كامل: جئت إلى أبي جعفر قبل المغرب ومعي ابني أبو رفاعة وهو شديد العلة، فوجدت تحت مصلاه كتاب فردوس الحكمة لعلي بن زين الطبري سماعاُ له، فمددت يدي لأنظره، فأخذه ودفعه إلى الجارية وقال لي: هذا ابنك؟ فقال: قلت نعم. قال: ما اسمه؟ قلت عبد الغني. قال: أغناه الله وبأي شيء كنيته؟ قلت بأبي رفاعة. قال: - رفعه الله - أفلك غيره؟ قلت: نعم، أصغر منه. قال: وما اسمه؟ قلت عبد الوهاب أبو يعلى: قال - أعلاه الله -: لقد اخترت الكني والأسماء، ثم قال لي: كم لهذا سنة؟ قلت: تسع سنين. قال لم لم تسمعه مني شيئاً؟. قلت كرهت صغره وقلة أدبه. فقال لي: حفظت القرآن ولي سبع سنين، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتب الحديث وأنا ابن تسع سنين، ورأى لي أبي في النوم أنني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معي مخلاة مملوءة حجارة وأنا أرمي بين يديه. فقال له المعبر: إنه كبر نصح في دينه وذب عن شريعته، فحرص أبي على معونتي على طلب العلم وأنا حينئذ صبي صغير.

قال ابن كامل: فأول ما كتب الحديث ببلده ثم بالري وما جاورها وأكثر من الشيوخ حتى حصل كثيراً من العلم وأكثر من محمد بن حميد الرازي، ومن المثنى بن إبراهيم الأبلي وغيرهم.

قال أبو جعفر: كنا نكتب عند محمد بن حميد الرازي فيخرج إلينا في الليل مرات ويسألنا عما كتبناه ويقرؤه علينا قال: وكنا نمضي إلى أحمد بن حماد الدولابي وكان في قرية من قرى الري بينها وبين الري قطعة، ثم نعدو كالمجانين حتى نصير إلى ابن حميد فنلحق مجلسه. وكتب عن أحمد بن حماد كتاب المبتدأ، والمغازي عن سلمة بن المفضل عن محمد بن إسحاق وعليه بني تاريخه. يقال: إنه كتب عن ابن حميد فوق مائة ألف حديث.

قال أبو جعفر: كان يقرأ علينا ابن حميد من التفسير، فإذا بلغ إلى قوله عز وجل: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك)، قال: أويخرجوك. ثم دخل أبو جعفر إلى مدينة السلام وكان في نفسه أن يسمع من أبي عبد الله أحمد بن حنبل فلم يتفق ذلك لموته قبيل دخوله إليها، وقد كان أبو عبد الله قطع الحديث قبل ذلك بسنين، فأقام أبو جعفر بمدينة السلام وكتب عن شيوخها فأكثر، ثم انحدر إلى البصرة فسمع من كان بقي من شيوخها في وقته كمحمد بن موسى الحرشي، وعماد بن موسى القزاز، ومحمد ابن عبد الأعلى الصنعاني، وبشر بم معاذ، وأبي الأشعث، ومحمد بن بشار بندار، ومحمد بن المعني وغيرهم فأكثر، وكتب في طريقه عن شيوخه الواسطيين، ثم صار إلى الكوفة فنكتب فيها عن أبي كريب محمد بن العلاء الهمذاني، وهناد بن السري وإسماعيل بن موسى، وغيرهم. وكان أبو كريب شرس الخلق من كبار أصحاب الحديث.

قال أبو جعفر: حضرت باب داره مع أصحاب الحديث فاطلع من باب خوخة له، وأصحاب الحديث يلتمسون الدخول ويضجون فقال: أيكم بحفظ ما كتب عني؟ فالتفت بعضهم إلى بعض ثم نظروا إلي وقالوا: أنت يحفظ ما كتبت عنه؟ قال: قلت نعم. فقالوا: هذا فسله. فقلت: حديثنا في كذا بكذا، وفي يوم كذا بكذا. قال: واخذ أبو كريب في مسألته إلى أن عظم في نفسه فقال له: أدخل إلي، فدخل إليه وعرف قدره على حداثته ومكنه من حديثه، وكان الناس يسمعون به فيقال: إنه سمع من أبي كريب أكثر من مائة ألف حديث، ثم عاد إلى مدينة السلام فكتب بها ولزم المقام بها مدة وتفقه بها وأخذ في علوم القرآن. وقال رجل لأبي جعفر: إن أصحاب الحديث يختارون فقال: ما كنا نكتب هكذا كتبت مسند يعقوب بن إبراهيم الدورقي وتركت شيئاً منه ولم أعلم ما كتبت منه ثم رجعت لأضع الحديث موضعه وأصنفه، فبقى علي حديث كثير مما كتبته وطال علي ما فاتني، وكتبت المسند كله ثانياً، والناس يختارون، فربما فاتهم أكثر ما يحتاجون إليه أو نحو هذا الكلام. ثم غرب فخرج إلى مصر وكتب في طريقه من المشايخ بأجناد الشام والسواحل والثغور وأكثر منها، ثم صار إلى الفسطاط في سنة ثلاث وخمسين ومائتين، وكان بها بقية من الشيوخ وأهل العلم فأكثر عنهم الكتبة من علوم مالك والشافعي وابن وهب وغيرهم ثم عاد إلى الشام ثم رجع إلى مصر، وكان بمصر وقت دخوله إليها أبو الحسن على بن سراج المصري، وكان متأدباً فاضلاً في معناه، وكان من دخل الفسطاط من أهل العلم إذا ورد لقيه، وتعرض له فوافي أبو جعفر إلى مصر، وبان فضله عند وروده إليها في القرآن والفقه الحديث واللغة والنحو والشعر، فلقيه أبو الحسن بن سراج فوجده فاضلاً في كل ما يذاكره من العلم، ويجيب في كل ما يسأله عنه حتى سأله عن الشعر فرآه فاضلاً بارعاً فيه، فسأله عن شعر الطرماحوكان من يقوم به مفقوداً في البلد فإذا هو يحفظه، فسئل أن يمليه حفظاً بغريبة، فعهدي به وهو يمليه عند بيت المالفي الجامع. وكان قد لقي بمصر أبا إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم المزني فتكلما في أشياء منها الكلام في الإجماع، وكان أبو جعفر قد أختار من كذاهب الفقهاء قولاً اجتهد فيه بعد أن كان ابتدأ بالفقه في المدينة السلام على مذهب الشافعي رضى الله عنه، وكتب كتابه عن الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني ودرسه في العراق على جماعة منهم: أبو سعيد الإصطخري وغيره وهو حدث قبل خروجه إلى الفسطاط. وقال أبو بكر بن كامل: خرج إلينا ليلة أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد ونحن تقرأ عليه كتاب قراءة أبي عمر بن العلاء الكبير فوجدنا نتناظر في: بسم الله الرحمن الرحيم، مع بعض إخواننا من الشافعيين، وهل هي من فاتحة الكتاب أم لا؟ وكان المجلس حفلاً بجماعة من الفقهاء من أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأصحابنا، وكان يسميني في بعض الأوقات لقراءتي عليه الكسائي. فقال لي: كسائي فيم أنتم؟ فعرفته فقال: وعلى مذهب من تتفقه؟ فقلت على مذهب أبي جعفر الطبري. فقال رحم الله أبا جعفر، حديثاً بحديث نوح بن أبي بلال عن سعيد المقبري عن أبي هريرة في: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم اخذ أبو بكر بن مجاهد في مدح أبي جعفر الطبري وقال: بلغنا أنه التقى مع المزني فلا تسأل كيف استظهاره عليه؟ والشافعيون حضور يسمعونه ولم يذكر مما جرى بينهما شيئاً. قال أبو بكر بن كامل: سألت أبا جعفر عن المسألة التي تناظر فيها هو والمزني فلم يذكرها لأنه كان افضل من أن يرفع نفسه وأن يذكر ظفره على خصم في مسألة، وكان أبو جعفر يفضل المزني فيطريه ويذكر دينه وقال: جفاني بعض أصحابه في مجلسه فانقطعت عنه زماناً ثم إنه لقيني فاعتذر إلي كأنه قد جنى جناية ولم يزل في ترققه وكلامه حتى عدت إليه. وبلغنا أنه سئل بالفسطاط أن يرد على مالك في شيء فرد عليه في شيء كان الكلام فيه لابن عبد الحكم وكانت أجزاء ولم تقع في أيدينا، ولعله مما منع الخصوم نشره. وقال لنا أبو جعفر: لما وردت مصر في سنة ست وخمسين ومائتين نزلت على الربيع بن سليمان فأمر من يأخذ لي داراً قريبة منه وجاءني أصحابه فقالوا: تحتاج إلى قصرية وزير وحمارين وسدة. فقلت: أما القصرية فأنا لا ولد لي، وما حللت سراويلي على حرام ولا حلال قط، وأما الزير فمن الملاهي وليس هذا من شأني، وأما الحماران فإن أبي وهب لي بضاعة أنا أستعين بها في طلب العلم، فإن صرفتها في ثمن حمارين فبأي شيء اطلب العلم؟. قال: فتبسموا فقلت: إلى كم تحتاج هذا؟ فقالوا يحتاج إلى درهمين وثلثين، فأخذوا ذلك مني وعلمت أنها أشياء متفقة، وجاءوني بإجانه وحب للماء وأربع خشبات قد شدوا وسطها بشريط وقالوا: الزير للماء، والقصرية للخبر  والحماران والسدة تنام عليها من البراغيث فنفعني ذلك، وكثرت البراغيث فكنت إذا جئت نزعت ثيابي وعلقتها على حبل قد شددته واتزرت وصعدت إلى السدة خوفاً منها.

وقال هارون بن عبد العزيز: قال أبو جعفر: لما دخلت مصر لم يبق أحد من أهل العلم إلا لقيني وامتحنني في العلم الذي يتحقق به، فجاءني يوماً رجل فسألني عن شيء من العروض ولم أكن نشطت له قبل ذلك، فقلت له: على قول ألا أتكلم اليوم في شيء من العروض فإذا كان في غد فصر إلي، وطلبت من صديق لي العروض للخليل بن أحمد فجاء به، فنظرت فيه ليلتي فأمسيت غير عروضي وأصبحت عروضياً. ثم رجع إلى مدينة السلام وكتب أيضاً ثم رجع إلى طبرستان وهي الدفعة الأولى، ثم الثانية كانت في سنة تسعين ومائتين، ثم رجع إلى بغداد فنزل في قنطرة البردان واشتهر اسمه في العلم وشاع خبره بالفهم والتقدم.

قال عبد العزيز بن هارون: لما دخل أبو جعفر إلى الدينور ماضياً إلى طبرستان دعاه بعض أهل العلم بها، فلما اجتمعا قلت يا أبا جعفر، ما يحسن بنا أن نجتمع ولا نتذاكر، فقال عبد اله بن حمدان: قد ذاكرته فأغربت عليه خمسة وثمانين حديثاً، وأغرب علي ثمانية عشر حديثاً قال عبد العزيز: ثم لقيت بعد ذلك أبا بكر بن سهل الدينوري وكان من العلماء والحفاظ للحديث فحدثته بذلك فقال: كذب، والله الذي لا إله إلا هو لقد قدم إلينا أبو جعفر فدعاه المعروف بالكسائي ودعا معه أهل العلم وكنت حاضراً ومعنا بان حمدان فقرأ على أبي جعفر كتاب الجنائز من الاختلاف فقال له أبو جعفر: ليس يصلح لنا أن نفترق من غير مذاكرة، وهذا كتاب الجنائز فنتذاكر بمسنده ومقطوعه، وما اختلف فيه الصحابة والتابعون والعلماء. فقال ابن حمدان: أما المسند فأذاكر به، وأما سواه فلا أذاكر به، فأغرب عليه ثلاثة وثمانين حديثاً، وأغرب عليه ابن حمدان ثمانية عشر حديثاً، وكان ابن حمدان فيما أغرب به على أبي جعفر أقبح مما أغرب به أبو جعفر لأنه كان إذا أغرب ابن حمدان بحديث قال له أبو جعفر: هذا خطأ من جهة كذا، ومثلي لا يذاكر به فيخجل وينقطع. فلما قدم إلى بغداد من طبرستان بعد رجوعه إليها تعصب عليه أبو عبد الله الجصاص، وجعفر بن عرفة، والبياضي. وقصده الحنابلة فسألوه عن أحمد بن حنبل في الجامع يوم الجمعة وعن حديث الجلوس على العرش.

فقال أبو جعفر: أما أحمد بن حنبل فلا يعد خلافه. فقالوا له: فقد ذكره العلماء في الاختلاف فقال: ما رأيته روى عنه ولا رأيت له أصحاباً يعول عليهم. وأما حديث الجلوس على العرش فمحال ثم أنشد:

سبحان من ليس له أنيس

 

ولا له في عرشه جليس

فلما سمع ذلك الحنابلة منه وأصحاب الحديث وثبوا ورموه بمحابرهم وقيل كانت ألوفاً، فقام أبو جعفر بنفسه ودخل داره، فرموا داره بالحجارة حتى صار على بابه كالتل العظيم، وركب نازوك صاحب الشرطة في عشرات ألوف من الجند يمنع عنه العامة، ووقف على بابه يوماً إلى الليل وأمر برفع الحجارة عنه. وكان قد كتب على بابه:

سبحان من ليس له أنيس

 

ولا له في عرشه جليس

فأمر نازوك بمحو ذلك. وكتب مكانه بعض أصحاب الحديث:

لأحمد منزل لا شـك عـال

 

إذا وافى إلى الرحمن وافـد

فيدينـه ويقـعـده كـريمـاً

 

على رغم لهم في أنف حاسد

على عرش يفلغه بـطـيب

 

على الأكباد من باغ وعانـد

له هذا المقام الفـرد حـقـاً

 

كذاك رواه ليث عن مجاهد

فخلافي في داره وعمل كتابه المشهور في الاعتذار إليهم، وذكره مذهبه واعتقاده وجرح من ظن فيه غير ذلك، وقرأ الكتاب عليهم وفضل أحمد حنبل، وذكر مذهبه وتصويب اعتقاده ولم يزل في ذكره إلى أن مات، ولم يخرج كتابه في الاختلاف حتى مات فوجده مدفوناً في التراب فأخرجوه ونسخوه أعني اختلاف الفقهاء، هكذا سمعت من جماعة منهم أبي - رحمه الله -. وقال أبو محمد عبد العزيز بن محمد الطبري: كان أبو جعفر من الفضل والعلم والذكاء والحفظ على ما لا يجهله أحد عرفه لجمعه من علوم الإسلام ما لم نعلمه اجتمع لأحد من هذه الأمة، ولا ظهر من كتب المصنفين، وانتشر من كتب المؤلفين ما انتشر له، وكان راجحاً في علوم القرآن والقراءات وعلم التاريخ من الرسل والخلفاء والملوك واختلاف الفقهاء مع الراوية، كذلك على ما في كتابه البسيط والتهذيب وأحكام القراءات من غير تعويل على المناولات والإجازات ولا على ما قيل في الأقوال، بل يذكر ذلك بالأسانيد المشهورة، وقد بان فضله في علم اللغة والنحو على ما ذكره في كتاب التفسير وكتاب التهذيب مخبراً عن حاله فيه. وقد كان له قدم في علم الجدل يدل على ذلك مناقضاته في كتبه على المعارضين لمعاني ما أتى به، وكان فيه من الزهد والورع والخشوع والأمانة وتصفية الأعمال وصدق النية وحقائق الأفعال ما دل عليه كتابه في آداب النفوس، وكان يحفظ من الشعر للجاهلية والإسلام ما لا يجهله إلا جاهل به. وقال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد: سمعت ثعلباً يقول: قرأ علي أبو جعفر الطبري شعر الشعراء قبل أن يكثر الناس عندي بمدة طويلة. وقال أبو بكر بن مجاهد: قال أبو العباس يوماً: من بقى عندكم؟ يعني في الجانب الشرقي ببغداد من النحويين؟ فقلت: ما بقي أحد، مات الشيوخ. فقال: حتى خلا جانبكم؟ قلت: نعم إلا أن يكون الطبري الفقيه. فقال لي: ابن جرير؟ قلت: نعم، قال: ذاك من حذاق الكوفيين. قال أبو بكر: وهذا من أبي العباس كثير لأنه كان شديد النفس شرس الأخلاق، وكان قليل الشهادة لأحد بالحذق في علمه.

وقال عبد العزيز بن محمد: قنطرة البردان محفوظة من العلماء النحويين، كان فيها أبو عبيد القاسم بن سلام، ومسجده وراء سويقة جعفر معروف به، وكان فيها علان الأزدي ومسجده في الموضع معروف به، وكان بها أبو بكر هشام بن معاوية الضرير النحوي وكان فاضلاً مسجده عند مسجد أبي عبد الله الكسائي، وكان بها أبو عبيد الله محمد بن يحيى الكسائي، وعنه انتشرت رواية أبي الحارث عن الكسائي، وقرأ عليه كبار الناس، ونزلها أبو جعفر الطبري وكان أبو جعفر قد نظر في المنطق والحساب والجبر والمقابلة وكثير من فنون أبواب الحساب وفي الطب، وأخذ منه قسطاً وافراً يدل عليه كلامه في الوصايا، وكان عازفاً عن الدنيا تاركاً لها ولأهلها يرفع نفسه عن التماسها، وكان كالقارئ الذي لا يعرف إلا القرآن، وكالمحدث الذي لا يعرف إلا الحديث، وكالفقيه الذي لا يعرف إلا الفقه، وكالنحوي الذي لا يعرف إلا النحو، وكالحاسب الذي لا يعرف إلا الحساب وكان عالماً بالعبادات جامعاً للعلوم، وإذا جمعت بين كتبه وكتب غيره وجدت لكتبه فضلاً على غيرها. ومن كتبه: كتابه المسمى جامع البيان عن تأويل القرآن.

قال أبو بكر بن كامل: أملي علينا من كتاب التفسير مائة وخمسين آية، ثم خرج بعد ذلك إلى آخر القرآن فقرأه علينا وذلك في سنة سبعين ومائتين، واشتهر الكتاب وارتفع ذكره وأبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب، وأبو العباس محمد بن يزيد المبرد يحييان، ولأهل الإعراب والمعاني معقلان، وكان أيضاً في الوقت غيرهما مثل أبي جعفر الرستمي، وأبي حسن بن كيسان، والمفضل بن سلمة، والجعد، وأبي إسحاق الزجاج وغيرهم من النحويين من فرسان هذا اللسان، وحمل هذا الكتاب مشرقاً ومغرباً وقرأه كل من كان في وقته من العلماء، وكل فضله وقدمه.

قال أبو جعفر: حدثني بن نفسي وأنا صبي. قال عبد العزيز ابن محمد الطبري: كان أبو عمر الزاهد يعيش زماناً طويلاً بمقابلة الكتب مع الناس. قال أبو عمر: فسألت أبا جعفر عن تفسير آية فقال: قابلت هذا الكتاب من أوله إلى آخره فما وجدت فيه حرفاً واحداً خطأ في نحو ولا لغة. قال أبو جعفر: استخرت الله في عمل كتاب التفسير، وسألته العون على ما نويته ثلاث سنين قبل أن أعمله فأعانني.

وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني: أخبرني شيخ من جسر ابن عفيف قال: رأيت في النوم كأني في مجلس أبي جعفر والناس يقرؤون عليه كتاب التفسير، فسمعت هاتفاً بين السماء والأرض يقول: من أراد أن يسمع القرآن كما أنزل فليسمع هذا الكتاب. وقال أبو بكر محمد بن مجاهد: سمعت أبا جعفر يقول إني أعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذ بقراءته؟، وكتاب التفسير كتاب ابتدأه بخطبة، ورسالة التفسير تدل على ما خص الله به القرآن العزيز من البلاغة والإعجاز والفصاحة التي نافى بها سائر الكلام، ثم ذكر من مقدمات الكلام في التفسير وفي وجوه تأويل القرآن وما يعلم تأويله وما ورد في جواز تفسيره وما حظر من ذلك والكلام في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنزل القرآن على سبعة أحرف) وبأي الألسنة نزل؟ والرد على من قال: إن فيه أشياء من غير الكلام العربي وتفسير أسماء القرآن والسور وغير ذلك مما قدمه، ثم تلاه بتأويل القرآن حرفاً حرفاً فذكر أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من تابعي التابعين، وكلام أهل الإعراب من الكوفيين والبصريين، وجملاً من القراءات واختلاف القراءة فيما فيه من المصادر واللغات والجمع والتثنية، والكلام في ناسخه ومنسوخه وأحكام القرآن والخلاف فيه والرد عليهم من كلام أهل النظر فيما تكلم فيه بعض أهل البدع، والرد عليهم على مذاهب أهل الإثبات ومبتغى السنن إلى آخر القرآن، ثم أتبعه بتفسير أبي جاد وحروفها وخلاف الناس فيها، وما اختاره من تأويلها بما لا يقدر أحد أن يزيد فيه بل لا يراه مجموعاً لأحد غيره، وذكر فيه من كتب التفاسير المصنفة عن ابن عباس خمسة طرق، وعن سعيد بن جبير طريقين، وعن مجاهد بن جبر ثلاثة طرق، وربما كان عنه في مواضع أكثر من ذلك، وعن قتادة بن دعامة ثلاثة طرق، وعن الحسن البصري ثلاثة طرق، وعن عكرمة ثلاثة طرق، وعن الضحاك بن مزاحم طريقين، وعن عبد الله بن مسعود طريقاً، وتفسير عبد الرحمن بن زيد أسلم، وتفسير ابن جريج، وتفسير مقاتل بن حيان سوى ما فيه من مشهور الحديث عن المفسرين وغيرهم، وفيه من المسند حسب حاجته إليه، ولم يتعرض لتفسير غير موثوق به، فإنه لم يدخل في كتابه شيئاً عن كتاب محمد بن السائب الكلبي، ولا مقاتل بن سليمان، ولا محمد بن عمر الواقدي لأنهم عنده أظناء والله أعلم.

وكان إذا رجع إلى التاريخ والسير وأخبار العرب حكى عن محمد بن السائب الكلبي وعن ابنه هشام وعن محمد بن عمر الواقدي وغيرهم فيما يفتقر إليه ولا يؤخذ إلا عنهم، وذكر فيه مجموع الكلام والمعاني من كتاب علي بن حمزة الكسائي، ومن كتاب يحيى بن زياد الفراء، ومن كتاب أبي الحسن الأخفش، ومن كتاب أبي علي قطرب وغيرهم مما يقتضيه الكلام عند حاجته إليه، إذ كانوا هؤلاء هم المتكلمون في المعاني وعنهم يؤخذ معانيه وإعرابه، وربما لم يسمهم إذا ذكر شيئاً من كلامهم، وهذا كتاب يشتمل على عشرة آلاف ورقة أو دونها حسب سعة الخط أو ضيقه.

قال عبد العزيز بن محمد الطبري: وقد رأيت منه نسخة ببغداد تشتمل على أربعة آلاف ورقة. ومن كتبه: كتاب الفصل بين القراءة ذكر فيه اختلاف القراء في حروف القرآن وهو من جيد الكتب، وفصل فيه أسماء والقراء بالمدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام وغيرها، وفيه من الفصل بين كل قراءة فيذكر وجهها وتأويلها والدلالة على ما ذهب إليه كل قارئ لها، واختياره الصواب منها والبرهان على صحة ما اختاره مستظهراً في ذلك بقوته على التفسير والإعراب الذي لم يشتمل على حفظ مثله أحد من القراء، وإن كان لهم - رحمهم الله - من الفضل والسبق ما لا يدفع ذو بصيرة بعد أن صدره بخطبة تليق به، وكذلك كان يعمل في كتبه أن يأتي بخطبته على معنى كتابه فيأتي الكتاب منظوماً على ما تقتضيه الخطبة، وكان أبو جعفر مجوداً في القراءة موصوفاً بذلك يقصده القراء البعداء من الناس للصلاة خلفه يسمعون قراءته وتجويده. وقال أبو بكر بن كامل: قال لنا أبو بكر بن مجاهد: - وقد كان لا يجري ذكره إلا فضله -: ما صنف في معنى كتابة مثله، وقال لنا: ما سمعت في المحراب أقرأ من أبي جعفر، أو كلاماً هذا معناه. قال ابن كامل: وكان أبو جعفر يقرأ قديماً لحمزة قبل أن يختار قراءته. وقال أبو عبد الله بن أحمد الفرغاني: قال لنا أبو جعفر: قرأت القرآن على سليمان بن عبد الرحمن بن حماد الطلحي، وكان الطلحي قد قرأ على خلاد، وخلاد قرأ علي سليم بن عيسى، وسليم قرأ على حمزة، ثم أخذها أبو جعفر عن يونس بن عبد الأعلى عن علي بن كيسة عن سليم عن حمزة. وقال ابن كامل: قال لنا أبو بكر بن مجاهد وقد ذكر فضل كتابه في القراءات وقال: إلا أني وجدت فيه غلطاً وذكره لي، وعجبت من ذلك مع قراءته لحمزة وتجويده لها، ثم قال: والعلة في ذلك أبو عبيد القاسم بن سلام لأنه بنى كتابه على كتاب أبي عبيد فأغفل أبو عبيد هذا الحرف فنقله أبو جعفر على ذلك.

وقال أبو بكر بن كامل: قال لنا أبو جعفر وصف لي قارئ بسوق يحيى فجئت إليه فتقدمت فقرأت عليه من أول القرآن حتى بلغت إلى قوله: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً)، فأعاد على فأعدته في كل قراءتي بين فيه الياءين، وهو يرد على إلى أن قلت له: تريد أكثر من تبيين الياءين بكسر الأولى فلم يدر ما أقول، فقمت ولم أعد إليه. قال: وكان عند أبي جعفر رواية ورش عن ناقع عن يونس بن عبد الأعلى عنه، وكان يقصد فيها فحرص - على ما بلغني - أبو بكر ابن مجاهد - مع موضعه في نفسه وعند أبي جعفر - أن يسمع منه هذه القراءة منفرداً فأبى إلا أن يسمعها مع الناس، فما أثر ذلك في نفس أبي بكر وكان ذلك كرهاً من أبي جعفر أن يخص أحداً بشيء من العلم، وكان في أخلاقه ذلك لأنه كان إذا قرأ عليه جماعة كتاباً ولم يحضره أحدهم لا يأذن لبعضهم أن يقرأ دون بعض، وإذا سأله إنسان في قراءة كتاب وغاب لم يقرئه حتى يحضر إلا كتاب الفتوى فإنه كان أي وقت سئل عن شيء منه أجاب فيه. وكتابه في القراءات يشتمل على كتاب أبي عبيد القاسم بن سلام لأنه كان عنده عن أحمد بن يوسف الثعلبي عنه وعليه نبي كتابه. ومنها كتابه كتاب التاريخ الكبير المسمى بتاريخ الرسل والملوك وأخبارهم، ومن كان في زمن كل واحد منهم، بدأ فيه الخطبة المشتملة على معانيه ثم ذكر الزمان ما هو؟ ثم مدة الزمان على اختلاف أهل العلم من الصحابة وغيرهم والأمم المخالفة لنا في ذلك والسنن الدالة على ما اختاره من ذلك وهذا باب لا يندر وجوده إلا له. قال أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن محمد بن المغلس الفقيه وكان أفضل من رأيناه فهماً وعناية بالعلم ودرساً له: ولقد كان لعنايته بدرس العلم تعبي كتبه في جانب حائر ثم يبتدئ فيدرس الأول فالأول منها إلى أن يفرغ منها، وهو ينقلها إلى الجانب الآخر، فإذا فرغ منها عاد في درسها ونقلها إلى حيث كانت فقال يوماً: ما عمل أحد في تاريخ الزمان وحصر الكلام فيه مثل ما عمله أبو جعفر. قال: ولقد قال لي أبو الحسن بن المغلس يوماً وهو يذاكرنا شيئاً من العلم وفضل العلماء فقال: والله إني لأظن أبا جعفر الطبري قد نسي مما حفظ إلى أن مات ما حفظه فلان طول عمره، وذكر رجلاً كبيراً من أهل العلم. ثم ذكر أبو جعفر في التاريخ الكلام في الدلالة على ما حدث الزمان الأيام والليالي، وعلى أن محدثها الله عز وجل وحده، وذكر أول ما خلق وهو القلم وما بعد ذلك شيئاً شيئاً على ما وردت الآثار به، واختلاف الناس في ذلك. ثم ذكر آدم وحواء واللعين إبليس وما كان من نزول آدمٍ عليه السلام، وما كان بعده من أخبار نبي نبي ورسول رسول وملك وملك على اختصار منه كذلك إلى نبينا عليه السلام مع ملوك الطوائف وملوك الفرس والروم، ثم ذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسبه وآباءه وأمهاته وأولاده وأزواجه ومبعثه ومغازيه وسراياه وحال أصحابه رضي الله عنهم، ثم ذكر الخلفاء الراشدين المهديين بعده، ثم ذكر ما كان من أخبار بني أمية وبني العباس في القطين المنسوب أحدهما إلى قطع بني أمية والثاني إلى قطع بني العباس وما شرحه في كتاب التاريخ، وإنما خرج ذلك إلى الناس على سبيل الإجازة إلى سنة أربع وتسعين ومائتين، ووقف على الذي بعد ذلك لأنه كان في دولة المقتدر، وقد كان سئل شرح القطعين، فلما سئل ذلك شرحه وسماه القطعين، وهذا الكتاب من الأفراد في الدنيا فضلاً ونباهة، وهو يجمع كثيراً من علوم الدين والدنيا، وهو نحو خمسة آلاف ورقة. ومنها كتابة المسمى بكتاب ذيل المذيل المشتمل على تاريخ من قتل أو مات من أصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم في حياته أو بعده على ترتيب الأقرب بالأقرب منه أو من قريش من القبائل، ثم ذكر موت من مات من التابعين والسلف بعدهم ثم الخالفين إلى أن بلغ شيوخه الذين سمع منهم وجملاً من أخبارهم ومذاهبهم، وتكلم في الذب عن ذوي الفضل منهم ممن رمى بمذهب هو برئ منه كنحو الحسن البصري وقتادة وعكرمة وغيرهم، وذكر صنف من نسب إلى ضعف من الناقلين ولينه، وفي آخره أبواب حسان من باب من حدث عنه الإخوة أو الرجل وولده ومن شهر بكنيته دون اسمه، أو باسمه دون كنيته، وهو من محاسن الكتب وأفاضلها يرغب فيه طلاب الحديث وأهل التواريخ، وكان خرج إملاءه بعد سنة ثلاثمائة وهو في نحو من ألف ورقة، ومنها كتابه المشهور بالفضل شرقاً وغرباً المسمى بكتاب اختلاف علماء الأمصار في أحكام شرائع الإسلام، قصد به إلى ذكر أقوال الفقهاء وهم مالك بن أنس فقيه أهل المدينة بروايتين، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي فقيه أهل الشام، ومن أهل الكوفة سفيان الثوري بروايتين، ثم محمد بن إدريس الشافعي ما حدث به الربيع بن سليمان عنه، ثم من أهل الكوفة أبو حنيفة النعمان بن ثابت، وأبو يوسف يعقوب بن محمد الأنصاري، وأبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني مولى لهم، ثم إبراهيم بن خالد أبو نصر الكلبي، وقد كان أولاً ذكر في كتابه بعض أهل النظر وهو عبد الرحمن بن كيسان، لأنه كان في الوقت الذي عمله ما كان يتفقه على مذهبه، فلما طال الزمان به وفقه أصحابه بسهو أسقطه من كتابه، وكان أول ما عمل هذا الكتاب - على ما سمعته يقول وقد سأله عن ذلك أبو عبد الله أحمد بن عيسى الرازي -: إنما عمله ليتذكر به أقوال من يناظره، ثم انتشر وطلب منه فقرأه على أصحابه، وقد كان محمد بن داود الأصبهاني لما صنف كتابه المعروف بكتاب الوصول إلى معرفة الأصول ذكر في باب الإجماع عن أبي جعفر الطبري: أن الإجماع عنده إجماع هؤلاء المقدم ذكرهم الثمانية النفر دون غيرهم تقليداً منه لما قال أبو جعفر: أجمعوا وأجمعت الحجة على كذا، ثم قال في تصدير باب الخلاف: ثم اختلفوا فقال مالك وقال الأوزاعي كذا وقال فلان كذا: إن الذين حكى عنهم الإجماع هم الذين حكى عنهم الاختلاف وهذا غلط من ابن داود، ولو رجع إلى كتابه في رسالة اللطيف وفي رسالة الاختلاف وما أودعه  كثيراً من كتبه من أن الإجماع هو نقل المتواترين لما أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآثار دون أن يكون ذلك رأياً ومأخوذاً جهة القياس، لعلم أن ما ذهب إليه من ذلك غلط فاحش وخطأ بين. وكان أبو جعفر يفضل كتاب الاختلاف وهو أول ما صنف من كتبه وكان يقول كثيراً: لي كتابان لا يستغني عنهما فقيه: الاختلاف واللطيف، وكتاب الاختلاف نحو ثلاثة آلاف ورقة، ولم يستقص فيه اختياره لأجل أنه قد جود ذلك في كتاب اللطيف، ولئلا يتكرر كلامه في ذلك، وقد كان جعل لكتاب الاختلاف رسالة بدأ بها ثم قطعها، ذكر فيها عند الكلام في الإجماع وأخبار الآحاد والعدول زيادات ليست في كتاب اللطيف، وشيئاً من الكلام في المراسيل والناسخ والمنسوخ. وله كتاب الشروط المسمى أمثلة العدول وهو من جيد كتبه التي يعول عليها أهل مدينة السلام. وكان أبو جعفر مقدماً في علم الشروط قيماً به. ومن جياد كتبه: كتابه المسمى بكتاب لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام، وهو مجموع مذهبه الذي يعول عليه جميع أصحابه، وهو من أنفس كتبه وكتب الفقهاء، وأفضل أمهات المذاهب وأسدها تصنيفاً، ومن قرأه وتدبره رأي ذلك إن شاء الله. وكان أبو بكر بن راميك يقول: ما عمل كتاب في مذهب أجود من كتاب أبي جعفر اللطيف لمذهبه، وكان يعتذر في اختصاره كثيراً في أوله، وكتبه تزيد على كتاب الاختلاف في القدر ثلاثة كتب: كتاب اللباس، كتاب أمهات الأولاد، كتاب الشرب وهو من جيد الكتب وأحسنها وهو كالمنفرد فيه، ولا يظن ظان أن قوله: كتاب الطيف إنما أراد به صغره وخفة محمل وزنه، وإنما أراد بذلك لطيف القول كدقة معانيه وكثرة ما فيه من النظر والتعليلات، وهو يكون نحو ألفين وخمسمائة ورقة. وفيه كتاب جيد في الشروط يسمى بأمثلة العدول من اللطيف، ولهذا الكتاب رسالة فيها الكلام في أصول الفقه، والكلام وفي الإجماع وأخبار الآحاد والمراسيل والناسخ والمنسوخ في الأحكام، والمجمل والمفسر من الأخبار والأوامر والنواهي، والكلام في أفعال الرسل الخصوص والعموم والاجتهاد، وفي إبطال الاستحسان إلى غير ذلك مما تكلم فيه. ومن جياد كتبه: كتابه المعروف بكتاب الخفيف في أحكام شرائع الإسلام وهو مختصر من كتاب اللطيف، وقد كان أبو أحمد العباس بن الحسن العزيزي أراد النظر في شيء من الأحكام فراسله في اختصار كتاب له، فعمل هذا الكتاب ليقرب متناوله وهو نحو من الأربعمائة ورقة، وهو كتاب قريب على الناظر فيه كثير المسائل يصلح لتذكر العالم والمبتدئ المتعلم. ومنها كتاب تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله صلى عليه وسلم من الأخبار، وهو كتاب يتعذر على العلماء عمل مثله ويصعب عليهم تتمته. قال أبو بكر بن كامل: لم أر بعد أبي جعفر أجمع للعلم وكتب العلماء ومعرفة اختلاف الفقهاء وتمكنه من العلوم منه، لأني أروض نفسي في عمل مسند عبد الله بن مسعود في حديث منه نظير ما عمله أبو جعفر فما أحسن عمله ولا يستوي لي.

ومن كتبه الفاضلة: كتابه المسمى بكتاب المسمى بكتاب بسيط القول في أحكام شرائع الإسلام، وهذا الكتاب قدم له كتاباً سماه كتاب مراتب العلماء حسناً في معناه، ذكر فيه خطبة الكتاب وحض فيه على طلب العلم والتفقه وغمز فيه على من اقتصر من أصحابه على نقله دون التفقه بما فيه. ثم ذكر فيه العلماء ممن تفقه مذهبه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أخذ عنهم، ثم من أخذ عنهم ثم من أخذ عمن أخذ عنهم من فقهاء الأمصار. بدأ بالمدينة لأنها مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم ومن خلفه أبو بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم، ثم بمكة لأنها الحرم الشريف، ثم العراقين الكوفة والبصرة ثم الشام وخراسان، ثم خرج إلى كتاب الصلاة بعد ذكر الطهارة، وذكر في هذا الكتاب اختلاف المختلفين واتفاقهم فيما تكلموا فيه على الاستقصاء والتبيين في ذلك والدلالة لكل قائل منهم، والصواب من القول في ذلك، وخرج منه نحو ألفي ورقة. وأخرج من هذا الكتاب كتاب آداب القضاة وهو أحد الكتب المعدودة له المشهورة بالتجويد والتفضيل، لأنه ذكر فيه بعد خطبة الكتاب الكلام في مدح القضاة وكتابهم، وما ينبغي للقاضي إذا ولي أن يعمل به وتسليمه له ونظره فيه ثم ما ينقض فيه أحكام من تقدمه، والكلام في السجلات والشهادات والدعاوى والبينات وسيأتي ذكر ما يحتاج إليه الحاكم من جميع الفقه إلى أن فرغ منه وهو في ألف ورقة، وكان يجتهد بأصحابه أن يأخذوا البسيط والتهذيب ويجدوا في قراءتهما، ويشتغلوا بهما دون غيرهما من الكتب.

ومن جياد كتبه: كتابه المسمى بكتاب أدب النفوس الجيدة والأخلاق النفيسة، وربما سماه بأدب النفس الشريفة والأخلاق الحميدة، وربما زاد في ترجمته المشتمل على علوم الدين والفضل والورع والإخلاص والشكر والكلام في الرياء والكبر والتخاضع والخشوع والصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبدأ فيه بالكلام في الوسوسة وأعمال القلوب، ثم ذكر شيئاً كثيراً من الدعاء وفضل القرآن وأوقات الإجابة ودلائلها، وما روى من السنن وأقوال الصحابة والتابعين في ذلك، وقطع الإملاء في بعض الكلام في الأمر بالمعروف والنهي والمنكر، وكان ما خرج منه نحو خمسمائة ورقة، وكان قد عمل أربعة أجزاء ولم يخرجها إلى الناس في الإملاء، ووقع ذلك إلى أبي سعيد عمر بن أحمد الدينوري الوراق، وخرج به إلى الشام فقطع عليه ولم يبق معه إلا جزءان فيهما الكلام في حقوق الله الواجبة على الإنسان في بصره والحقوق الواجبة في سمعه، وكان ابتدأ في سنة عشر وثلاثمائة، ومات بعد مديدة من قطعة الإملاء وكان يقول: إن خرج هذا الكتاب كان فيه جمال لأنه كان أراد أن يخرج بعد الكلام في الحقوق اللازمة للإنسان إلى ما يعيذنا منه من أهوال القيامة وشروطها وأحوال الآخرة وما ورد فيها وذكر الجنة والنار. ومما صنف وخرج: كتاب المسند المجرد، وقد كتب أصحابه الحديث الأكثر منه، وذكر فيه من حديثه عن الشيوخ ما قرأه على الناس. ومنها كتابه المسمى بكتاب الرد على ذي الأسفار يرد فيه على داود بن علي الأصبهاني، وكان سبب تصنيف هذا الكتاب أن أبا جعفر كان قد لزم داود بن علي مدة، وكتب من كتبه كثيراً. ووجدنا في ميراثه من كتبه ثمانين جزءاً بخطه الدقيق، وكان فيها المسألة التي جرت بن داود بن على وبين أبي المجالد الضرير المعتزلي بواسط عند خروجهما إلى الموفق لما وقع التنازع في خلق القرآن، وكان داود بن علي قد أخذ من النظر ومن الحديث ومن الاختلاف ومن السنن حظاً ليس بالمتسع، وكان بسيط اللسان حسن الكلام متمكناً من نفسه، وله أصحاب فيهم دعابة قد تمكنت منهم حنى صارت لبعضهم خلقاً يستعمله في النظر لقطع مخالفيه. وكان ربما ناظر داود ابن علي الإثبات في المسألة في الفقه فيراه مقصراً في الحديث فينقله إليه أو يكلمه في الحديث فينقله إلى الفقه أو إلى الجدل إذا كان خصمه مقصراً فيهما، وكان هو مقصراً في النحو واللغه وإن كان عارفاً بقطعة منه. وكان أبو جعفر ملياً بما نهض فيه من أي علم كان، وكان متوقفاً عن الأخلاق التي لا تليق بأهل العلم ولا يؤثرها إلى أن مات، وكان يحب الجد في جميع أحواله. وجرت مسألة يوماً بين داود بن علي وبين أبي جعفر فوقف الكلام على داود بن علي فشق ذلك على أصحابه وكلم رجل من أصحاب داود بن على أبا جعفر بكلمة مضة فقام من المجلس وعمل هذا الكتاب، وأخرج منه شيئاً بعد شيء إلى أن أخرج منه قطعة نحو مائة ورقة، وكان ابتدأ الكلام فيه بخطبة من غير إملاء وهو من جيد ما عمله أبو جعفر ومن أحسنه كلاماُ فيه حملاً على اللفظ عليه، ثم قطع ذلك بعد ما مات داود بن علي فلم يحصل في أيدي أصحابه من ذلك إلا ما كتبه منه مقدمو أصحابه ولم ينقل. فممن كتب هذا الكتاب منه أبو إسحاق بن الفضل بن حيان الحلواني. - قال أبو بكر بن كامل: وسمعناه منه عنه - وأبو الطيب الجرجاني وأبو علي بن الحسن بن الحسين بن الصواف، وأبو الفضل العباس بن محمد المحسن وغيرهم، وقال الرؤاسي وكان من مقدمي أصحاب داود بن علي: إن داود قطع كلام ذلك الإنسان الذي كلم أبا جعفر سنة مجازاة له على ما جرى منه على أبي جعفر، ثم تعرض محمد بن داود بن علي للرد على أبي جعفر فيما رده على أبيه فتعسف الكالم على ثلاث مسائل خاصة وأخذ في سب أبي جعفر وهو كتابه المنسوب إلى الرد على أبي جعفر بن جرير.

قال أبو الحسن بن المغلس: قال لي أبو بكر بن داود ابن علي: كان في نفسي مما تكلم به ابن جرير علي أبي، فدخلت يوماً على أبي بكر بن أبي حامد وعنده أبو جعفر فقال له أبو بكر: هذا أبو بكر محمد بن داود بن علي الأصبهاني، فلما رآني أبو جعفر وعرف مكاني رحب بي وأخذ يثني على أبي ويمدحه ويصفني بما قطعني عن كلامه.

ومن كتب أبي جعفر: رسالته المسماة بكتاب رسالة البصير في معالم الدين التي كتب بها إلى أهل طبرستان فيما وقع بينهم فيه من الخلاف في الاسم والمسمى وفي مذاهب أهل البدع وهو نحو ثلاثين ورقة، ومنها أيضاً رسالته المعروفة بكتاب صريح السنة في أوراق، ذكر فيها مذهبه وما يدين به ويعتقده، كتاب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه تكلم في أوله بصحة الأخبار الواردة في غدير خم، ثم تلاه بالفضائل ولم يتم كتاب فضائل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يتم أيضاً، كتاب فضائل العباس وانقطع أيضاً بموته، كتاب في عبارة الرؤيا جمع فيه أحاديث فمات ولم يعمله، وكتاب مختصر مناسك الحج، كتاب مختصر الفرائض، كتاب في الرد على ابن عبد الحكم على مالك ولم يقع إلى أصحابه، كتاب الموجز في الأصول ابتدأ فيه برسالة الأخلاق، ثم قطع ووعد بكتاب الآدر في الأصول ولم يخرج منه شيء وأراد أن يعمل كتاباً في القياس فلم يعمله.

قال أبو القاسم الحسين بن حبيش الوراق: كان قد التمس مني أبو جعفر أن أجمع له كتب الناس في القياس، فجمعت له نيفاً وثلاثين فأقامت عنده مديدة، ثم كان من قطعه للحديث قبل موته بشهور ما كان، فردها علي وفيها علامات له بحمرة قد علم عليها.

قال عبد العزيز بن محمد: وقد وقع إلى كتاب صغير في الرمي بالنشاب منسوب إليه وما علمت أحداً قرأه عليه ولا ضابطاً ضبط عنه لا ينسبه إليه، وأخاف أن يكون منحولاً إليه. وقال عبد العزيز بن محمد الطبري: كان أبو جعفر يذهب في جل مذاهبه إلى ما عليه الجماعة من السلف، وطريق أهل العلم المتمسكين بالسنن، شديداً عليه مخالفتهم ماضياً على مناهجهم لا تأخذ في ذلك ولا في شيء لومة لائم، وكان يذهب إلى مخالفة أهل الاعتزال في جميع ما خالفوا فيه الجماعة من القول بالقدر وخلق القرآن وإبطال رؤية الله في القيامة، وفي قولهم بتخليد أهل الكبائر في النار وإبطال شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي قولهم إن استطاعة الإنسان قبل فعله. وكان أبو جعفر يزعم أن ما في العالم من أفعال العباد فخلق الله، وأن ما من الله به على أهل الإيمان من الاستطاعة التي وفقهم لها غير ما أعطاه لأهل الكفر من الدار والعقل، وأن الله ختم على قلوب من كفر به مجازاة لهم على كفرهم. قلت: وهذا الفصل رديء جداً لأنه إن كان ختم قبل الكفر فقد ظلم، وإن كان بعده فقد ختم على مختوم، وهذا لم يقل به أحد من أهل السنة والجماعة، إنما هو من أقوال الروافض والمعتزلة قبحهم الله. وكان أبو جعفر يعتقد أن ما أخطأه ما كان ليصيبه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن جميع ما في العالم لا يكون إلا بمشيئة الله، وأن الله جل وعز لم يزل موصوفاً بصفاته التي هي عامة وقدرته، وكلامع غير محدث.

قال أبو علي: وهذا الفصل يدل على أن ما لم يكن من الصفات كالعلم والقدرة والكلام أنها محدثة مخلوقة وهذا محض كلام المعتزلة والأشعرية.

قال: وكان أبو جعفر يذهب في الإمامة إلى إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وما عليه أصحاب الحديث في التفصيل، وكان يكفر من خالفه في كل مذهب إذ كانت أدلة العقول تدفع كالقول في القدر، وقول من كفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الروافض والخوارج ولا يقبل أخبارهم ولا شهاداتهم، وذكر ذلك في كتابه في الشهادات وفي الرسالة وفي أول ذيل المذيل، وكان لا يورث من الكفرة منهم، وذكر ذلك في مسند أسامة بن زيد عند كلامه في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يورث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، ولا يتوارث أهل ملتين شتى) وكان لا يورث متكافرين، لا يورث يعقوبياً من النصارى من ملكي، ولا ملكياً من نسطوري، ولا شمعتياً من اليهود سامرياً، ولا عنانياً من الشمعتي، ووافقه على هذا المذهب الأوزاعي، فإذا اختلفت الكنائس والبيع لم يورث بعضهم من بعض.

قال أبو بكر بن كامل: حضرت أبا جعفر حين حضرته الوفاة فسألته أن يجعل كل من عاداه في حل، وكنت سألته ذلك لأجل أبي الحسن بن الحسين الصواف لأني كنت قرأت عليه القرآن فقال: كل من عاداني وتكلم في حل إلا رجلاً رماني ببدعه. وكان الصواف من أصحاب أبي جعفر وكانت فيه سلامة ولم يكن فيه ضبط دون الفصل، فلما أملى أبو جعفر ذيل المذيل ذكر أبا حنيفة وأطراه وقال كان فقيهاً عالماً ورعاً فتكلم الصواف في ذلك الوقت فيه لأجل مدحه لأبي حنيفة وانقطع عنه وبسط لسانه فيه.

قال أبو بكر بن كامل: من سبقك إلى إكفار أهل الأهواء؟ قال فقال: إماماً عدل عبد الرحمن بن مهدي، ويحيى ابن سعيد القطان، وكان إذا عرف من إنسان بدعة أبعده واطرحه، وكان قد قال بعض الشيوخ ببغداد بتكذيب غدير خم وقال: إن بن أبي طالب كان باليمن في الوقت الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير خم، وقال هذا الإنسان في قصيدة مزدوجة فيها بلداً بلداً ومنزلاً منزلاً أبياتاً يلوح فيها إلى معنى حديث غدير خم فقال:

ثم مررنا بـغـدير خـم

 

كم قائل فيه بزور جـم

على علي والنبي الأمي

 

 

وبلغ أبا جعفر ذلك فابتدأ الكلام في فضائل علي بن أبي طالب، وذكر طرق حديث خم فكثر الناس لاستماع ذلك، واجتمع قوم من الروافض ممن بسط لسانه بما لا يصلح في الصحابة رضي الله عنهم فابتدأ بفضائل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم سأله العباسيون في فضائل العباس فابتدأ بخطبة حسنة وأملى بعضه وقطع جميع الإملاء قبل موته وكان يظن أن فيه لجاجة، قال أبو بكر بن كامل: ولم يكن فيه ذلك، وقد كان رجع طبرستان فوجد الرفض قد ظهر، وسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أهلها قد انتشر، فأملى فضائل أبي بكر وعمر حتى خاف أن يجري عليه ما يكرهه فخرج منها من أجل ذلك. وقال عبد العزيز بن محمد الطبري: أخبرني غير واحد من أصحابنا أنه رأى عند أبي جعفر شيخاً مسناً فقام له أبو جعفر وأكرمه ثم قال أبو جعفر: إن هذا الرجل ناله في ماقد صار له علي به الحق الكثير، وذلك أني دخلت إلى طبرستان وقد شاع سب أبي بكر وعمر فيهما، فسألوني أن أملي فضائلهما ففعلت، وكان سلطان البلدة يكره ذلك فاجتمع إليه من عرفه ما أمليته، فوجه إلي فبادر هذا وأرسل إلي من أخبرني أني قد طلبت، فخرجت من وقتي عن البلد ولم يشعر بي وحصل هذا في أيديهم فضرب بسبي ألفاً قال: وكان شديد التوقي والحذر والنزاهة والورع، يدل على ذلك ما أودعه كتاب آداب النفوس المنبه على دينه وفضله، ومع ما كان فيه من الاشتغال بالتصانيف والحديث والإملاء لا بد له مع ذلك من حزبه من القرآن، ويقال: إنه كان يقرأ كل ليلة ربعاً أو حظاً وافراً.

قال عبد لعزيز بن محمد: وكان أبو جعفر ظريفاً في ظاهره، نظيفاً في باطنه، حسن العشرة لمجالسيه، متفقداً لأحوال أصحابه، مهذباً في جميع أحواله، جميل الأدب في مأكله وملبسه، وما يخصه في أحوال نفسه، منبسطاً مع إخوانه، حتى ربما داعبهم أحسن مداعبة، وربما جئ بين يديه بشيء من الفكاهة فيجري في ذلك المعنى ما لا يخرج من العلم والفقه والمسائل حتى يكون كأجد جد وأحسن علم. وكان إذا أهدى إليه مهد هدية مما يمكنه المكافأة عليه قبلها وكافأه، وإن كانت مما لا يمكنه المكافأة عليه ردها واعتذر إلى مهديها. ووجه إليه أبو الهيجاء بن حمدان ثلاثة آلاف دينار، فلما نظر إليها عجب منها ثم قال: لا أقبل ما لا أقدر على المكافأة عنه، ومن أين لي ما أكافئ عن هذا؟ فقيل: ما لهذا مكافأة، إنما أراد التقرب إلى الله عز وجل، فأبى أن يقبله ورده إليه.

وكان يختلف إليه أبو الفرج بن أبي العباس الأصبهاني يقرأ عليه كتبه، فالتمس أبو جعفر حصيراً لصفة له صغيرة، فدخل أبو الفرج الأصفهاني وأخذ مقدار الصفة واستعمل له الحصير متقرباً بذلك له وجاءه به وقد وقع موقعه، فلما خرج دعا ابنه دفع إليه أربعة دنانير فأبى أن يأخذها وأبى أبو جعفر أن يأخذ الحصير إلا بها. وأهدى إليه أبو المحسن المحرر جاره فرخين فأهدى إليه ثوباً.

وقال أبو الطيب القاسم بن أحمد بن الشاعر وسليمان بن الخاقاني: أهدى أبو علي محمد بن عبيد الله الوزير إلى أبي جعفر محمد بن جرير برمان فقبله وفرقه في جيرانه، فلما كان بعد أيام وجه إليه بزنبيل فيه بدرة فيها عشرة آلاف درهم وكتب معها رقعة وسأله أن يقبلها. قال سليمان: قال لي الوزير: إن قبلها وإلا فسلوه أن يفرقها في أصحابه ممن يستحق، فصرت بالبدرة إليه فدفقت الباب وكان يأنس إلي، وكان أبو جعفر إذا دخل منزله بعد المجلس لا يكاد يدخل إليه أحد لتشاغله بالتصنيف إلا في أمر مهم. قال: فعرفته أني جئت برسالة الوزير فأذن لي، فدخلت وأوصلت إليه الرقعة فقال: - يغفر الله لنا وله - اقرأ عليه السلام وقل له: أرددنا إلى الرمان، وامتنع من قبول الدراهم. فقلت له: فرقها في أصحابك على من يحتاج إليها ولا تردها. فقال: هو أعرف بالناس إذا أراد ذلك، وأجاب عن الرقعة وانصرفت.

قال أبو الطيب وسليمان: فلما كان بعد مدة قدم الحاج وكان يأتيه مال ضيعته معهم فربما جئ إليه بالشيء فجعله بضاعة، فدعانا وإذا بين يديه شيء مشدود فقال: امضيا بهذا إلى الوزير واقرءا عليه السلام، وأوصلا إليه هذه الحزمة والرقعة. قالا: فصرنا إليه ولا نعرف ما فيها قرأ الرقعة وإذا فيها إنه قد أنفذ إليه شيء من طبرستان فآثر إنفاذه إليه قال: فتقدم من فتحه فإذا فيه سمور حسن فقوم له ذلك بأربعين ديناراً ولم يجد بداً من قبوله. وكان داعياً إلى امتناعه من الإهداء إليه. قال: وقد كان يمضي إلى الدعوة يدعى إليها وإلى الوليمة يسأل فيها ويكون ذلك يوماً مشهوداً من أجله وشريفاً بحضوره، وكان يخرج مع بعضهم إلى الصحراء فيأكل معهم. قال ابن كامل: قال لي أبو علي محمد بن إدريس الجمال - وكان من وجوه الشهود بمدينة السلام -: حضرنا يوماً مع أبي جعفر الطبري وليمة فجلست معه على مائدة فكان أجمل الجماعة أكلاً وأظرفهم عشرة. قال: وحضر جماعة من الغلمان على رؤوسنا لسقي الماء والخدمة قال: فرأيت بعض الغلمان قد مد عينه إلى بعض ما قدم إلينا فأخذت لقمة فناولتها الغلام. قال: فزبرني أبو جعفر وقال: من أذن لك أن تأكل أو تطعم؟ قال: فأخجلني. قال ابن كامل: ما رأيت أظرف أكلاً من أبي جعفر، كان يدخل يده في الغضاره فيأخذ منها لقمة فإذا عاد بأخرى كسح باللقمة ما التطخ من الغضارة باللقمة الأولى فكان لا يتلطخ من الغضارة إلا جانب واحد، وكان إذا تناول اللقمة ليأكل سمى ووضع يده اليسرى على لحيته ليوقيها من الزهومة فإذا حصلت اللقمة في فيه أزال يده.

قال أبو بكر بن كامل: قال لنا أبو بكر بن مجاهد: كان أبو جعفر ربما خرج إلى الصحراء فنخرج معه فدعانا يوماً أبو الطيب بن المغيرة الثلاج وكان جاراً لأبي جعفر في محلة ببغداد، فجاء بنا إلى قراح باقلي فأكلنا وأكل أبو جعفر أكلاً فيه إفراط، ورأينا من حسن عشرته وانبساطه أمراً عظيماً، ثم انصرفنا فصرت إليه لأعرف خبره من تعبه مما أكله، فإذا بين يديه أدوية وجوارشنات يأكل منها ليدفع بها ضرر ما كان أكله. وكان إذا جلس لا يكاد يسمع له تنخم ولا تبصق ولا يرى له نخامة، وإذا أراد أن يمسح ريقه أخذ ذؤابة منديله ومسح جانبي فيه، قال أبو بكر ابن كامل: ولقد حرصت مراراً أن يستوي لي مثل ما يفعله فيتعذر على اعتياده. قال: وما سمعته قط لاحنا ولا حالفاً بالله عز وجل. قال: وكان لا يأكل الدسم، وإنما يأكل اللحم الأحمر الصرف ولا يطبخه إلا بالزبيب وكان يقول: السمين يلطخ المعدة، وكان يتجنب السمسم والشهد ويقول: إنهما يفسدان المعدة، ويغيران النكهة ويقول إن التمر يلطخ المعدة، ويضعف البصر، ويفسد الأسنان، ويفعل في اللحم كذا وكذا. فقال له أبو علي الصواف: أنا آكله طول عمري ولا أرى من إلا خيراً. فقال أبو جعفر: وما بقي على التمر أن يعمل بك أكثر مما عمل. قال: وكان الصواف قد وقعت أسنانه وضعف بصره، ونحف جسمه وكثر اصفراره. قال: وكان أبو جعفر كبير اللحية حسن القيام على نفسه لا يأكل من الخبز إلا السميذ لأجل غسل القمح، لأن من كذهبه أن الشمس والنار والريح لا تطهر نجساً، وكان ربما أكل من العنب الرازق والتين الوزيري والرطب وربما أخذ له من اللبن الحليب من غنم ترعى فيصفي ويجعل في قدر على النار حتى يذهب منه جزء ثم يثرد في الإناء ويصب عليه اللبن الحار، ويدعه حتى يبرد ويطرح عليه الصعتر وحبة السوداء والزيت، وكان يكثر من الإسفيذباج والزيرباج، وكان ربما أكل بالحصرم في وقته، وكان لا يعدم في الصيف الحيس والريحان واللينوفر، فإذا أكل نام في الخيش في قميص قصير الأكمام مصبوغ بالصندل وماء الورد، ثم يقوم فيصلي الظهر في بيته ويكتب في تصنيفه إلى العصر، ثم يخرج فيصلي العصر ويجلس للناس يقرئ ويقرأ عليه إلى المغرب، ثم يجلس للفقه والدرس بين يديه إلى عشاء الآخرة ثم يدخل منزله، وقد قسم ليله ونهاره في مصلحة نفسه ودينه والخلق كما وفقه الله عز وجل.

وكان أبو الطيب الثلاج قد سأله أن يجعل شربه الماء من عنده، لأنه كان يكره الثلج وكان له كراز يدفئه فيه، وكان أبو القاسم سليمان بن فهد الموصلي يهدي له العسل ويقبله منه، فلما مات وجد عنده إحدى عشرة جرة عسلاً ومنها ما قد نقص منه. وكان قد كتب فردوس الحكمة لعلي بن زين الطبري وأخذه عن علي بن زين مصنفه سماعاً. قال أبو بكر بن كامل: ورأيته عنده في ستة أجزاء وقال أبو العباس بن المغيرة الثلاج: لما اعتل ابني أبو الفرج وكان حسن الأدب ويتفقه على مذهب أبي جعفر. قال لي أبو جعفر تقبل مني ما أصفه لك؟ فقلت نعم، وكنت أتبرك بقوله ورأيه. قال: احلق رأسه واعمل له جواذابة سمينة من رقاق وأكثر دسمها وقدمها إليه وأطعمه منها حتى يمتلئ شبعاً ثم خذ ما بقي فاطرحه على دماغه، واحرص أن ينام على حاله تلك فإنه يصلح إن شاء الله تعالى ففعلت فكان سبب برئه. وأبو الفرج هذا مات قبل أبي جعفر بمديدة، وكان أبو الفرج هذا يتعسف في كلامه. تجاورا يوماً عند أبي جعفر فذكر الطبيخ فقال أبو الفرج: لكني أكلت طباهقة. قال أبو جعفر: وما الطباهقة؟ قال: الطباهقة: ألا ترى أن العرب تعمل الجيم قافاً. قال أبو جعفر: فأنت إذاً أبو الفرق بن الثلاق، فصار يعرف بأبي الفرق بن الثلاق ويمزح معه بذلك.

وكان أبو بكر بن الجواليقي يأخذ لسانه بالإعراب ويكثر الإشارات فيه إلى حد البغض، فأخذ يوماً في ذلك فقال أبو جعفر: أنت بغيض فسمي بغيض الطبري. قال: ورأيت أنا هذا الإنسان يوماً وقد ورد على باب الطاق وكان مهاجراً لبعض الوراقين فوقف علينا فسلم ثم أعتذر من وقوفه بالمكان لأجل الوراق فقال: لولا من ما كنت بالذي، يعني لولا من ههنا ما كنت لأقف على حانوتك، وكان بأبي جعفر ذات الجنب تعتاده وتنتقض عليه، فوجه إليه علي بن عيسى طبيباً فسأل الطبيب أبا جعفر عن حاله، فعرفه حاله وما استعمل وأخذه لعلته وما انتهى إليه في يومه ذاك وما كان رسمه أن يعالج به وما عزم على أخذه من العلاج. فقال له الطبيب: ما عندي فوق ما وصفته لنفسك شيء، والله لو كنت في ملتنا لعددت من الحواريين - وفقك الله -، ثم جاء إلى علي بن عيسى فعرفه ذلك فأعجبه. قلت: أكثر هذه الأخبار عن عبد العزيز بن محمد الطبري من كتاب له أفرده في سيرة أبي جعفر، ومن كتاب لأبي بكر بن كامل في أخباره والله ولي الخير.

قال أبو علي الأهوازي: مات ببغداد في سنة عشر وثلاثمائة، وكذا وجدته بخط أبي سليمان بن يزيد مكتوباً، ورأيت أيضاً من يقول: إنه مات في سنة إحدى عشرة وست عشرة والله أعلم وأحكم، وهذه السنون كلها في أيام المقتدر بالله.