أبو القاسم الأزدي الأندلسي، من ولد روح بن حاتم ابن قبيصة بن المهلب، أديب شاعر مفلق، أشعر المتقدمين والمتأخرين من المغاربة، وهو عندهم كالمتنبي عندأهل المشرق، ولد بإشبيلية ونشأ بها، ونال حظاً واسعاً من علوم الأدب وفنونه، وبرز في الشعر فلم يباره في حلبته مبار، ولم يشق غباره لاحق، وكان متهماً بالفلسفة يسلك في أقواله وأشعاره مسلك المعري، وما زال يغلو في ذلك حتى تعدى الحق وخرج في غلوه إلى ما لا وجه له في التأويل، فأزعجه أهل الأندلس واضطروه إلى الخروج من وطنه، وأشار عليه صاحب إشبيلية بذلك درءا للفتنة، فخرج متنقلاً في البلاد ووصل إلى عدوة المغرب، فلقي بها جوهر القائد مولى المنصور فمدحه، ثم رحل إلى الزاب واتصل بجعفر ابن الأندلسية وأخيه يحيى فانتجع بابهما ولزم رحابهما، فاكرما وفادته واحسنا إليه، ثم بلغ خبره للمعز أبا تميم فاستقدمه واحسن نزله وبالغ في إكرامه، ولما رحل المعز إلى الديار المصرية استأذنه في الرجوع إلى عياله ليأتي بهم ويلحق به، فأذن له فخرج قاصداً بلده، فلما بلغ برقة نزل على أحد أعيانها للراحة فأضافه أيام فخرج ليلة سكران من بيته، فلما أصبح الناس وجدوه ملقي في سانية من سواني البلد مخنوقا بتكة سراويله ولم يعرف سبب ذلك ولا فاعله، وكانت وفاته كذلك يوم الأربعاء سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وقد جاوز الأربعين، ولما بلغ المعز خبر موته آسف عليه آسفا عظيما وقال: هذا الذي كنا نرجو أن نفاخر به شعراء المشرق فلم يقدر لنا ذلك، ومن غرر شعره قصيدته الرائية المشهورة التي مدح بها المعز المذكور وهي:
فتقت لكم ريح الجلاد بعـنـبـر |
|
وأمدكم فلق الصباح المسـفـر |
وجنيتم ثمـر الـوقـائع يانـعـاً |
|
بالنصر من ورق الحديد الأخضر |
وضربتم هام الكمـاة ورعـتـم |
|
بيض الخدور بكل ليث مـخـدر |
أبني العوالي السمهرية والـسـيو |
|
ف المشرفية والعديد الأكـثـر |
من منكم الملك المطـاع كـأنـه |
|
تحت السوابغ تبع في حـمـير |
القائد الخيل العـتـاق شـوازبـاً |
|
خزراً إلى لحظ السنان الأخـزر |
شعث النواصي حشـرةً آذانـهـا |
|
قب الأياطل دامـيات الأنـسـر |
تنبو سنابكهن عن عفر الـثـرى |
|
فيطأن في خد العزيز الأصعـر |
جيش تقدمه الـلـيوث وفـوقـه |
|
كالغيل من قصب الوشيج الأسمر |
وكأنما سلب القشاعـم ريشـهـا |
|
مما يشق من العجـاج الأكـدر |
وكأنما شملـت قـنـاة بـبـارق |
|
متألق أو عارض مثعـنـجـر |
تمتد ألسنة الصـواعـق فـوقـه |
|
عن ظلتي مزن عليه كنـهـور |
ويقوده الليث الغضنفر معلـمـاً |
|
في كل شنن اللبدتين غضنـفـر |
نحر القبول من الدبور وسار في |
|
جيش الهرقل وعزمه الإسكنـدر |
في فتية صدأ الدروع عبـيرهـم |
|
وخلوقهم علق النجيع الأحـمـر |
لايأكل السرحان شلو طعينـهـم |
|
مما عليه من القنا المتـكـسـر |
اأنسوا بهجران الأنيس كـأنـهـم |
|
في عبقري البيد جنة عـبـقـر |
ومنها:
قوم يبيت على الحشايا غيرهم |
|
ومبيتهم فوق الجياد الضمـر |
وتظل تسبح في الدماء قبابهـم |
|
فكأنهن سفائن فـي أبـحـر |
من كل أهرت كالح ذي لبـدة |
|
أوكل أبيض واضح ذي مغفر |
ومنها في ذكر الممدوح:
لي منهم سـيف إذا جـردتـه |
|
يوما ضربت به رقاب الأعصر |
وفتكت بالزمن المدجج فتكة ال |
|
براض يوم هجائه ابن المنـذر |
صعب إذا نوب الزمان استصعبت |
|
متنمر للحادث الـمـتـنـمـر |
فإذا عفا لم تلق غير مـمـلـك |
|
وإذا سطا لم تلق غير مظـفـر |
وكفاك من حب السماحة أنـهـا |
|
منه بموضع مقلة من محـجـر |
فغمامه من رحمة وعـراصـه |
|
من جبنة ويمينه مـن كـوثـر |
وقال أيضاً يمدحه من قصيدة:
ألؤلؤ دمع هذا الغيث أم نقـط |
|
ما كان أحسنه لو كان يلتقـط |
بين السحاب وبين الريح ملحمة |
|
معامع وظبي في الجو تخترط |
كأنه ساخط يرضى على عجل |
|
فما يدوم رضا منه ولا سخط |
أهدى الربيع إلينا روضة آنفـاً |
|
كما تنفس عن كافوره السفط |
ومنها:
والريح تبعث أنفـاسـاً مـعـطـرة |
|
مثل العبير بماء الـورد يخـتـلـط |
كأنما هي أنفاس الـمـعـز سـرت |
|
لاشبهة للـنـدى فـيهـا ولاغـلـط |
تالله لو كانـت الأنـواء تـشـبـهـه |
|
مامر بؤس على الـدنـيا ولاقـنـط |
أبدى الزمان لنا من نور طـلـعـتـه |
|
عن دولة ما بها وهـن ولا سـقـط |
حتى تسلط منه في الـورى مـلـك |
|
رنت بدولته الأمـلاك والـسـلـط |
إمام عدل وفـي فـي كـل نـاحـية |
|
كما قضوا في الإمام العدل واشترطوا |
قد بان بالفضل عن ماض ومؤتـنـف |
|
كالعقد عن طرفيه يفضل الـوسـط |
وقال يمدح جعفر بن الأندلسية:
أليتنا إذ أرسـلـت وارداً وحـفـاً |
|
وبتنا نرى الجوزاء في أذنها شنفا |
ولم يبق إرعاش الـمـدام لـه يداً |
|
ولم يبق أعنات التثني له عطـفـا |
تريف ثناه السكـر إلا ارتـجـاجةً |
|
إذا كل عنها الخصر حملها الردفا |
يقولون: حقف فـوقـه خـيزرانة |
|
أما يعرفون الخيزرانه والحقفـا؟ |
جعلنا حشايانـا ثـياب مـدامـنـا |
|
وقدت لنا الظلماء من جلدها لحفا |
فمن كبد تدنى إلى كـبـد هـوىً |
|
ومن شفة توحي إلى شفة رشفـا |
بعيشك نبه كـأسـه وجـفـونـه |
|
فقد نبه الإبريق من بعدما أغفـى |
وقد فكت الظلماء بعض قـيودهـا |
|
وقد قام جيش الليل للفجر واصطفا |
ومنها في المديح:
كان لواء الشمس غرة جـعـفـر |
|
رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا |
وقد جاشت الدأماء بيضاً صوارمـاً |
|
ومارنةً سمراً وفضفاضةً زغـفـا |
وجاءت عتاق الخيل تجري كأنمـا |
|
تخط له أقلام آذانهـا صـحـفـا |
هنالك تلقى جعفراً غير جـعـفـر |
|
وقد بدلت يمناه من رفقها عنـفـا |
وكائن تراه في الكريهة جـاعـلاً |
|
عزيمته برقاً وصولته خـطـفـا |
وكائن تراه في المقـامة جـاعـلاً |
|
مشاهده فصلاً وخطبتـه حـرفـا |
وقد بلغ في هذه القصيدة غايات الإجادة ولولا طولها لاوردتها بتمامها، وقال يصف سيفا ليحي آخي جعفر المذكور:
لله أي شـهـاب حـرب واقـد |
|
صحب ابن ذي يزن وأدرك تبعا |
في كف يحيى منه أبيض مرهف |
|
عرف المعز بآله فـتـشـيعـا |
وجرى الفرند بصفحتيه كأنـمـا |
|
ذكر القتيل بكر بلاء فـدمـعـا |
يكفيك مما شئت في الهيجـاء أن |
|
تلقى العدا فتسل منه أصبـعـا |
وقال أيضاً يمدح المعز وهي أول قصيدة مدحه بها حين قدم عليه بالقيروان:
هل من أعقه عـالـج يبـرين |
|
أم منهما بقر الحدوج العـين؟ |
ولمن ليال ماذممنا عـهـدهـا |
|
مذ كن إلا أنـهـن شـجـون |
المشرقات كأنـهـن كـواكـب |
|
والناعمات كأنهـن غـصـون |
بيض وما ضحك الصباح وإنهـا |
|
بالمسك من طرر الحسان لجون |
أدمى لها المرجان صفحة خـده |
|
وبكى عليها اللؤلؤ المكـنـون |
ومنها:
لأعطشن الروض بعدهـم ولا |
|
يرويه لي دمع عليه هتـون |
أ أعير لحظ العين بهجة منظر |
|
وأخونهم؟ إني إذاً لـخـئون |
لا الجو جو مشرق ولو اكتسى |
|
زهراً ولا الماء المعين معين |
ومنها:
عهدي بذاك الجو وهـو أسـنة |
|
وكناس ذاك الخشف وهو عرين |
هل يدنيني منه أجـرد سـابـح |
|
مرح وجائلة النسـوع أمـون |
ومنها في المديح:
ألروض ما قد قيل فـي أيامـه |
|
لاأنـه ورد ولانــســـرين |
والمسك ماكتم الثرى من ذكـره |
|
لاأن كــل قـــراره دارين |
ملك كما حدثـت عـنـه رأفة |
|
فالخمر ماء والـشـراسة لـين |
شيم لوان اليم أعطى رفـقـهـا |
|
لم يلتقم ذا النون فـيه الـنـون |
تالله لاظلل الغمـام مـعـاقـل |
|
تأتي عليه ولا النجوم حصـون |
ووراء حق ابن الرسول ضراغم |
|
أسد وشهباء السـلاح مـتـون |
ألطالبان المشرفـية والـقـنـا |
|
والمدركان النصر والتمـكـين |
وصواهل لا الهضب يوم مغارها |
|
هضب ولا البيد الحزون حزون |
جنب الحمام ومالـهـن قـوادم |
|
وعلا الربود وما لهـن وكـون |
فكأنما تحت الغبـار كـواكـب |
|
وكأنما تحت الـحـديد دجـون |
عرفت بساعة سبقهـا لاأنـهـا |
|
علقت بها يوم الرهـان عـيون |
أجل علم البرق فـيهـا أنـهـا |
|
مرت بجانحتيه وهي ظـنـون |
ومنها:
انظرإلى الدنيا بإشفـاق فـقـد |
|
أرخصت هذا العلق وهو ثمين |
لو يستطيع البحر لاستعدى علي |
|
جدوى يديك وإنه لـقـمـين |
امدده أو فاصفح له عن نيلـه |
|
فلقد تخوف أن يقال ضـنـين |
واعذر أمية أن تغص بريقهـا |
|
فالمهل ما سقيته والغسـلـين |
ألقت بأيدي الذل ملقى عمرها |
|
بالثوب إذ فغرت له صـفـين |
وهذه القصيدة أطول قصائده وهي نيف وثمانون بيتاً اقتصرنا منها على ما أوردناه. وقال أيضاً في مجلس أنس حضره عند الأميرجعفر:
وثلاثة لم تجتمع في مجلـس |
|
إلا لمثـلـك والأريب أريب |
الورد في رامشنة من نرجس |
|
والياسمين وكلهن عـجـيب |
فاصفر ذا واحمر ذا وابيض ذا |
|
فاتت بدائع أمرهن عـجـيب |
فكأن هذا عـاشـق وكـأن ذا |
|
ك معشق وكأن ذاك رقـيب |
وقال أيضاً في شمعة:
لقد أشبهتني شمعة في صبابتي |
|
وفي هول ماألقى وما أتوقع |
نحول وحزن في فناء ووحدة |
|
وتسهيد عين واصفرار وأدمع |
وقال أيضاً:
وليل بت أسقـاهـا سـلافـاً |
|
معتقةً كلـون الـجـلـنـار |
كأن حبابـهـا خـرزات در |
|
علت ذهباً بأقداح النـضـار |
بكف مقرطق يزهى بـردف |
|
يضيق بحملـه وسـع الإزار |
أقمت لشربها عبثاً وعـنـدي |
|
بنات اللهو تعبث بالـعـقـار |
ونجم الليل يركض في الدياجي |
|
كأن الصبح يطلبـه بـثـار |