باب الميم - محمد بن عبيد الله أبو الفتح

محمد بن عبيد الله أبو الفتح

ابن التعاويذي، ويعرف أيضاً بسبط ابن التعاويذي، وكلاهما نسبة لجده لأمه أبي محمد المبارك بن المبارك بن السراج الجوهري المعروف بابن التعاويذي الزاهد، كان شاعر العراق في وقته، وكان كاتباً بديوان الأقطاع ببغداد، واجتمع به العماد الكاتب الأصفهاني لما كان بالعراق وصحبه مدة، فلما انتقل العماد إلى الشام واتصل بالسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب كان ابن التعاويذي يراسله، فكان بينهما مراسلات ذكر بعضها العماد في الخريدة، وعمي أبو الفتح في آخر عمره سنة تسع وسبعين وخمسمائة، وله في ذلك أشعار كثيرة يندب بها بصره وزمان سبابه. مدح السلطان صلاح الدين بثلاث قصائد أنفذها إليه من بغداد، إحداها عارض بها قصيدة أبي المنصور علي ابن الحسن المعروف بصردر التي أولها:

أكذا يجازي كل قرين؟

فقال ابن التعويذي وأحسن ما شاء:

إن كان دينك في الصبـابة دينـي

 

فقف المطي برملـتـي يبـرين

والثم ثرى لو شارفت بي هضبـه

 

أيدي المطي لثمته بجـفـونـي

وانشد فؤادي في الظباء معرضـاً

 

فبغير غزلان الصريم جنـونـي

ونشيدتي بـين الـخـيام وإنـمـا

 

غالطت عنها بالظبـاء الـعـين

لولا العدا لم أكن عن ألحاظـهـا

 

وقدودها بـجـآذر وغـصـون

لله ما اشتملت عليه قـبـابـهـم

 

يوم النوى من لؤلؤ مـكـنـون

من كل تائهة علـى أتـرابـهـا

 

في الحسن غانية عن التحسـين

خود ترى قمر السمـاء إذا بـدت

 

ما بين سالـفة لـهـا وجـبـين

غادين ما لمعت بروق ثغورهـم

 

إلا استهلت بالدمـوع شـؤونـي

إن تنكروا نفس الصبا فـلأنـهـا

 

مرت بزفرة قلبي المـحـزون

وإذا الركائب في المسير تلفتـت

 

فحنينها لتلفـتـي وحـنـينـي

يا سلم إن ضاعت عهودي عندكم

 

فأنا الذي استودعت غـير أمـين

أو عدت مغبوناً فما أنا في الهوى

 

لكم بأول عـاشـق مـغـبـون

رفقاً فقد عسف الفراق بمطلق ال

 

عبرات في أسر الغرام رهـين

مالي ووصل الغـانـيات أرومة

 

ولقد بخلن علي بـالـمـاعـون

وعلام أشكو والعهود نقضنـهـا

 

بلحاظـهـن إذا لـوين ديونـي

هيهات ما للغيد في حب امـرئ

 

أرب وقد أربي على الخمسـين

ومن البلية أن تكون مطـالـبـي

 

جدوى بخيل أو وفـاء خـئوون

ليت الضنين على المحب بوصلة

 

ألف السماحة عن صلاح الـدين

ملك إذا علـقـت يد بـذمـامـه

 

علقت بحبل في الوفاء مـتـين

قاد الجياد معاقلاً وإن اكـتـفـى

 

بمعاقل مـن رأيه وحـصـون

سهرت جفون عداه خيفة فـاتـح

 

خلقت صوارمه بغير جـفـون

لو أن لليث الهزبر سـطـاه لـم

 

يلجأ إلى غـاب لـه وعـرين

أضحت دمشق وقد حللت بجوها

 

مأوى الضعيف وموئل المسكين

لك عفة في قـدرة وتـواضـع

 

في عزة وصـرامة فـي لـين

وأريتنا بجميل صنعك ما روى ال

 

راوون عن أمم خلت وقـرون

وضمنت أن تحي لنـا أيامـهـم

 

بالمكرمات فكنت خير ضمـين

كاد الأعادي أن يصيبك كـيدهـا

 

لو لم تكدك برأيها الـمـأفـون

تخفي عداوتهـا وراء بـشـاشة

 

فتشف عن نظر لها مشـفـون

دفنت حبائل مكرها فـرددتـهـا

 

تبلى بغيظ صدورها المـدفـون

وعلمت ما أخفوا كأن قلوبـهـم

 

أفضت إليك بسرها المخـزون

فهوت نجوم سعودهم وقضى لهم

 

بالنحس طائر جدك المـيمـون

وأما قصيدته الثانية فهي:

حتام أرضي في هواك وتغضـب

 

وإلى متى تجني علي وتعـتـب؟

ما كان لـي لـولا مـلالـك زلة

 

لما مللت زعمت أنـي مـذنـب

خذ في أفانين الصـدود فـإن لـي

 

قلباً على العـلات لا يتـقـلـب

أتظنني أضمـرت يومـاً سـلـوة

 

هيهات عطفك من سلوى أقـرب

لي فيك نار جوانح لا تنـطـفـي

 

شوقاً وماء مدامـع لا ينـضـب

أنـسـيت أيامـاً لـنـا ولـيالـياً

 

للهو فيها والخـلاعة مـلـعـب

أيام لا الواشي يش بـتـولـهـى

 

بك للرقيب ولا الـعـذول يؤنـب

قد كنت تصفي المـودة راكـبـاً

 

في الحب من أخطاره ما أركـب

واليوم أقنع أن يمر بمضـجـعـي

 

في النوم طيف خيالك المـتـأوب

قالت وريعت من بياض مفارقـي

 

ونحول جسمي بان عنك الأطـيب

إن تنقمي سقمي فخصرك ناحـل

 

أو تنكري شيبي فثغرك أشـنـب

يا طالباً بعد المشـيب غـضـارة

 

من عيشه ذهب الزمان المذهـب

أتروم بعد الأربـعـين تـعـدهـا

 

وصل الدمى؟ هيهات عز المطلب

لولا الهوى العذري يا دار الهـوى

 

ما هاج لي ذكراك برق خـلـب

كلا ولا استسقيت للطلـل الـحـيا

 

وندا صلاح الـدين هـام صـيب

ثم مضى في المدح فأجاد وأحسن، وأما الثالثة فنكتفي بإيراد أبيات من مديحها قال:

فلا يضجرنك ازدحام الوفود

 

عليك وكثرة مـا تـبـذل

فإنك في زمن لـيس فـيه

 

جواد سواك ولا مفـضـل

وقد قل في أهله المنعمون

 

وقد كثر البائس المرمـل

وما فيه غيرك من يستماح

 

وما فيه إلاك مـن يسـأل

وقال من قصيدة يندب بصره:

لقد رمتنـي رمـيت بـالأذى

 

بنكبة قاصـمة الـظـهـر

وأوترت في مقـلة قـلـمـا

 

علمتها باتت عـلـى وتـر

جوهرة كنت ضنينـاً بـهـا

 

نفيسة الـقـيمة والـقـدر

إن أنا لم أبك علـيهـا دمـاً

 

فضلاً عن الدمع فما عذري؟

مالي لا أبكي على فقـدهـا

 

بكاء خنساء على صـخـر

وقال أيضاً في ذلك من أبيات:

حالان مستـنـى الـحـوا

 

دث منها بفـجـيعـتـين

إظلام عـين فـي ضـيا

 

ء من مشيب سـرمـدين

صبح وإمـسـاء مـعـاً

 

لا خلفة فاعجـب لـذين

قد رحت في الدنيا من الس

 

سراء صفر الراحـتـين

أسـوان لا حـــي ولا

 

ميت كهمـزة بـين بـين

وقال أيضاً في ذلك من أبيات:

فهأنا كالمقبور في كسر منزلي

 

سواء صباحي عنده ومسـائي

يرق ويبكي حاسدي لي رحمة

 

وبعداً لها مـن رقة وبـكـاء

وقال في الشيخوخة:

من شبه العمر بالكاس يرسو

 

قذاه ويرسب في أسفـلـه

فإني رأيت القـذى طـافـياً

 

على صفحة الكاس من أوله

وقال في الهرم أيضاً:

وعلو السن قد كس

 

سر بالشيب نشاطي

 

كيف سمـوه عـلـوا

 

وهو أخذ في انحطاط

وقال في ذلك أيضاً:

أسفت وقد نفت عني اللـيالـي

 

جديداً من شباب مـسـتـعـار

وكان يقيم عذري في زمان الص

 

صبا لون الشبيبة فـي عـذاري

ولم أكره بـياض الـشـيب إلا

 

لأن العيب يظهر في النـهـار

وقال أيضاً:

سقاك سار من الوسـمـي هـتـان

 

ولا رقت للغوادي فـيك أجـفـان

يا دار لهوى وإطرابي ومعـهـد أت

 

رابي وللـهـو أوطـار وأوطـان

أعائد لي ماض مـن جـديد هـوى

 

أبليتـه وشـبـاب فـيك فـينـان؟

إذ الرقيب لنـا عـين مـسـاعـدة

 

والكاشحون لنا في الحـب أعـوان

وإذ جميلة توليني الجـمـيل وعـن

 

د الغانيات وراء الحسـن إحـسـان

ولي إلى البان من رمل الحمى طرب

 

فاليوم لا الرمل يصيبني ولا الـبـان

وما عسى يدرك المشتاق من وطـر

 

إذ بكى الربع، والأحباب قد بـانـوا

إن المغاني معـان والـمـنـازل أم

 

وات إذا لم يكن فـيهـن سـكـان

لله كم قـمـرت لـي بـجـوك أق

 

مار وكم غازلتنـي فـيك غـزلان

وليلة بات يجـلـو الـراح مـن يده

 

فيها أغن خفـيف الـروح جـذلان

خال من الهم في خلخـالـه حـرج

 

فقلبـه فـارغ والـقـلـب مـلآن

يذكي الجوى بارد من ريقـه شـبـم

 

ويوقد الظرف طرف منه وسـنـان

إن يمس ريان من ماء الشباب فلـي

 

قلب إلى ريقه المعسـول ظـمـآن

بين السيوف وعـينـيه مـشـاركة

 

من أجله قيل للأغـمـاد أجـفـان

فكيف أصحوا غراماً أو أفيق جـوى

 

وقده ثمـل بـالـتـيه نـشـوان؟

أفديه من غادر بالعهـد غـادرنـي

 

صدوده ودمـوعـي فـيه غـدران

في خـده وثـنـاياه ومـقـلـتــه

 

وفي عذاريه للعـشـاق بـسـتـان

شقائق وأقـاح نـبـتـه خـضـل

 

ونرجس أنا منه الدهـر سـكـران

وكان له راتب في الديوان فلما عمى طلب أن يجعل باسم أولاده، ثم كتب هذه القصيدة ورفعها إلى الخليفة الناصر التمس بها تجديد راتب مدة حياته:

خليفة الله أنت بـالـدين والـد

 

نيا وأمر الإسلام مضـطـلـع

أنـت لـمـا سـنـه الأئمة أع

 

لام الهدى مقتـف ومـتـبـع

قد عدم العدم في زمانك والجـو

 

ر معاً والـخـلاف والـبـدع

فالناس في الشرع والسياسة وال

 

إحسان والعدل كلـهـم شـرع

يا ملكـاً يردع الـحـوادث وال

 

أيام عن ظلمهـا فـتـرتـدع

ومـن لـه أنـعـم مـكـررة

 

لنا مصيف منها ومـرتـبـع

أرضى قد أجدبت وليس لـمـن

 

أجدب يوماً سواك منـتـجـع

ولـي عـيال لا در درهـــم

 

قد أكلوا دهرهم وما شبـعـوا

إذا رأوني ذا ثروة جـلـسـوا

 

حولي ومالوا إلي واجتمـعـوا

وطالما قطعـوا حـبـالـي إع

 

راضاً إذا لم تكن معي قطـع

يمشون حولي شتى كـأنـهـم

 

عقارب كلما سعوا لـسـعـوا

فمنهم الطفل والمراهق والـر

 

ضيع يحبو والكهـل والـيفـع

لا قارح مـنـهـم أؤمـل أن

 

ينـالـنـي خـيرة ولا جـذع

لهم حلوق تفضي إلـى مـعـد

 

تحمل في الأكل فوق ما تسـع

من كل رحب المعاء أجوف نـا

 

ري الحشا لا يمسه الـشـبـع

لا يحسن المضغ فهو يطرح في

 

فيه بـلا كـلـفة ويبـتـلـع

ولي حديث يلهي ويعجب مـن

 

يوسع لي خلقـه ويسـتـمـع

نقلت رسمي جهلاً إلـى ولـد

 

لست بهم ما حييت أنـتـفـع

نظرت في نفعهم وما أنا في اج

 

تلاب نفـع الأولاد مـبـتـدع

وقلت هذا بعدي يكـون لـكـم

 

فما أطاعوا أمري ولا سمعـوا

واختلسوه مني فمـا تـركـوا

 

عيني علـيه ولا يدي تـقـع

فبئس والله ما صنعـت فـأض

 

ررت بنفسي وبئس ما صنعوا

فإن أردتم أمـراً يزول بـه ال

 

خصام من بينـنـا ويرتـفـع

فاستأنفوا لي رسماً أعود علـى

 

ضنك معاشي به فـيتـسـع

وإن زعمتم أني أتـيت بـهـا

 

خديعة فـالـكـريم ينـخـدع

حاشا لرسم الكريم ينسـخ مـن

 

نسخ دواوينكم فـينـقـطـع

فوقعوا لي بما سألـت فـقـد

 

أطمعت نفسي واستحكم الطمع

ولا تطيلوا معي فلسـت ولـو

 

دفعتموني بـالـراح أنـدفـع

وحلفـونـي ألا تـعـود يدي

 

ترفع في نقلـه ولا تـضـع

وكل شعر أبي الفتح غرر وديوانه كبير يدخل في مجلدين، جمعه بنفسه قبل أن يضر وافتتحه بخطبة لطيفة ورتبه على أربعة أبواب، وما حدث من شعره بعد المعي سماه الزيادات، وهي ملحقة ببعض نسخ ديوانه المتداولة، وبعض النسخ خلو منها.

وله كتاب سماه الحجبة والحجاب في مجلد كبير ونسخه قليلة. ولد أبو الفتح بن التعاويذي في اليوم العاشر من رجب سنة تسع عشرة وخمسمائة، وتوفي في ثاني شوال سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ببغداد ودفن في مقبرة باب أبرز.