باب الميم - محمد بن نصر الله بن الحسين

محمد بن نصر الله بن الحسين

بن عنين الدمشقي الأنصاري، أصله من الكوفة من الخطة المعروفة بمسجد بني النجار، وولد بدمشق يوم الاثنين تاسع شعبان سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وهو من أفاضل العصر لغوي أديب شاعر مجيد، نشأ بدمشق وأخذ عن الحافظ أبي القاسم بن عساكر وغيره وهو يستحضر كتاب الجمهرة لابن دريد، وبرع في الشعر وحل الألغاز، ورحل إلى العراق والجزيرة وخراسان وأذربيجان وخوارزم، ودخل الهند ورحل إلى اليمن ومنها إلى الحجاز ثم إلى مصر ثم رجع إلى دمشق وهو مولع بالهجو، وله في ذلك قصيدة طويلة سماها مقراض الأعراض، ويقال: إنه يخل بالصلاة ويصل ابنة العنقود، ورماه أبو الفتح بن الحاجب بالزندقة والله أعلم بصحة ذلك.

ولما كان بخوارزم حضر يوماً درس الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي المعروف بابن خطيب الري وكان يوماً باردا سقط فيه الثلج، فبينما الشيخ يلقي الدرس إذا سقطت حمامة بالقرب منه ووراءها طير من الجوارح يطاردها، فلما صارت بين الناس خاف الجارح وطار، ولم تقدر الحمامة على النهوض مما لحقها من الخوف والبرد، فرق لها الإمام فخر الدين وأخذها بيده وحنى عليها، فأنشده ابن عنين مرتجلاً:

يا ابن الكرام المطعمين إذا اشتووا

 

في يوم مسغبةٍ وثلجٍ خـاشـف

العاصمين إذا النفوس تطـايرت

 

بين الصوارم والوشيج الراعـف

من نبأ الورقاء أن مـحـلـكـم

 

حرم وأنك ملجـأ لـلـخـائف؟

وفدت عليك وقد تدانى حتفـهـا

 

فحبوتها ببقائها المـسـتـأنـف

لو أنها تحبى بمـال لانـثـنـت

 

من راحتيك بنائل متضـاعـف

جاءت سليمان الزمان بشكـوهـا

 

والموت يلمع من جناحي خاطف

قرم يطاردها فلما استـأمـنـت

 

بجنابه ولى بـقـلـب واجـف

وله من قصيدة كتب بها إلى العادل يشكو الغربة والشوق إلى الشام:

ماذا على طيف الأحبة لـو سـرى

 

وعلهم لو سامحونـي بـالـكـرى

جنحوا إلى قول الوشاة وأعرضـوا

 

والله يعلـم أن ذلـك مـفـتـرى

يا معرضاً عني بـغـير جـنـاية

 

إلا لما نـقـل الـعـذول وزورا

هبني أسأت كما تقول وتـفـتـري

 

وأتيت في حبيك شـيئا مـنـكـرا

ما بعد بعدك والصـدود عـقـوبة

 

يا هاجري ما آن لي أن تغـفـرا؟

لا تجمعن على عتـبـك والـنـوى

 

حسب المحب عقوبة أن يهـجـرا

عبء الصدود أخف من عبء النوى

 

لو كان لي في الحب أن أتـخـيرا

فسقى دمشق ووادييها والـحـمـى

 

متواصل الإرهام منفصم العـرى

حتى ترى وجه الرياض بعـارض

 

أحوى وفود الدوح أبيض أزهـرا

تلك المنازل لا مـلاعـب عـالـج

 

ورمال كاظمة ولاوادي الـقـرى

أرض إذا مرت بها ريح الصـبـا

 

حملت على الأغصان مسكا أذفـرا

فارقتها لا عن رضا وهجـرتـهـا

 

لا عن قلىً ورحلت لا متـخـيرا

أسعى لرزقٍ في البلاد مـشـتـت

 

ومن العجائب أن يكون مـقـتـرا

وأصون وجه مدائحي متـقـنـعـاً

 

وأكف ذيل مطامعي متـسـتـرا

ومنها في الشكوى والدخول إلى المديح:

أشكو إليك نوىً تمادى عمرهـا

 

حتى حسبت اليوم منها أشهـرا

لا عيشي تصفو ولا رسم الهوى

 

يعفو ولا جفني يصافحه الكرى

أضحى عن الربع المريع محولاً

 

وأبيت عن ورد النمير منفـرا

ومن العجائب أن يقيل بظلـكـم

 

كل الورى ونبذت وحدي بالعرا

وأول قصيدته المسماة مقراض الأعراض قوله:

أضالع تنطوى على كرب

 

ومقلة مستهلة الغـرب

شوقاً إلى ساكني دمشق فلا

 

عدت رباها مواطر السحب

ومن ثم أخذ في الهجو بنفس طويل، وتفنن بأساليب السب والثلب فأورد ما لا يحسن إيراده، وقال أيضاً في هجو أبيه:

وجنبي أن أفعـل الـخـير والـد

 

ضئيل إذا ما عد أهل التـنـاسـب

يعيد من الحسنى قريب من الخـنـا

 

وضيع مساعي الخير جم المعايب

إذا رمت أن أسمو صعوداً إلى العلا

 

غدا عرقه نحو الدنـية جـاذبـي

وقال يهجو كحالاً:

لو أن طلاب المطالب عندهم

 

علم بأنك للـعـيون تـعـور

لأتوا إليك بكل مـا أمـلـتـه

 

منهم وكان الجـزاء الأوفـر

ودعوك بالصباغ لمـا أن رأوا

 

يعشي العيون لديك ماء أصفر

وبكفك الميل الذي يحكي عصا

 

موسى وكم عين به تتفـجـر

وقال في العادل سيف الدين بن أيوب:

إن سلطاننا الذي نرتجـيه

 

واسع المال ضيق الإنفاق

هو سيف كما يقال ولكـن

 

قاطع للرسوم والأرزاق

وقال في المحدث الفاضل ابن دحية الكلبي وهو معاصر:

دحية لم يعقب فلم تعـتـزى؟

 

إليه بالـبـهـتـان والإفـك

ما صح عند الناس شيء سوى

 

أنك من كـلـب بـلا شـك

وقال يمدح فخر الدين الرازي وسيرها إليه من نيسابور إلى هراة:

ريح الشمال عساك أن تتحمـلـي

 

شوقي إلى الصدر الإمام الأفضل

وقفي بواديه المقدس وانـظـري

 

نور الهدى متألـقـا لا يأتـلـي

من دوحة فـخـرية عـمــرية

 

طابت مغارس مجدها المتـأثـل

مكية الأنسـاب زاك أصـلـهـا

 

وفروعها فوق السماك الأعـزل

واستمطري جدوى يديه فطالـمـا

 

خلف الحيا في كل عام ممـحـل

نعم سحائبها تعـود كـمـا بـدت

 

لايعرف الوسمي منها والـولـي

بحر تصدر للعـلـوم ومـن رأى

 

بحراً تصدر قبله في محـفـل؟

ومشمر في الله يسحب للـتـقـى

 

والدين سر بال العفاف المسبـل

ماتت به بدع تمادى عـمـرهـا

 

دهراً وكاد ظلامها لا ينجـلـي

فعلا به الإسلام أرفـع هـضـبة

 

ورسا سواه في الحضيض الأسفل

غلط امرؤ بأبي عـلـي قـاسـه

 

هيهات قصر عن مداه أبو علـي

لو أن رسطاً ليس يسمع لـفـظةً

 

من لفظة لعرته هـزة أفـكـل

ويحار بطليموس لـو لاقـاه مـن

 

برهانه في كل شكل مـشـكـل

فلو أنهم جمعوا لـديه تـيقـنـوا

 

أن الفضيلة لـم تـكـن لـلأول

وبه يبيت الحلم معـتـصـمـاً إذا

 

هزت رياح الطيش ركني يذبـل

يعفو عن الذنب العظيم تكـرمـاً

 

ويجود مسـؤولاً وإن لـم يسـأل

أرض الإله بفضـلـه ودفـاعـه

 

عن دينه وأقر عين الـمـرسـل

يأيها المولـى الـذي درجـاتـه

 

ترنو إلى فلك الثوابت مـن عـل

مامنصـب الا وقـدرك فـوقـه

 

فبمجدك السامى يهنى مـاتـلـى

فمتى أراد الله رفعة مـنـصـب

 

أفضى إليك فنال أشرف منـزل

لازال ربعـك لـلـوفـود؟ثـابة

 

أبداً وجودك كف كل مـؤمـل؟

ولما كان بمصر أهدى اليه الشريف أبو الفضل سليمان الكحال خروفاً هزيلاً فكتب إليه يشكره ويداعبه فقال:

أبو الفضل وابن الفضل أنت وأهله

 

فغير بديع أن يكون لك الفـضـل

أتتنـي أياديك الـتـي لاأعـدهـا

 

لكثرتها لاكفر نعمى ولاجـهـل

ولكنني أنبيك عـنـهـا بـطـرفة

 

تروقك ماوافى لها قبلهـا مـثـل

أتاني خروف ماشكـكـت بـأنـه

 

حليف هوىً قد شفه الهجر والعذل

إذا قام في شمس الظهيرة خلـتـه

 

خيالاً سرى في ظلمة ماله ظـل

فناشدته مايشتهـي؟ قـال حـلـبة

 

وقاسمته ماشاقه قال لي الأكـل؟

فاحضرتها خضراء مجاجة الثرى

 

مسلمةً ماحصى أوراقها الفـتـل

فظل يراعيها بـعـين ضـعـيفة

 

وينشدها والدمع في العين منهـل

 

أتت وحياض الموت بيني وبينهـا

 

وجادت بوصل حين لاينفع الوصل

وقال:

ألين لصعب الخلق قاس فؤاده

 

وأعتبه لو يرعوى من أعاتبه

من الترك مياس القوام منعـم

 

له الدر ثغر والزمرد شارب

أسأل عذاراً في أسيل كأنـه

 

عبير على كافور خديه ذائب

وقال:

ومهفهف رقت حواشي حسنه

 

فقلوبنا وجداً عـلـيه رقـاق

لم يكس عارضه السواد وإنما

 

نفضت عليه صباغها الأحداق

وشعره غرر كله وهو الآن حي مقيم في دمشق.