باب الميم - محمد بن القاسم

محمد بن القاسم

وقيل ابن خلاد بن ياسر بن سليمان الهاشمي بالولاء أبو عبد الله المعروف بأبي العيناء، الأخباري الأديب الشاعر، روي عن ابن عاصم النبيل، وسمع من الأصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد الأنصاري والعتبي غيرهم، وحدث عنه الصولي ابن نجيح وأحمد بن كامل وآخرون، وكان فصيحاً بليغاً من ظرفاء العالم آية في الذكاء واللسن وسرعة الجواب، فمن لطائفه: أنه شكا تأخر أرزاقه إلى عبيد الله بن سليمان فقال له: ألم نكن كتبنا لك إلى ابن المدبر فما فعل في أمرك؟ قال جرني على شوك المطل، وحرمني ثمرة الوعد، فقال: أنت اخترته. فقال: وما علي وقد اختار موسى قومه سبعين رجلاً فما كان منهم رشيد، فأخذتهم الرجفةً، واختار النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي سرح كاتباً فلحق بالمشركين مرتداً، واختار علي بن أبي طالب أبا موسى الأشعري حكماً فحكم عليه. وحجبه بعض الأمراء ثم كتب إليه يعتذر منه فقال: تجبهني مشافهة وتعتذر إلى مكاتبة؟. وقال: أخجلني ابن صغير لعبد الرحمن بن خاقان قلت له: وددت أن لي ابناً مثلك قال: هذا بيدك، قلت: كيف ذلك؟ قال: تحمل أبي على امرأتك فتلد لك ابناً مثلي. وبلغه أن المتوكل قال: لولا أنه ضرير لنادمناه فقال: إن أعفاني من رؤية الأهلة وقراءة نقش الفصوص صلحت للمنادمة. ودخل على المتوكل في قصره المعروف بالجعفري سنة ست وأربعين ومائتين فقال له: ما تقول في دارنا هذه؟ فقال: إن الناس بنوا الدور في الدنيا، وأنت بنيت الدنيا في دارك، فاستحسن كلامه ثم قال له: كيف شربك للخمر؟ قال: أعجز عن قليله، وأفتضح عند كثيره. فقال له: دع هذا عنك ونادمنا فقال: أنا رجل مكفوف وكل من في مجلسك يخدمك وأنا محتاج أن أخدم، ولست آمن من أن تنظر إلي بعين راض وقلبك علي غضبان، أو بعين غضبان وقلبك راض، ومتى لم أميز بين هذين هلكت، فأختار العافية على التعرض للبلاء. فقال: بلغني عنك بذاء في لسانك، فقال: يا أمير المؤمنين، قد مدح الله تعالى وذم فقال: (نعم العبد أنه أواب)، وقال عز وجل: (هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم). وقال الشاعر:

إذا أنا المعروف لم أثن صادقـاً

 

ولم أشتم النكس اللئيم المذممـا

ففيم عرفت الخير والشر باسمه؟

 

وشق لي الله المسامع والفمـا؟

قال: فمن أين أنت؟ قال من البصرة: قال: فما تقول فيها؟ قال: ماؤها أجاج، وحرها عذاب، وتطيب في الوقت الذي تطيب فيه جهنم. قرأت في تاريخ دمشق قال: قرأت على زاهر بن طاهر عن أبي بكر البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت عبد العزيز بن عبد الملك الأموي يقول: سمعت إسماعيل بن محمد النحوي يقول: سمعت أبا العيناء يقول: أنا والحافظ وضعنا حديث فدك وأدخلناه على الشيوخ في بغداد فقبلوه إلا ابن شيبة العلوي قال: لا يشبه آخر هذا الحديث أوله فأبي أن يقبله، وكان أبو العيناء يحدث بهذا بعد ما كان، وكان جد أبي العيناء الأكبر يلقى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأساء المخاطبة بينه وبينه، فدعا عليه بالعمى له ولولده من بعده، فكل من عمي من ولد أبي العيناء فهو صحيح النسب فيهم.

وقال المبرد: إنما صار أبو العيناء أعمى بعد أن نيف على الأربعين، وخرج من البصرة واعتلت عيناه فرمى فيهما بما رمى، والدليل على ذلك قول أبي البصير:

قد كنت خفت يد الزمـا

 

ن عليك إذ ذهب البصر

ولم ادر أنك بالعـمـى

 

تغنى ويفتقر البـشـر

وقال أحمد بن أبي دؤاد لأبي العيناء: ما اشد ما أصابك في ذهاب بصرك؟ قال أبدأ بالسلام، وكنت أحب أن أكون أنا المبتدئ، وأحدث من لا يقبل على حديثي ولو رأيته لم أقبل عليه. فقال له ابن أبي دؤاد: أما من بدأك بالسلام فقد كافأته بجميل بيتك له، ومن أعرض عن حديثك إنما أكسب نفسه من سوء الأدب أكثر مما نالك من سوء الإعراض. وقال محمد بن خلف المرزبان: قال لي أبو العيناء: أتعرف في شعراء المحدثين رشيداً الرياحي؟ قال: فقلت لا. قال: بل هو القائل في:

نسب لابن قاسم ما تـراث

 

فهو للخير صاحب وقرين

أحول الهين والخلائق زين

 

لا احولال بها ولا تلـوين

ليس للمرء شائناً حول العي

 

ن إذا كان فعله لا يشـين

فقلت له: وكنت قبل العمى أحول؟ أمن السقم إلى البلى؟ فقال: هذا أظرف خبر تعرج به الملائكة إلى السماء اليوم. وقال: أيما أصلح، من السقم إلى البلى؟ أو حال العجوز أصلحها الله من القيادة إلى الزناء؟. وحمله بعض الوزراء على دابة فانتظر علفها فلما أبطأ عليه قال: أيها الوزير، هذه الدابة حملتني عليها أو حملتها علي. وقال له المتوكل: هل رأيت طالبياً الوجه؟ قال نعم: رأيت ببغداد - منذ ثلاثين - واحداً قال: نجده كان مؤاجراً وكنت أنت تقود عليه، فقال يا أمير المؤمنين: أو يبلغ هذا من فراغي أدع موالي مع كثرتهم وأقود على الغرباء؟ فقال المتوكل للفتح: أردت أن أشتفي منهم فاشتفي لهم مني. وقال له يوماً: إن سعيد بن عبد الملك يضحك منك فقال: إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون. وقال له ابن ثوابة يوماً: كتمت أنفاس الرجال فقال: حيث كانوا وراء ظهرك. وقال له جناح بن سلمة يوماً: ما ظهورك وقد خرج توقيع أمير المؤمنين في الزنادقة؟ فقال له: أستدفع الله عنك وعن أصهارك. ودخل يوماً على عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وهو يلعب بالشطرنج فقال: في أي الحيزين أنت؟ فقال في حيز الأمير - أيده الله - وغلب عبيد الله فقال: يا أبا العيناء، قد غلبنا وقد أصابك خمسون رطل ثلج فقام ومضى إلى ابن ثوابة وقال: إن الأمير يدعوك، فلما دخلا قال: أيد الله الأمير، قد جئتك بجبل همذان وما سبذان ثلجاً فخذ منه ما شئت، وكان بينه وبين محمد بن مكرم مداعبة فسمع ابن مكرم أبا العيناء يقول في دعائه: يا رب سائلك، فقال يا ابن الفاعلة: ومن ليس سائله؟! وقال له ابن مكرم يوماً يعرض به: كم عدد المكدين بالبصرة؟ فقال له: مثل عدد البغائين ببغداد، وقال له ابن مكرم ذات يوم: هممت أن آمر غلامي أن يدوس بطنك فقال: الذي تخلفه على عيالك إذا ركبت، أو الذي تحمله على ظهرك إذا نزلت؟. وقال ابن مكرم يوماً: مذهبي الجمع بين الصلاتين فقال له: صدقت تجمع بينهما بالترك. وقيل له: ما تقول في محمد بن مكرم والعباس بن رستم؟ فقال: هما الخمر والميسر، إثمهما أكبر من نفعهما؟ وقال ابن مكرم له يوماً: أحسبك لا تصوم شهر رمضان، فقال له ويلك، وتدعني امرأتك الصوم؟ وبات ليلة عند ابن مكرم فجعل ابن مكرم يفسو عليه فقام أبو العيناء وصعد السرير فارتفع إليه فساؤه، فصعد إلى السطح فبلغته رائحته فقال: يابن الفاعلة، ما فساؤك إلا دعوة مظلوم. وقدم إليه ابن مكرم يوماُ جنب شواء فلما جسه قال: ليس هذا جنباً، هذا شريجة قصب.

ومر يوماً على دار عدو له فقال: ما خبر أبي محمد؟ فقالوا كما تحب. قال: فمالي لا أسمع الرنة والصياح؟. ووعده ابن المدبر بدابة فلما طالبه قال: أخاف أن أحملك عليها فتقطعني ولا أراك فقال: عدني أن تضم إليها حماراً لأواظب مقتضياً، ووعده يوماً أ يعطيه بغلاً فلقيه في الطريق فقال: كيف أصبحت يا أبا العيناء؟ فقال: أصبحت بلا بغل فضحك منه وبعث به إليه. وقالت له قينة: هب لي خاتمك وأذكرك به، فقال لها: اذكري أنك طلبته مني ومنعتك. ولما استوزر صاعد عقب إسلامه صار أبو العيناء إلى بابه فقيل له يصلي، فعاد فقيل يصلي فقال: معذور، ولكل جديد لذة. وحضره يوماً ابن مكرم وأخذ يؤذيه ثم قال: الساعة والله أنصرف، فقال أبو العيناء: ما رأيت من يتهدد بالعافية غيرك. وقال له ابن الجماز المغني: هل تذكر سالف معاشرتنا؟ فقال: إذ تغنينا ونحن نستعفيك. ودخل على أبي الصقر إسماعيل بن بلبل الوزير فقال له: ما الذي أخرك عنا يا أبا العيناء؟ فقال: سرق حماري، فقال وكيف سرق؟ قال: لم أكن مع اللص فأخبرك. قال فهلا أتيتنا على غيره؟ قال: قعد بي عن الشراء قلة يساري، وكرهت ذل المكاري ومنه العواري. وقيل له إلى متى تمدح الناس وتهجوهم؟ فقال: ما دام المحسن بحسن والمسيء يسيء، وأعوذ بالله أن أكون كالعقرب تلسب النبي والذمي. ودخل على ابن ثوابة عقب كلام جرى بينه وبين الوزير أبي الصقر بن بلبل وكان ابن ثوابة تطاول على الوزير فقال به أبو العيناء: بلغني ما جرى بينك وبين الوزير، وما منعه من استقصاء الجواب إلا أنه لم يجد فيك عزا فيضعه، ولا مجداً فينقصه، وبعد: فإنه عاف لحمك أن يأكله، واستقل دمك أن يسفكه. فقال ابن ثوابة وما أنت والدخول بيني وبين هؤلاء يا مكدي؟ فقال: لا تنكر على ابن ثمانين قد ذهب بصره وجفاه سلطانه أن يعول على إخوانه فيأخذ من أموالهم، ولكن أشد من هذا من يستنزل الماء من أصلاب الرجال فيستفرغه في جوفه، فيقطع نسلهم ويعظم أوزارهم. فقال ابن ثوابة: ما تساب اثنان إلا غلب ألأمهما. فقال أبو العيناء: وبذا غلبت أبا الصقر بالأمس فأفحمه. وخاصم يوماً علوياً فقال له العلوي: تخاصمني وقد أمرت أن تقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد فقال: لكني أقول الطيبين الطاهرين فتخرج أنت. وقال له ابن الجهم يوماً: يا مخنث. فقال: (وضرب لنا مثلاً ونسى خلقه).

ولما وكل موسى بن عبد الملك الأصبهاني بنجاح بن سلمة ليستأديه ما عليه من الأموال عاقبه موسى فهلك ابن سلمة في المطالبة والعقاب، فلقى بعض الرؤساء أبا العيناء وقال له: ما عندك من خبر نجاح بن سلمة؟ فقال أبو العيناء: فوكزه موسى فقضى عليه. فبلغت كلمته موسى فلقيه وقال له: أبي تولع؟ والله لأقومنك، فقال له أبو العيناء: أتريد أن تقتلني كما قلت نفساً بالأمس؟.

وقال له العباس بن رستم يوماً: أنا أكفر منك فقال له: لأنك تكفر ومعك خفير مثل عبيد الله بن يحيى وابن أبي دؤاد، وأنا أكفر بلا خفارة.

وقال أبو العيناء: مررت يوماً في درب بسر من رأي، فقال لي غلام: يا مولاي، في الدرب حمل سمين والدرب خال، فأمرته أن يأخذه وغطيته بطيلساني وصرت إلى منزلي، فلما كان من الغد جاءتني رقعة من بعض رؤساء ذلك الأرب مكتوب فيها: جعلت فداك ضاع لنا بالأمس حمل فأخبرني صبيان دربنا أنك أنت أخذته فأمر برده متفضلاً، فكتب إليه: يا سبحان الله! ما أعجب هذا الأمر، مشايخ دربنا يزعمون أنك بغاء وأكذبهم أنا ولا أصدقهم، وتصدق أنت صبيان دربك أني أخذت الحمل؟ قال: فسكت ولم يعاودني.

وقال له رجل من بني هاشم: بلغني أنك بغاء فقال: وما أنكرت من ذلك مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مولى القوم منهم)، فقال الهاشمي: إنك دعي فينا. قال بغائي صحيح نسبي فيكم. ولقيه. بعض الكتاب في السحر فقال متعجباً من بكوره: يا أبا عبد الله، أتبكر في مثل هذا الوقت؟ فقال له أبو العيناء: أتشاركني في الفعل وتنفرد بالتعجب؟ ودعا أبو العيناء سائلاً ليعيشه فلم يدع شيئاً إلا أكله فقال له: يا هذا دعوتك رحمه فاتركني رحمة. ووقف عليه رجل من العامة فلما أحس به قال: من هذا؟ قال: رجل من بني آدم، قال أبو العيناء: مرحباً بك - أطال الله بقاءك -، كنت أظن أن هذا النسل قد انقطع.

وكنت إلى بعض الرؤساء وقد وعده بشيء فلم ينجزه: ثقتي بك تمنعني من استطبائك، وعلمي بشغلك يدعوني إلى تذكيرك، ولست آمن - مع استحكام ثقتي بطولك والمعرفة بعلو همتك - اخترام الأجل، فإن الآجال آفات الآمال - فسح الله في أجلك - وبلغك منتهى أملك، والسلام. وغداة ابن مكرم يوماً فقدم إليه عراقاً فلما جسه قال: قدركم هذه طبخت بالشطرنج. وقدم يوماً إليه قدراً فوجدها كثيرة العظام فقال له: هذه أم قبر؟ وأكل عنده يوماً فسقى على المائدة ثلاث شربات باردة ثم استقى فسقى شربة حارة فقال: لعل مزملتكم تعتريها حمى الربع. ودخل يوماً على المتوكل فقدم إليه طعام فغمس أبو العيناء لقمته في خل كان حاضراً وأكلها فتأذى بالحموضة وفطن المتوكل له فجعل يضحك، فقال لا تلمني يا أمير المؤمنين، فقد محت حلاوة الإيمان من قلبي.

وأكل يوماً عند بعض أصحابه طعاماً وغسل يده عشرات مرات فلم تنق فقال: كادت هذه القدر أن تكون إلا نسباً وصهراً.

وقال له رجل من ولد سعيد بن مسلم: إن أبي يبغضك، فقال: يا بني لي أسوة بآل محمد صلى الله عليه وسلم. واعترضه يوماً أحمد بن سعيد فسلم عليه فقال له أبو العيناء: من أنت؟ قال: أنا أحمد بن سعيد. فقال: إني بك لعارف، ولكن عهدي بصوتك يرتفع إلى من أسفل، فما له ينحدر علي من علو؟ قال: لأني راكب فقال: عهدي بك وأنت في طمرين لو أقسمت على الله في رغيف لأعضك بم تكره.

ودق إنسان عليه الباب فقال: من هذا؟ قال أنا، فقال أنا والدق سواء.

وذكر يوماً ولد موسى بن عيسى فقال: كأن أنوفهم قبور نصبت على غير قبلة. وقيل له: لم اتخذت خادمين أسودين؟ قال: أما أسودان، فلئلا أتهم بهما، وأما خادمان فلئلا يتهما بي.

وقال يوماً لابن ثوابة: إذ شهدت على الناس ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون، شهد عليك أنتن عضو فيك.

وقال ابن ثوابة يوماً: أما والله أحبك بكل جوارحي، فقال أبو العيناء: إلا بعضو واحد - أيدك الله - فبلغ ذلك ابن أبي دؤاد فقال: قد وفق في التحديد عليه. سئل يوماً عن مالك بن طوق فقال: لو كان في بني إسرائيل حين نزلت آية البقرة ما ذبحوا غيره.

وقال أبو العيناء: أنا أول من أظهر العقوق بالبصرة قال لي أبي يا بني: إن الله تعالى قرن طاعته بطاعتي فقال: (اشكر لي ولوالديك)، فقلت له: يا أبت، إن الله ائتمنني عليك ولم يأتمنك علي، فقال تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق). وقال له عبيد الله بن سليمان: اعذرني فإني مشغول عنك فقال له: إذا فرغت لم أحتج إليك، يعني إذا عزل. ووضع أبو العيناء كتاباً في ذم أحمد بن الخطيب حكى فيه: أن جماعة من الفضلاء اجتمعوا في مجلس وكل منهم يكره ابن الخصيب لما كان فيه من الفدامة والجهالة والتغفل، فتجاذبوا أطراف الملح في ذمه فقال أحدهم: كان جهله غامراً لعقله، وسفهه قاهراً لحلمه. وقال آخر: لو كان دابة لتقاعس في عنانه، وحرن في ميدانه. وقال آخر: كنت إذا وقع لفظه في سمعي أحسست النقصان في عقلي.

وقال بعض كتابه: كنت أرى قلم ابن الخصيب يكتب بما لا يصيب، ولو نطق بنوك عجب. وقال إبراهيم ابن المدبر: كنت يوماً عنده فقدم الطعام وفيه هليون فأكب عليه فقلت له: أراك راغباً في الهليون فقال: إنه يزيد الباه. وقال آخر: لو غابت عنه العافية لنسيها. وقال أبو العيناء في آخر هذا التصنيف: كان ابن الخصيب إذا ناظر شغب، وربما رفس من ناظره إذا عجز عن الجواب، وخفى عليه الصواب، واستولت عليه البلادة، وعرى كلامه عن الإفادة، وكان إذا دنوت منه غرك، وإن بعدت عنه ضرك، فحياته لا تنفع، وموته لا يضر. وقال أبو الخطيب في تاريخه: أخبرنا الأزهري، أخبرنا محمد بن جعفر التميمي، أخبرنا الصولي عن أبي العيناء قال: سبب تحولي من البصرة أني رأيت غلاماً ينادي عليه بثلاثين ديناراً يساوي ثلاثمائة دينار، فاشتريته وكنت أبني داراً فأعطيته عشرين ديناراً لينفقها على الصناع، فأنفق عشرة واشترى بعشرة ملبوساً له فقلت ما هذا؟ فقال: لا تجعل فإن أرباب المروءات لا يعتبون على غلمانهم هذا، فقلت في نفسي: أنا اشتريت الأصمعي ولم أدر، ثم أردت أن أتزوج امرأة سراً من بنت عمي فاستكتمته ودفعت إليه ديناراً يشتري به حوائج وسمكاً هازباً فاشترى غيره فغاظني فقال: رأيت بقراط يذم الهازبا فقلت: يا ابن الفاعلة، لم أعلم أني اشتريت جالينوس، فضربته عشر مقارع فأخذني وضربني سبعاً وقال: يا مولاي، الأدب ثلاث، وإنما ضربتك سبعاً قصاصاً. قال فرميته فشججته فذهب إلى بنت عمي وقال: الدين النصيحة ومن غشنا فليس منا. إن مولاي قد تزوج واستكتمني فقلت: لا بد من تعريف مولاتي الخبر فضربني وشجني. فمنعتني بنت عمي دخول الدار وحالت ما بيني وبين ما فيها، وما زالت كذلك حتى طلقت المرأة، وسمته بنت عمي الغلام الناصح، فلم يمكني أن أكلمه فقلت: أعتق هذا وأستريح، فلما أعتقته لزمني وقال: الآن وجب حقك علي، ثم إنه أراد الحج فزودته فغاب عشرين يوماً ورجع وقال: قطع الطريق ورأيت حقك قد وجب. ثم أراد الغزو فجهزته، فلما غاب بعت مالي بالبصرة وخرجت منها خوفاً أن يرجع.

ولد أبو العيناء بالأهواز سنة إحدى وتسعين ومائة، وتوفي ببغداد في جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وقيل سنة اثنتين وثماني ومائتين.

وقال ابنه أبو جعفر: مات أبي لعشرة ليال خلون من جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين ومائتين.

ومن شعره:

إن يأخذ الله من عيني نورهمـا

 

ففي لساني وسمعي منهما نور

قلب ذكي وعقل غير ذي خطل

 

وفي فمي صارم كالسيف مأثور

وقال:

حمدت إلهي إذ بلاني بحـبـهـا

 

على حول يغني عن النظر الشذر

نظرت إليها والرقيب يظـنـنـي

 

نظرت إليه فاسترحت من العذر

وقال يهجو أسد بن جوهر:

تعس الزمان لقد أتى بعجـاب

 

ومحا رسوم الظرف والآداب

وافي بكتاب لو انبسطت يدي

 

فيهم رددتم إلى الـكـتـاب

جيل من الأنعـام إلا أنـهـم

 

من بينها خلقوا بـلا أذنـاب

لا يعرفون إذا الجريدة جردت

 

ما بين عياب إلـى عـتـاب

أو ما ترى أسد جوهر قد غدا

 

متشبهاً بأجـلة الـكـتـاب

فإذا أتاه مسائل فـي حـاجة

 

رد الجواب له بغير جـواب

وسمعت من غث الكلام ورثه

 

وقبيحه باللحـن والإعـراب

ثكلتك أمك هبك من بقر الفلا

 

ما كنت تغلط مرة بصواب!

وقال في الوزير أحمد بن الخصيب:

قل للخليفة يا ابن عم محـمـد

 

أشكـل وزيرك إنـه ركـال

قد أحجم المتظلمون مـخـافة

 

منه وقالوا ما نـروم مـحـال

ما دام مطلقة علينـا رجـلـه

 

أو دام للنزق الجهول مـقـال

قد نال من أعراضنا بلسـانـه

 

ولرجله بين الصدور مـجـال

إمنعه من ركل الرجال وإن ترد

 

مالا فعنـد وزيرك الأمـوال

وقال:

ألحمد لله ليس لـي فـرس

 

ولا على باب منزلي حرس

ولا غلام إذا هتـفـت بـه

 

بادر نحوي كأنـه قـبـس

إبني غلامي وزوجتي أمتي

 

ملكنيها الملاك والـعـرس

غنيت باليأس واعتصمت بـه

 

عن كل فرد بوجهه عبـس

فما يرانـي بـبـابـه أبـداً

 

طلق المحيا سمح ولا شرس

وقال:

من كان يكلك درهمين تعلمـت

 

شفتاه أنواع الـكـلام فـقـالا

وتقدم الفصحاء فاستمعـوا لـه

 

ورأيته بن الورى مـخـتـالا

لولا دراهمه التي في كـيسـه

 

لرأيته شـر الـبـرية حـالا

إن الغني إذا تـكـلـم كـاذبـاً

 

قالوا صدقت وما نطقت محالا

وإذا الفقير أصاب قالوا لم يصب

 

وكذبت يا هذا وقلـت ضـلالا

إن الدراهم في المواطن كلها

 

تكسو الرحال مهابة وجلالا

فهي اللسان لمن أراد فصاحة

 

وهي السلاح لمن أراد قتالا

وقال:

تولت بهـجة الـدنـيا

 

فكل جديدها خـلـق

وخان الناس كـلـهـم

 

فما أدري بمـن أثـق

رأيت معالم الـخـيرا

 

ت سدت دونها الطرق

فلا حـسـب ولا أدب

 

ولا دين ولا خـلـق

وقال:

ألم تعلمي يا عمرك اللـه أنـنـي

 

كريم على حين الكـرام قـلـيل

وإني لا أخزي إذ قيل مـقـتـر

 

جواد وأخزي أن يقـال بـخـيل

وإلا يكن عظمي طويلاً فإنـنـي

 

له بالخصال الصالحات وصـول

إذا كنت في القوم الطوال فضلتهم

 

بطولي لهم حتى يقـال طـويل

ولا خير في حسن الجسوم وطولها

 

إذا لم يزن طول الجسوم عقـول

وكائن رأينا من جسـوم طـويلة

 

تمـوت إذا تـحـيهـن أصـول

ولم أر كالمعروف أمـا مـذاقـه

 

فحلو وأما وجهـه فـجـمـيل

وقال:

يا ويح هذي الأرض ما تصنع

 

أكل حي فوقها تـصـرع؟

تزرعهم حتـى إذا مـا أتـوا

 

أشدهم تحصـد مـا تـزرع