باب الميم - محمد بن نصر بن صغير بن داغر

محمد بن نصر بن صغير بن داغر

ابن محمد بن خالد، من ولد خالد بن الوليد الصحابي الجليل شرف الدين المخزومي المعروف بابن القيسراني الحلبي الأديب الشاعر، كان شاعراً مجيداً وأديباً متفنناً، كان وابن منير الطرابلسي شاعري الشام في عهد الملك العادل نور الدين بن زنكي، ولهما القصائد الطنانة في مدحه، قرأ الأدب على توفيق بن محمد الدمشقي وابن الخياط الشاعر، وسمع بحلب من هاشم بن أحمد الحلبي وأبي طاهر الخطيب، وسمع منه أبو سعيد السمعاني والحافظ بن عساكر وأبو المعالي الحظيري الأديب الشاعر وغيرهم. وكان هو وابن منير يشبهان بجرير والفرزدق للمناقصات والوقائع التي جرت بينهما، واتفق موتهما في سنة واحدة، فقد مات ابن منير في حلب في جمادى الآخرة، وفي ثاني عشر شعبان وصل إلى دمشق ابن القيسراني باستدعاء الأميرمجير الدين فمات بعد وصوله بعشرة أيام، وذلك ليلة الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وكانت ولادته سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، وله شعر كثير مدون أجاد في أكثره، فمن ذلك قصيدة مدح بها الملك العادل نور الدين حين أسر جوسلين واستولى على بلاده بشمالي حلب سنة خمس وأربعين وخمسمائة قال:

دعا ما ادعى من غره النهي والأمر

 

فما الملك إلا ما حباك بـه الأمـر

ومن ثنـت الـدنـيا إلـيه عـنـانـهـا

 

تصرف فيما شاء عـن إذنـه الـدهـر

ومن راهن الأقدار في صهـوة الـعـلا

 

فلن تدرك الشعرى مداه ولا الـشـعـر

ولم لا يلي أسنى المـمـالـك مـالـك

 

زعيم جيوش من طلائعهـا الـنـصـر

ليهن دمشقاً أن كـرسـي مـلـكـهـا

 

حبا منك صدراً ضاق عن همه الصـدر

وأنك نور الـدين مـذ زرت أرضـهـا

 

سمت بك حتى انحط عن نسرها النسـر

خطبت فلم يحـبـك عـنـهـا ولـيهـا

 

وخطب العلا بالسيف ما دونـه سـتـر

جلاها لك الإقبـال حـورية الـسـنـا

 

عليها من الـفـردوس أردية خـضـر

خلوب أكـنـت مـن هـواك مـحـبة

 

نمت فانتمت جهراً وسر الهوى جـهـر

فإن صافحت يمناك من بعد هـجـرهـا

 

فأحلى التلاقي ما تـقـدمـه هـجـر

وهل هي إلا كالحصـان تـمـنـعـت

 

دلالاً وإن عز الحيا وغـلا الـمـهـر؟

ولكن إذا ما قـسـهـا بـصـداقـهـا

 

فليس لـه قـدر ولـيس لـهـا قـدر

هي الثغر أمسى بالكـراديس عـابـسـاً

 

وأصبح عن باب الـفـراديس يفـتـر

على أنـهـا لـو لـم تـجـبـك إنـابة

 

لأرهقها من بأسك الخـوف والـذعـر

فلما وقفت الخـيل نـاقـعة الـصـدى

 

على بردى من فوقها الورق النـضـر

فمن بعد ما أوردتهـا حـومة الـوغـى

 

وأصدرتها والبيض من علـق حـمـر

وجللتهـا نـقـعـاً أضـاع شـياتـهـا

 

فلا شهبها شهب ولا شقرهـا شـقـر

علا النهر لما كاثر الغصـب الـقـنـا

 

مكاثرة في كل نـحـر لـهـا نـحـر

وقد شرقـت أجـرافـه بـدم الـعـدى

 

إلى أن جري العاصي وضحضاحه غمر

صدعـتـهـم صـدع الـزجـاجة لايد

 

لجابرها ما كـل كـسـر لـه جـبـر

فلا ينتحل من بعـدهـا الـفـخـر دائل

 

فمن بارز الإبرنز كان لـه الـفـخـر

ومن بز أنطـاكـية مـن مـلـيكـهـا

 

أطاعته ألحـاظ الـمـؤلـلة الـخـزر

ومنها:

طغى وبغى عدوا علـى غـلـوائه

 

فأوبقه الكفران عدواه والـكـفـر

وألقت بأيديها إلـيك حـصـونـه

 

ولو لم تجيء طوعاً لجاء بها القسر

فسر واملأ الدنيا ضـياء وبـهـجة

 

فبالأفق الداجي إلى ذا السنـاهـر

كأني بهذا الـحـزم لا فـل حـده

 

قصاه بالأقصى وقد قضى الأمـر

وقد أصبح البيت المقدس طـاهـراً

 

وليس سوى جاري الدماء له طهر

وقد أدت البيض الحداد فروضـهـا

 

فلا عهدة في عنق سيف ولا نـذر

وصلت بمعراج النـبـي صـوارم

 

مساجدها شفع وساجـدهـا وتـر

وإن تتيمم ساحل البحـر مـالـكـاً

 

فلا عجب أن يملك الساحل البحـر

سللت سيوفاً أثكلـت كـل بـلـدة

 

بصاحبها حتى تخـوفـك الـبـدر

إذا سار نور الدين في عـزمـاتـه

 

فقولا لليل الفجر قد طلع الفجـر

ولو لم يسر في عسكر من جنـوده

 

لكان له من نفسه عسكر مـجـر

مليك سمت شم المنابر بـاسـمـه

 

كما قد زهت تيهاً به الأنجم الزهر

فيا كعبة مازال في عرصـانـهـا

 

مواسم حج لا يروعهـا الـنـفـر

خلعت على الأيام من حلل الـعـلا

 

ملابس من أعلامها الحمد والشكر

وتوجت ثغر الشام مـنـك جـلالة

 

تمنت لها بغداد لو أنـهـا ثـغـر

فلا تفتخر مصر علينا بـنـيلـهـا

 

فيمناك نيل كل مر بهـا مـصـر

رددت الجهاد الصعب سهلاً سبيلـه

 

ويا طالما أمسى ومسلكـه وعـر

وقال يمدح أبا غانم سعد بن طارق:

خاطر بقلبك إما صبوة الغالي

 

فيما أحب وإما سلوة السأل ي

من كل ذي هيف ترنو لواحظه

 

إليك من لهذم في صدر عسأل

كم ليلة بت من كأس وريقتـه

 

نشوان أمزج سلسأل اً بسلسأل

وبات لا يحتمي عني مراشفـه

 

كأنما ثغره ثغر بـلا والـي

يا مطلقي ما بقي للسقم من جسدى؟

 

وفي يديهم فؤادي رهـن أغـلال

إن شئتم علم حالي بعد فرقـتـكـم

 

فأنصتوا للحمام العاطل الحـالـي

خذوا حديث غرامي عن مطـوقة

 

تتلو ضلالي في فرع من الضـال

لم تتركوا لي سوى نفس أجود بهـا

 

والجود بالنفس غير الجود بالمـال

إذا غضبم وبات الوجد يشفـع لـي

 

إلى رضاكم رأيت السقم أشفى لي

كأن عيني في فضل انسكابهـمـا

 

يدا أبي غانم جـادت بـأفـضـال

غمر يصدك عن تكذيب مـادحـه

 

ماعند كفيه من تـصـديق آمـال

يثرى فلا يستقر الـمـال فـي يده

 

كأنه عذل في سمـع مـخـتـال

ميتم ببنات الـفـكـر وهـي بـه

 

مفتونة فهو لا شاك ولا سـأل ي

يا من يزار فيلقـى عـنـده كـرم

 

بلا حجاب ومجد بالعـلا حـالـي

من كان من عرب أو كان من عجم

 

فأنت يا سعد من يمـن وإقـبـال

وقال يمدح القاضي كمال الدين الشهرزوري:

أيا عاذلي في الحب مالي ولـلـعـذل؟

 

ويا هاجري هل من سبيل إلى الوصل؟

أحين استجارتك الملاحة في الـهـوى؟

 

بخلت كأن الحسن في ذمة الـبـخـل

لي الله من صب تمـلـكـه الـجـوى

 

فأمسى أسيراً رهن حبلٍ من الخـبـل

منيت بمثل البـدر فـي مـسـتـقـره

 

يريك المنال الصعب في المنظر السهل

إذا ما التقينا جال طـرفـي وطـرفـه

 

فانظر من دمع وينظر مـن نـصـل

فيا ويح قلـبـي مـن بـلاه بـحـبـه

 

ومن دل ألحاظي علـى ذلـك الـدل؟

ويا لي من لـيل طـويل كـهـجـره

 

وصبرٍ ضعيفٍ ضعف أجفانه النجـل

ألفت قلاه واستـطـبـت مـطـالـه

 

وأطيب ما جاء الوصال على مـطـل

وقالوا حباك الشيب بالحلم والـنـهـى

 

ومن لي بأيام الـشـيبة والـجـهـل

ليالي أجـتـاب الـلـيالـي صـبـوة

 

ورامي غرامي لا يرى موقع النـبـل

متى ماخلا قلب المحب مـن الـهـوى

 

فيالـك مـن ربـعٍ أقـام بـلا أهـل

ألم تر أن الشـيب بـين جـوانـحـي

 

أقام مقام الفضل عند أبـيالـفـضـل؟

عقيد المعالي بـين كـفـيه والـنـدى

 

مواثيق عـقـد لا تـروع بـالـحـل

ويبسم عن ثـغـرٍ يبـشـر بـالـجـدا

 

كما بشر البرق اليمـانـي بـالـوبـل

مناقبه بـين الـورى مـسـتـفـيضة

 

إذا رويت لم تعتبر صـحة الـنـقـل

وما العلم إلا سـيرة شـهـدت بـهـا

 

أسانـيدهـا أورد فـرع إلـى أصـل

متى ارتجل الإيجاز في صدر دسـتـه

 

رأيت الخطاب الفصل في ذلك الفصل

غريب العلى يفتن في مـكـرمـاتـه

 

إذا ما انقضى شكل بدا بك في شكـل

وجدنا ابن عبد الله أنـدى مـن الـحـيا

 

وأغلى محلاً منه في زمن الـمـحـل

فطوراً يباريه الرجاء علـى الـنـوى

 

وطوراً تناجيه المطالب في الـرحـل

إليك انتضى شـوقـي إلـيك عـزيمة

 

هي النصل تحت الليل أو سمة النصل

على سابح يطوى المدى بـسـنـابـك

 

لمستها فوق الصفا طـاعة الـرمـل

إلى مـاجـد أمـوالـه بـيد الـنـدى

 

فليس عليها من وكيل سـوى الـبـذل

أبا الفضل كم لي في مساعـيك مـدحة

 

ألذ على الأفواه من ضرب الـنـحـل

فريدة لفـظ فـي فـريد مـحـاسـنٍ

 

فتلك بلا مـثـل وأنـت بـلا مـثـل

وقال:

خذوا حيث غرامي عن ضني بدني

 

أغنى لسان الهوى عن دمعي اللسن

وخبروني عن قلبـي ومـالـكـه

 

فربما أشكل المعنى على الفطـن

من ذا الذي ترهب الأبطال صولتـه

 

زيد الفوارس أم سيف بن ذي يزن؟

وما جفون إذا سلت صـوارمـهـا

 

تجاذبت مهج الأفران فـي قـرن

هذا الذي سلب العشاق نـومـهـم

 

أما ترى عينه ملآى من الوسـن؟

تفرق الحسن إلا في محـاسـنـه

 

ويلاه من فتنٍ جمعن فـي فـنـن

أمسى غرامي بذاك القد يوهمنـى

 

أن اعتلاك الصبا شوقاً إلي الغصن

إذا الصبابة عاطتنى مـدامـتـهـا

 

فما فؤادي على سـرٍ بـمـؤتـن

أعيا اللوائم سمـعـي غـير لائمة

 

للشيب ما لت إلى عيني عن أذني

حتى إذا ما تناهى العذل في كلفـي

 

قامت إلي بنات الدهر تعذلـنـي

فما ثنت ناظري عن منظر حسـن

 

حتى أرتني مكاني من أبي الحسن

وقال:

مررنا في ديار بـنـي عـدي

 

يجاذب لوعتي شرق وغـرب

يتيمنى بأرض الـشـام حـب

 

ويعطفنى على بغـداد حـب

غرام طارف وهـوى تـلـيد

 

لكل صبابة في القلب شعـب

فلا وأبـيك مـا هـومـت إلا

 

سرى لهمـا خـيال لا يغـب

فكل هوىً يطالبنى بـقـلـبٍ

 

وهل لي غير هذا القلب قلب؟

وقال:

لا يغرنك من السيف المضـا

 

فالظبى ما نظرت منها الظباء

مرهفات الحد أمضاها المهـا

 

وقضاها للمحبين القـضـاء

حدق علتـهـا صـحـتـهـا

 

ربما كان من الـداء الـدواء

وقال:

تظلمت من أجفانهـن إلـى الـنـوى

 

سفاهاً وهل يعدى البعاد على القرب؟

ولما دنا التوديع قلت لـصـاحـبـي

 

حنانيك سربي عن ملاحظة السـرب

إذا كانت الأحداق نوعاً من الظـبـى

 

فلا شك أنا للحظ ضرب من الضرب

وقال:

رنا بطرفٍ مريض الجفن منكسر

 

فمن رأى جؤذراً يلهو بـآسـاد؟

جفن روى عنه ما يرويه من سقمٍ

 

جسمى فصح به نقلي وإسنـادي

وقال:

إذا ما تأملت القوام مهفـهـفـاً

 

تأملت سيفاً بيز جفنيه مرهـفـاً

وطرفاً تخلى عن سقامي سقامـه

 

فهلا شفى من بات منه على شفا

وقال:

بالسفح من لبـنـان لـي

 

قمر منازله القـلـوب

حملت تحيته الـشـمـا

 

ل فردها عني الجنـوب

فرد الصفات غريبـهـا

 

والحسن في الدنيا غريب

لم أنس لـيلة قـال لـي

 

لما رأى جسـدي يذوب

بالله قـل لـي يافـتـى

 

ماتشتكي؟ قلت الطبيب

وقال:

بين فتور المقلتين والـكـحـل

 

هوى له من كل قلب ما انتحل

توق من فتكاتهـا لـواحـظـاً

 

أما ترى تلك الظبي كيف تسل؟

ويلاه من نـواظـر سـواحـر

 

ما عقل العقل بها إلا اختـبـل

لو لم تكن أجفانـهـا نـوابـلاً

 

لما برت أسهمها من المـقـل

يا رامياً مسمـومة نـصـالـه

 

عيناك للقارة قل لي أم ثعـل؟

كم عاذلٍ خوفني من لحـظـه

 

إليك عني سبق السيف العـذل

وله من قصيدة في الملك العادل نور الدين وأجاد:

حصن بلادك هـيبة لا رهـبة

 

فالدرع من عدد الشجاع الحازم

هيهات يطمع في محلك طامع

 

طال البناء على يمين الهـادم

كلفت همتك السمو فحلـقـت

 

فكأنما هي دعوة في ظـالـم

وأظن أن الناس لمـا لـم يروا

 

عدلاً كذلك أرجفوا بـالـقـائم

وقال أيضاً في قصيدة يهنئه بها باستيلائه على سنجار وأعمال الفرات:

في عسكرٍ يخفي كواكب ليله

 

نقع فيطلعها القنا الخطـار

جرار أذيال العجـاج وراءه

 

وأمامه بل جحفـل جـرار

تدني لك الغايات همتك التـي

 

كبرت كذا همم الملوك كبار

وملكت سنجاراً وما من بلـدة

 

إلا تمنت أنهـا سـنـجـار

وبسطت بالأموال كفا طالمـا

 

طالت به الآمال وهي قصار

وثنى الفرات إلى يديك عنانه

 

والبحر ما اتصلت به الأنهار

ومنها:

تدعو البلاد إليك ألسنة الظبى

 

فتجيبك الأنجـاد والأغـوار

حتى عمدت الدين يا ابن عماده

 

بقناً أسنتها عـلـيه مـنـار

ومنها:

أمضى السلاح على عدوك بغية

بالغدر يطعن في الوغى الغدار

شوقاً إلى ساكني دمشق فلا

عدت رباها مواطر السحب

فاحسم عناد ذوي العناد بجحفل

 كالليل فيه من الصفاح نهار

جند على جرد أمام صدورها

 صدر عليه من اليقين صدار

قد بايع الإخلاص بيعة نصرة

 ولكل هـادي أمة أنـصـار

وإذا الملوك تثاقلت عن غـاية

 فأرادها خفت بـه الأقـدار