باب الميم - محمد بن حامد بن عبد الله بن علي

محمد بن حامد بن عبد الله بن علي

أبو عبد الله المعروف بالعماد الكاتب الأصبهاني. ولد بأصبهان يوم الاثنين ثاني جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وخمسمائة ونشأ بها، وقدم بغداد شاباً وانتظم في سلك صلبة المدرسة النظامية فتفقه بها بأبي منصور سعيد بن محمد بن الرزاز، وسمع منه ومن أبي بكر الأشقر وأبي الحسن علي بن عبد السلام وأبي القاسم علي بن الصباغ وأبي منصور بن خيرون وأبي المكارم المبارك بن علي السمرقندي وجماعة. وأجاز له أبو عبد الله الفراوي وأبو القاسم بن الحصين، ثم عاد إلى أصبهان فتفقه بها أيضاً على محمد بن عبد اللطيف الخجندي، وأبي المعالي الوركاني، ثم رجع إلى بغداد واشتغل بصناعة الكتابة فبرع فيها ونبغ، فاتصل بالوزير عون الدين يحيى بن هبيرة فولاه النظر بالبصرة ثم بواسط. ولما توفي الوزير ابن هبيرة وتشتت شمل المنتسبين إليه، أقام العماد مدة ببغداد منكد العيش فانتقل إلى دمشق ووصل إليها في شعبان سنة اثنتين وستين وخمسمائة، فأنزله قاضي القضاة كمال الدين أبو الفضل محمد بن الشهرزوري بالمدرسة النورية الشافعية المنسوبة إلى العماد الآن المعروفة بالعمادية، وإنما نسبت إليه لأن الملك نور الدين ولاه إياها سنة سبع وستين وخمسمائة، وكان العماد له معرفة بنجم الدين أيوب والد السلطان صلاح الدين، عرفه بتكريت حين كان نجم الدين والياً عليها، فلما سمع نجم الدين بوصوله بادر لتبجيله والسلام عليه في منزله. ومدحه العماد إذ ذاك بقصيدة أولها:

يوم الـنـوى لـيس مـن عـمـري بــمـــحـــســـوب

 

ولا الـفـراق إلـى عـيشـــي بـــمـــنـــســـوب

ما اخترت بعدك لكن الزمان أتى

 

 كرها بما ليس يا محبوب محبوبي

أرجو إيابي إليكم غانماً عجلاً

 

فقــد ظـــفـــرت بـــنـــجـــم الـــدين أيوب

موفـق الـرأي مـاضـي الــعـــزم مـــرتـــفـــع

 

علـــى الأعـــــاجـــــــم والأعـــــــاريب

أحـبــك الـــلـــه إذ لازمـــت نـــصـــرتـــه

 

علـى جـبـين بـتـاج الـمـلــك مـــعـــصـــوب

 وهي طويلة فشكره نجم الدين وأحسن إليه وأكرمه، وقدمه على الأعيان وميزه وعرف به ابنه صلاح الدين، وكان القاضي كمال الدين بن الشهرزوري يحضر مجالس العماد ويذاكره بمسائل الخلاف في الفروع، فنوه القاضي بذكر العماد عند السلطان نور الدين، وذكر له تقدمه في العلم والكتابة وأهله لكتابة الإنشاء، فتردد العماد في الدخول فيما لم يتقدم له اشتغال طويل به، مع توفر مواد هذه الصناعة عنده خوفاً من التقصير فيما لم يمارسه، ثم أقدم بعد الإحجام فباشرها وأجاد فيها حتى زاحم القاضي الفاضل بمنكب ضخم، وكان ينشئ الرسائل بالفارسية أيضاً فيجيد فيها إجادته بالعربية، وعلت منزلته عند نور الدين وصار صاحب سره، وفوض إليه تدريس المدرسة العمادية كما تقدم، وولاه الإشراف على ديوان الإنشاء، ولما توفي نور الدين وولى ابنه الملك الصالح إسماعيل أغراه بالعماد جماعة كانوا يحسدونه ويكرهونه، فخاف على نفسه وخرج من دمشق قاصداً بغداد، فوصل إلى الموصل ومرض بها ولما أبل من مرضه، بلغه خروج السلطان صلاح الدين من مصر قاصداً دمشق ليستولي عليها، فعزم على الرجوع إلى الشام وخرج من الموصل سنة سبعين وخمسمائة فوصل إلى دمشق وسار منها إلى حلب، وصلاح الدين يومئذ نازل عليها فلاقاه في حمص وقد استولى على قلعتها، فلزم بابه ومدحه بقصيدة طويلة كان نظمها قبلاً في الشوق إلى دمشق والتأسف عليها فجعل مدح صلاح الدين مخلصها أولها:

أجيران جيرون مالي مـجـير

 

سوى عدلكم فاعدلوا أو فجوروا

ومالي سوى طـيفـكـم زائر

 

فلا تمنعـوه إذا لـم تـزوروا

يعـز عـلـي بـأن الـفـؤاد

 

لديكم أسير وعـنـكـم أسـير

وماكنـت أعـلـم أنـي أعـي

 

ش بعد الأحبة إنـي صـبـور

وفت أدمعي غير أن الـكـرى

 

وقلبي وصبري كـل غـدور

إلى ناس باناس لـي صـبـوة

 

لها الوجد داع وذكرى تـثـير

يزيد اشتياقي وينـمـو كـمـا

 

يزيد يزيد وثــور يثـــور

ومن بردى برد قلبي المشـوق

 

فها أنا من حـره أسـتـجـير

وبالمرج مرجو عيشـي الـذي

 

على ذكره العذب عيشي مرير

فقدتكـم فـفـقـدت الـحـياة

 

ويوم اللقاء يكون الـنـشـور

تطاول سؤلي عند الـقـصـير

 

فعن نيله اليوم باعي قـصـير

وكن لي بريداً ببـاب الـبـريد

 

فأنت بأخبار شوقـي خـبـير

ومنها:

ترى بالسلامة يومـاً يكـون

 

بباب السلامة مني عبـور؟

وإن جوازي بباب الصغـير

 

لعمري من العمر حظ كبير

وماجنة الخلد إلا دمـشـق

 

وفي القلب شوقاً إليها سعير

وجامعها الرحب والقـبة ال

 

منيفة والفلك المـسـتـدير

وفي قبة النسر لـي سـادة

 

بهم للمكارم أفـق مـنـير

وباب الفراديس فردوسـهـا

 

وسكانها أحسن الناس حور

وبرزة فالسهم فالـنـيربـا

 

ن فجنات رقتها فالكفـور

كان الجواسـق مـأهـولة

 

بروج تطلع منها الـبـدور

بنيربها يستـنـير الـفـؤاد

 

ويربو بربوتها لي السرور

ومنها:

وأين تأمـلـت فـلـك يدور

 

وعين تفور ونهـر يمـور

وأين نظـرت نـسـيم يرق

 

وزهر يروق وروض نضير

ومنذ ثـوى نـور دين الإ ل

 

ه لم يبق للدين والشام نـور

وللناس بالملك الناصر الـص

 

لاح ونـصـر وخـــير

هو الشمس أنوارها بالبـلاد

 

ومطلعها سرجه والسـرير

إذ ما سطا أو حبا واحتـبـي

 

فما الليث أو حاتم أو ثـبـير

بيوسـف مـصـر وأيامـه

 

تقر العيون وتشفي الصدور

وقد أطال نفسه في هذه القصيدة وكلها غرر وقد اكتفينا بما أوردناه منها، ثم لزم العماد من ذلك اليوم باب السلطان صلاح الدين ينزل لنزوله، ويرحل لرحيله، ولم يغش مجالسه ملازماً لخدمته حتى قربه واستكتبه واعتمد عليه، فتصدر وزاحم الوزراء وأعيان الدولة، وعلا قدره وطار صيته، وكان إذا انقطع القاضي الفاضل عن الديوان ناب عنه في النظر عليه وألقى إليه السلطان مقاليده، وركن إليه بأسراره فتقدم الأعيان، وأشير إليه بالبنان، وكان بينه وبين القاضي الفاضل مراسلات ومحاورات، فمن ذلك أنه لقي القاضي يوماً وهو راكب على فرس فقال له: سر فلا كبا بك الفرس، فقال له الفاضل: دام علا العماد، وكلا القولين يقرأ عكساً وطرداً واجتمعا يوماً في موكب السلطان وقد ثار الغبار لكثرة الفرسان وتعجب القاضي من ذلك، فأنشد العماد:

أمـا الـغـبـار فـإنـه

 

مما أثارته السـنـابـك

والجو مـنـه مـظـلـم

 

لكن أنارته السـنـابـك

يا دهر لي عبـد الـرح

 

يم فلست أخشى مس نابك

ولما توفي السلطان صلاح الدين رحمه الله اختلت أحوال العماد ولزم بيته، وأقبل على التصنيف والإفادة حتى توفي يوم الاثنين مستهل رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وله من المصنفات: خريدة القصر وجريدة العصر، ذيل به زينة الدهر لأبي المعالي سعد بن علي الحظيري الوراق، جمع العماد في هذا الكتاب تراجم شعراء الشام والعراق ومصر والجزيرة والمغرب وفارس ممن كان بعد المائة الخامسة إلى ما بعد سنة سبعين وخمسمائة، وهو يدخل في عشر مجلدات لطيفة، وله البرق الشامي وهو تاريخ بدأ فيه بذكر نفسه ونشأته ورحلته من العراق إلى الشام، وأخباره مع الملك العادل نور الدين والسلطان صلاح الدين وما جرى له في خدمتهما، وذكر فيه بعض الفتوحات بالشام وأطرافها وهو بضعة مجلدات، وله الفيح القسي في الفتح القدسي في مجلد كبير، وكتاب السيل على الذيل جعله ذيلاً على كتابه خريدة القصر، وله نصرة الفطرة وعصرة القطرة في أخبار الدولة السلجوقية، وله رسأل ة سماها عتبى الزمان وتسمى أيضاً العتبى والعقبى، وكتاب سماه نحلة الرحلة، ذكر فيه اختلال الأحوال وتغير الأمور بعد موت السلطان صلاح الدين، واختلاف أولاده وما وقع من الخلاف بين الأمراء والعمال، وله ديوان رسائل في مجلدات، وديوان شعر في مجلدين، وديوان دويبت صغير وغير ذلك. ومن إنشاء العماد الكاتب الكتاب الذي كتبه عن السلطان صلاح الدين إلى ديوان الخلافة ببغداد مبشراً بفتح بيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة افتتحه بقوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض)، ثم قال: الحمد لله الذي أنجز لعباده الصالحين وعد الاستخلاف، وقهر بأهل التوحيدأهل الشرك والخلاف، وخص سلطان الديوان العزيز بهذه الخلافة، ومكن دينه المرتضى وبدل الأمان بالمخافة، وذخر هذا الفتح الأسني والنصر الأهني للعصر الإمامي النبوي الناصري على يد الخادم أخلص أوليائه، والمختص من الاعتزاز باعتزائه إليه وانتمائه، وهذا الفتح العظيم، والنجح الكريم، قد انقرضت الملوك الماضية والقرون الخالية على مسرة تمنيه، وحبرة ترجيه، ووحشة اليأس من تسنيه، وتقاصرت عنه طوال الهمم، وتخاذلت عن الانتصار له أملاك الأمم، فالحمد لله الذي أعاد القدس إلى القدس، وطهره من الرجس، وحقق من فتحه ما كان في النفس، وبدل بوحشة الكفر فيه من الإسلام الأنس، وجعل عز يومه ماحياً ذل أمس، وأسكنه الفقهاء والعلماء بعد الجهال والضلال من بطرك وقسٍ، وعبدة الصليب ومستقبلي الشمس، وقد أظهر الله على المشركين الضالين جنوده المؤمنين العالمين، وقطع دابر القوم الظالمين والحمد لله رب العالمين. فكأن الله شرف هذه الأمة فقال لهم: اعزموا على اقتناء هذه الفضيلة التي بها فضلكم، وحقق في حقكم امتثال أمره الذي خالفه اليهود في قوله: (ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم). هذا الفتح قد أقدر الله على افتضاضه بالحرب العوان، وجعل ملائكته المسومة له من أعز الأنصار وأظهر الأعوان، وأخرج من بيته المقدس يوم الجمعة أهل يوم الأحد، ومع من كان يقول: (إن الله ثالث ثلاثةً) بمن يقول: (هو الله أحد)، وأعان الله بإنزال الملائكة والروح، وأتى بهذا النصر الممنوح الذي هو فتح الفتوح، وقد تعالى أن يحيط به وصف البليغ نظماً ونثراً، وعبد الله في البيت المقدس سراً وجهراً، وملكت بلاد الأردن وفلسطين غوراً ونجداً، وبراً وبحراً، وملئت إسلاماً وقد كانت ملئت كفراً، وتقاضى الخادم دين الدين الذي غلق رهنه دهراً، والحمد لله وشكراً، حمداً يجد للإسلام كل يوم نصراً، ويزيد وجوه أهله بشرى فتتوجه بشراً، والكتاب طويل ذكر فيه فصولاً عن الوقائع التي تقدمت فتح المقدس فاكتفينا منه بما أوردناه، وللعماد قصيدة من قصائده الطوال ضمنها فتح القدس وفلسطين، ومدح السلطان صلاح الدين، اقتصرنا على ايراد طرف منها قال:

أطيب بأنفاس تطيب لكـم نـفـسـاً

 

وتعتاض من ذكراكم وحشي أنـسـا

وأسأل عنـكـم عـافـيات دوارس

 

غدت بلسان الحال ناطقة خـرسـا

معاهدكم ما بالهـا كـعـهـودكـم

 

وقد كررت من درس آثارها درسا؟

وقد كان في حدسي لكم كل طـارف

 

وما جئتم من هجركم خالف الحدسـا

أرى حدثان الدهر ينسـى حـديثـه

 

وأما حديث الغدر منكم فلا ينـسـى

تزول الجبال الـراسـيات وثـابـت

 

رسيس غرام في فؤادي لكم أرسـى

حسبت حبيبي قاس القـلـب وحـده

 

وقلب الذي يهوى بحمل الهوى أقسى

ومنها:

وإن نهاري صار لـيلاً لـبـعـدكـم

 

فما أبصرت عيني صباحاً ولا شمسـا

بكيت على مستـودعـات خـدوركـم

 

كما قد بكت قدماً على صخرها الخنسا

فلا تحبسوا عني الجمـيل فـإنـنـي

 

جعلت على حبي لكم مهجتي حبـسـا

ومنها:

رأيت صلاح الدين أفضل مـن غـدا

 

وأشرف من أضحى وأكرم من أمسى

وقيل لنا في الأرض سبـعة أبـحـر

 

ولسنا نرى إلا أناملـه الـخـمـسـا

سجيته الحسنى وشيمـتـه الـرضـا

 

وبطشته الكبرى وعزته القـعـسـا

فلا عدمت أيامنا مـنـه مـشـرفـاً

 

ينير بما يولي لـيالـينـا الـدمـسـا

جنودك أملاك السـمـاء وظـنـهـم

 

أعاديك جناً في المعـارك أو إنـسـا

سحبت على الأردن ردنا من القـنـا

 

ردينية ملـداً وخـطـية مـلـسـا

ونعم مجال الخيل حطين لـم تـكـن

 

معاركها للجرد ضرساً ولا دهـسـا

غداة أسود الحرب معتقلـو الـقـنـا

 

أساود تبغي من نحور العدا نـهـسـا

أتوا شكس الأخلاق خشنـاً فـلـينـت

 

حدود الرفاق الخشن أخلاقها الشكسـا

طردتهم في الملتقى وعكـسـتـهـم

 

مجيداً بحكم العزم طردك والعكـسـا

فكيف مكست المشركـين رؤوسـهـم

 

ورأيك في الإحسان أن تطلق المكسـا

كسرتهم إذ صـح عـزمـك فـيهـم

 

ونكستهم من بعد أعلامهـم نـكـسـا

بواقعة رجت بهـا أرض جـيشـهـم

 

ومارت كما بست جبـالـهـم بـسـا

بطون ذئاب البر صارت قـبـورهـم

 

ولم ترض أرض أن تكون لهم رمسا

وحامت على نار المواضي فراشـهـم

 

لتطفا فزادت من خمودهم قـبـسـا

وقد خشعت أصوات أبطالهـا فـمـا

 

يعي السمع إلا من صليل الظبي همسا

تقاد بدأمـاء الـدمـاء مـلـوكـهـم

 

أساري كسفن اليم نيطت بها القلـسـا

سبايا بلاد الـلـه مـمـلـوءة بـهـا

 

وقد عرضت نخساً وقد شريت بخسـا

يطاف بها الأسواق لا راغـب لـهـا

 

لكثرتها كم كثرة توجـب الـوكـسـا

شكا يبساً رأس البـرنـس الـذي بـه

 

فندى حسام حاسـم ذلـك الـيبـسـا

حسا دمه ماضي الـغـرار لـغـدره

 

وماكان لولا غـدره دمـه يحـسـى

ومنها:

ومن قبل فتح القدس كنت مقـدسـاً

 

فلا عدمت أخلافك الطهر والقدسا

نزعت لباس الكفر عن قدس أرضها

 

وألبستها الدين الذي كشف اللبـسـا

ومنها:

جرى بالذي تهوى القضاء وظاهرت

 

ملائكة الرحمن أجنادك الحمـسـا

وكم لبني أيوب عبـد كـعـنـتـرٍ

 

إن ذكروا بالبأس لم يذكروا عبسـا

ومن غزلياته قوله:

أفدي الذي خلبت قلبي لواحظـه

 

وخلفت لذعات الوجد في كبدي

صفات ناظره سقـم بـلا ألـم

 

سكر بلا قدح جرح بـلا قـود

على محياه من نار الصبا شعـل

 

وورد خديه من ماء الجمال ندى

ومن حكمياته:

إقنع ولا تطمع فإن الغنى

 

كماله في عزة النفـس

فإنما ينقص بدر الـدجـا

 

لأخذه الضوء من الشمس

وقال:

وما هذه الأيام إلا صـحـائف

 

يؤرخ فيها ثم يمحى ويمحـق

ولم أر في دهري كدائرة المنى

 

توسعها الآمال والعمر ضـيق