باب الميم - محمد بن القاسم

محمد بن القاسم

ابن محمد بن بشار بن الحسين بن بيان بن سماعة بن فروة ابن قطن بن دعامة أبو بكر بن الأنباري، النحوي اللغوي الأديب، كان من أعلم الناس بنحو الكوفيين وأكثرهم حفظاً للغة، وكان صدوقاً زاهداً متواضعاً فاضلاً، أديباً ثقة خيراً من أهل السنة حسن الطريقة، أخذ عن أبي العباس ثعلب وخلق.

وروى عنه الدارقطني وجماعة وكتب عنه وأبودحي، وكان يملي في ناحية من المسجد وأبوه في ناحية أخرى، ومرض فعاده أصحابه فرأوا من انزعاج والده أمراً عظيماً فطيبوا نفسه فقال: كيف لا أنزعج وهو يحفظ جميع ما ترون، وأشار إلى خزانة مملوءة كتباً.

وقال أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي: كان أبو بكر ابن الأنباري يحفظ ثلاثمائة ألف بيت شاهداً في القرآن، وكان يحفظ مائة وعشرين تفسيراً بأسانيدها. وقال له أبو الحسن العروضي: قد أكثر الناس في حفظك فكم تحفظ؟ فقال ثلاثة عشر صندوقاً. قال: وسألته جارية الراضي يوماً عن تعبير رؤيا فقال: أنا حاقن ثم مضى من يومه فحفظ كتاب الكرماني في التعبير وجاء من الغد وقد صار معبراً للرؤيا.

وقال حمزة بن محمد طاهر الدقاق: كان أبو بكر بن الأنباري يملي كتبه المصنفة ومجالسه المشتعلة على الحديث والتفسير والأخبار والأشعار كل ذلك من حفظه. وقال محمد ابن جعفر التميمي. أما أبو بكر بن الأنباري فما رأينا أحفظ منه ولا أغزر منه علماً، وكان يحفظ ثلاثة عشر صندوقاً وهذا مما لم يحفظه أحد قبله ولا بعده.

وقال أبو العباس يونس النحوي: كان أبو بكر آية من آيات الله تعالى في الحفظ، وكان أحفظ الناس للغة والشعر. وحكى أبو الحسن الدارقطني: أنه حضر مجلس إملائه في يوم جمعة فصحف اسماً أورده في إسناد حديث، إما كان حبان فقال حيان. قال الدارقطني: فأعظمت أن يحمل عن مثله في فضله وجلالته وهم وهبت أن أوقفه على ذلك، فلما فرغ من إملائه تقدمت إليه فذكرت له وهمه، وعرفته صواب القول فيه وانصرفت، ثم حضرت الجمعة الثانية مجلسه فقال أبو بكر للمستملي: عرف جماعة الحاضرين أنا صحفنا الاسم الفلاني لما أملينا حديث كذا في الجمعة الماضية، ونبهنا ذلك الشاب على الصواب وهو كذا، وعرف ذلك الشاب أنا رجعنا إلى الأصل فوجدناه كما قال. وقال أحمد بن يوسف الأصبهاني: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله، عمن آخذ علم القرآن؟ فقال عن أبي بكر الأنباري. وقال أبو الحسن العروضي: اجتمعت أنا وأبو بكر بن الأنباري عند الراضي بالله على الطعام وكان الطباخ قد عرف ما يأكل أبو بكر، وشوى له قلية يابسة قال: فأكلنا نحن ألوان الطعام وأطايبه وهو يعالج تلك القلية، ثم فرغنا وأتينا بحلوى فلم يأكل منها فقمنا وملنا إلى الخيش، فنام بين يدي الخيش ونمنا نحن في خيشين ولم يشرب ماء إلى العصر، فلما كان بعد العصر قال: يا غلام، الوظيفة، فجاءه بماء من الجب وترك الماء المزمل بالثلج فغاظني أمره وصحت: يا أمير المؤمنين، فأمر بإحضاري وقال: ما قصتك؟ فأخبرته وقلت: يا أمير المؤمنين، يحتاج هذا إلى أن يحال بينه وبين تدبير نفسه لأنه يقتلها، ولا يحسن عشرتها، فضحك وقال له: في هذا لذة وقد جرت له به عادة وصار آلفاً لذلك فلن يضره، ثم قلت له: يا أبا بكر، لم تفعل هذا بنفسك؟ فقال: أبقي علي حفظي ويحكي أنه كان يأخذ الرطب ويشمه ويقول: أما إنك طيب ولكن أطيب منك ما وهب الله لي من العلم وحفظه.

وحكى أنه مر يوماً بالنخاسين فرأى جارية تعرض حسنة الصورة كاملة الوصف قال: فوقعت في قلبي ثم مضيت إلى دار أمير المؤمنين الراضي بالله فقال: أين كنت إلى الساعة؟ فعرفته الأمر وأخبرته بالجارية فأمر بشرائها وحملت إلى منزلي ولم أعلم، فجئت فوجدتها في المنزل فقلت لها: اعتزلي إلى الاستبراء وكنت أطلب مسألة قد خفيت علي فاشتغل قلبي بالجارية فقلت للخادم: خذها وامض بها إلى النخاس فليس يبلغ قدرها أن يشغل قلبي عن علمي فأخذها الغلام فقالت: دعني حتى أكلمه فقالت لي: أنت رجل لك محل وعقل، فإذا أخرجتني ولم تبن ذنبي لم آمن أن يظن الناس بي ظناً قبيحاً فعرفنيه قبل أن تخرجني، فقلت: مالك عندي ذنب غير أنك شغلتني عن علمي، فقالت هذا سهل عندي قال: فبلغ الراضي ما كان من أمري فقال. لا ينبغي أن يكون العلم في قلب أحداً أحلى منه في قلب هذا الرجل. ولابن الأنباري شعر لطيف فمن ذلك قوله:

إذا زيد شـرا زاد صـبـراً كـأنـمـا

 

هو المسك ما بين الصلاية والـفـهـر

فإن فـتـيت الـمـسـك يزداد طـيبـه

 

على السحق والحر اصطباراً على الضر

ومن أماليه:

فهلا منعتم إذ منعتم كلامها  

 خيالاً يوافيني على النأي هاديا

سقى الله أطلالاً بأكثبه الحمى

وإن كـن قـد أبـدين لـلــنـــاس مـــا بـــيا

منـازل لـو مـرت بـهــن جـــنـــازتـــي

لقـال الـصـدى يا صـاحـبــي انـــزلا بـــيا

وأملي أيضاً:

وبالهضبة البيضاء إن زرت أهلها

 

مهاً مهملات ما عليهـن سـائس

خرجن لخوف الريب من غير ريبة

 

عفائف باغي اللهو منـهـن آئس

ولأبي بكر بن الأنباري من التصانيف: غريب الحديث قيل إنه خمس وأربعون ورقة أملاه من حفظه.

ومما أملاه أيضاً من مصنفاته: كتاب الهاءات نحو ألف ورقة، وشرح الكافي نحو ألف ورقة، وكتاب الأضداد وما ألف في الأضداد أكبر منه، وكتاب المذكر والمؤنث ما صنف أحد أتم منه، ورسالة المشكل رد فيها على ابن قتيبة وأبي حاتم السجستاني، وكتاب المشكل في معاني القرآن بلغ فيه إلى طه وأملاه سنين كثيرة ولم يتمه، وشرح الجاهليات سبعمائة ورقة، وكتاب الوقف والابتداء، والكافي في النحو، والزاهر، وكتاب اللامات، وشرح المفضليات، والأمالي، وأدب الكاتب، والواضح في النحو، والموضع في النحو أيضاً، وشرح شعر النابغة، وشرح شعر الأعشى، وشرح شعر زهير، وشعر الراعي، والمقصور والممدود، وكتاب الألفات، وكتاب الهجاء والمجالسات، وكتاب مسائل ابن شنبوذ، وكتاب الرد على من خالف مصحف عثمان وغير ذلك، وكانت ولادة أبي بكر بن الأنباري يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة إحدى وسبعين ومائة، وتوفي ليلة عيد النحر سنة سبع وعشرين وثلاثمائة.