باب الميم - محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم

محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم

أبو عمر الزاهد المطرز الباوردي غلام ثعلب اللغوي، من أئمة اللغة وأكابر أهلها وأحفظهم لها. قال أبو علي ابن أبي علي التنوخي عن أبيه: ومن الرواة الذين لم يرقط أحفظ منهم أبو عمر الزاهد محمد بن عبد الواحد المعروف بغلام ثعلب، أملي من حفظه ثلاثين ألف ورقة في اللغة فيما بلغني، وكان لسعة حفظه يطعن بعض أهل الأدب ولا يوثقونه في علم اللغة، حتى قال عبيد الله بن أبي الفتح: لو طائر طار في الجو لقال أبو عمر الزاهد: حدثنا ثعلب عن ابن الأعرابي ويذكر في معنى ذلك شيئاً، وكان المحدثون يوثقونه.

قال الخطيب البغدادي: رأيت جميع شيوخنا يوثقونه ويصدقونه، وكان يسأل عن الشيء فيجيب عنه، ثم يسأل عنه بعد سنة فيجيب بذلك الجواب. ويروي أن جماعة من أهل بغداد اجتازوا على قنطرة الصراة وتذكروا ما يرمي له من الكذب فقال أحدهم: أنا أصحف له القنطرة وأساله عن معناها فننظر ما يجيب.

فلما دخلوا عليه قال له الرجل: أيها الشيخ، ما الهرطنق عند العرب؟ فقال كذا وكذا، وذكر شيئاً فتضاحك الجماعة وانصرفوا، فلما كان بعد شهر أرسلوا إليه شخصاً آخر فسأله عن الهرطنق فقال: أليس قد سئلت عن هذه المسألة منذ كذا وكذا ثم قال: هو كذا وكذا كما أجاب أولاً، قال القوم: فما ندري من أي الأمرين نعجب، من حفظه إن كان علماً؟ أم من ذكائه إن كان كذباً؟ فإن كان علماً فهو اتساع عجيب، وإن كان كذباً فكيف تناول ذكاؤه المسألة وتذكر الوقت بعد أن مر عليه زمان فأجاب بذلك الجواب بعينه. وحكى أن معز الدولة بن بويه قلد شرطة بغداد غلاماً تركياً من مماليكه اسمه خواجا، فبلغ ذلك أبا عمر الزاهد وكان يملي كتابه اليواقيت في اللغة، فقال للجماعة في مجلس الإملاء: اكتبوا يا قوتة خواجا، الخواج في أصل اللغة: الجوع، ثم فرع هذا باباً وأملاه عليهم، فاستعظموا كذبه وتتبعوه، فقال أبو علي الحاتمي وكان من أصحابه: أخرجنا في أمالي الحامض عن ثعلب عن ابن الأعرابي: الخواج: الجوع. وحكى رئيس الرؤساء أبو القاسم علي بن الحسن عمن حدثه: أن أبا عمر الزاهد كان يؤدب ولد القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، فأملى على الغلام نحواً من ثلاثين مسألة في النحو، وذكر غريبها وختمها ببيتين من الشعر، وحضر أبو بكر بن دريد وأبو بكر بن الأنباري وأبو بكر ابن مقسم العطار المقرئ عند القاضي أبي عمر، فعرض عليهم تلك المسائل فما عرفوا منها شيئاً وأنكروا الشعر، فقال لهم القاضي: ما تقولون فيها؟ فقال ابن الأنباري: أنا مشغول بتصنيف مشكل القرآن ولست أقول شيئاً. وقال ابن مقسم مثل ذلك واعتذر باشتغاله بالقراءات.

وقال ابن دريد: هذه المسائل من موضوعات أبي عمر الزاهد ولا أصل لشيء منها في اللغة وانصرفوا، فبلغ ذلك أبا عمر فاجتمع بالقاضي وسأله إحضار دواوين جماعة من قدماء الشعراء عينهم ففتح القاضي خزانته وأخرج له تلك الدواوين، فلم يزل أبو عمر الزاهد يعمد إلى كل مسألة منها ويخرج لها شاهداً من تلك الدواوين ويعرضه على القاضي حتى استوفى جميع المائل ثم قال: وهذان البيتان أنشدهما ثعلب بحضرة القاضي وكتبهما القاضي بخطه على ظهر الكتاب كما ذكر أبو عمر وانتهت القصة إلى ابن دريد، فلم يذكر أبا عمر الزاهد بلفظه إلى أن مات. وقال رئيس الرؤساء أيضاً: رأيت أشياء كثيرة مما أنكر على أبي عمر ونسب فيها إلى الكذب فوجدتها مدونة في كتب اللغة، وخاصة في الغريب المصنف لأبي عبيد.

وقالب أبو القاسم عبد الواحد بن علي بن رهان الأسدي: لم يتكلم في اللغة أحد من الأولين والآخرين بأحسن من كلام أبي عمر الزاهد، أخذ أبو عمر عن أبي العباس ثعلب وصحبه زماناً طويلاً فنسب إليه وعرف بغلام ثعلب، وأخذ عنه أبو علي الحاتمي الأديب الكاتب اللغوي، وأبو القاسم ابن برهان وغيرهما.

وروى عنه أبو الحسن محمد بن رزقويه وأبو علي ابن شاذان وغيرهما. وقال أبو الحسن المرزباني: كان إبراهيم بن أيوب بن ماسي ينفذ إلى أبي عمر الزاهد كفايته وقتاً فقطع ذلك عنه مدة لعذر ثم أنفذ إليه جملة ما كان انقطع عنه، وكتب إليه رقعة يعتذر بها من تأخير رسمه فرده، وأمر بعض من كان عنده من أصحابه أن يكتب له على ظهر رقعته:

أكرمتنا فملكتنا

 

وتركتنا فأرحتنا

وكانت صناعة أبي عمر الزاهد التطريز فنسب إليها، وكان جماعة من الأشراف والكتاب يحضرون مجلسه للسماع منه وكان قد جمع جزأ في فضائل معاوية، فكان لا يمكن احداً من السماع حتى يبتدئ بقراءة ذلك الجزء.

وعن محمد بن العباس بن الفرات قال: كان مولد أبي عمر الزاهد سنة إحدى وستين ومائتين، وقال الخطيب البغدادي: توفي يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وأربعين وثلاثمائة وذلك في خلافة المطيع لله. ودفن يوم الاثنين في الصفة التي تقابل قبر معروف الكرخي وبينهما عرض الطريق. وعن أبي الحسن ابن رزقويه: توفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة. والصحيح الأول. ولأبي عمر من الكتب: شرح الفصيح لثعلب، وفائت الفصيح جزء لطيف، واليواقيت في اللغة، والمرجان في اللغة، والكتاب الحضري في الكلمات، وغريب الحديث، صنفه على مسند أحمد بن حنبل، كتاب المكنون والمكتوم، وفائت المستحسن، وكتاب ما أنكره الأعراب على أبي عبيدة فيما رواه، والموشح، والسريع، والتفاحة، وفائت الجمهرة، وفائت العين، وتفسير أسماء القراء، والمداخل في اللغة، وحل المداخل، والنوادر، وكتاب العشرات، وكتاب البيوع، وكتاب الشورى، والمستحسن في اللغة، وكتاب القبائل، وكتاب يوم وليلة، وكتاب الساعات وغير ذلك، وأملي في آخر كتابه اليواقيت في اللغة قوله:

لما فرغنا من نظام الجوهـرة

 

إعورت العين وفض الجمهرة

ووقف الفصيح عند القنطره وعن أبي علي الحاتمي: أنه اعتل فتأخر عن مجلس أبي عمر فسأل عنه فقيل: إنه كان عليلاً، فجاءه من الغد يعوده، فاتفق انه كان قد خرج إلى الحمام فكتب على باب داره بالإسفيداج:

وأعجب شيء سمعنا به

 

عليل يعاد فلا يوجـد

قال وهو من شعره. وحدث عباس بن محمد الكلوذاي قال: سمعت أبا عمر الزاهد يقول: ترك قضاء حقوق الإخوان مذلة، وفي قضائها رفعة، فاحمدوا الله تعالى على ذلك، وسارعوا في قضاء حوائجهم مسارهم تكافئوا عليه.
وحكى أبو الفتح عبيد الله بن أحمد النحوي: قال: أنشد أبو العباس اليشكري في مجلس أبي عمر الزاهد يمدحه:

أبو عمر يسمو من العلم مرتقـى

 

يزل مساميه ويردى مطـاولـه

ولو أنني أقسمت ما كنت حانثـاً

 

بأن لم ير الراؤون حبراً يعادلـه

هو الشخت جسماً والسمين فضيلة

 

فأعجب بمهزول سمان فضائلـه

تدفق بحراً بالمـسـائل زاخـراً

 

تغيب عمن لج فيه سـواحـلـه

إذا قلت شارفنا أواخر عـلـمـه

 

تفجر حتى قلت هـذي أوائلـه